رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 17 مايو 2006
العدد 1728

في العيادة
د. لطيفة النجار
Latifa64@emirates.net.ae

لم أكن أتصور ما الذي يمكن أن أسمعه في تلك العيادة الخاصة التي دخلتها برفقة والدي الذي كان يعاني من وعكة صحية، فقد اعتدت دائما على مرافقة والدي إلى تلك العيادة، وكانت في الغالب خالية يسودها الهدوء لأننا نصل إليها في آخر الوقت تقريبا حتى لا نضطر إلى الانتظار الذي يضيق به والدي ذرعا· لكنني في ذلك المساء حين دخلت سمعت صوت امرأة تتحدث في الهاتف بانفعال شديد، كانت تجلس في القسم المخصص للنساء خلف ساتر خشبي فلم تنتبه إلى دخولنا، ولم يتح لها انفعالها - كما قدرت- أن تشعر بوجودنا أو على الأقل أن تعرف هويتنا· وعلى الرغم من أنها  كانت تتحدث الإنجليزية بطلاقة فإن لكنتها دلت على أنها ليست لغتها الأم·

جلست مع أبي أستمع إلى ما تقول من دون قصد فقد كان صوتها يملأ المكان، ويبدو واضحا من حديثها أنها مستاءة جدا وغاضبة، ولكنّ كل ذلك لم يبرر عندي ما كانت تقوله، كانت تردد جملة "أنا أكره هذا البلد" بين كل عبارة وأخرى، الأمر الذي جعلني أستفز وأشعر بالغضب لكنني مع ذلك تمالكت نفسي خاصة أنني برفقة والدي الذي لم أود أن ينزعج لأي سبب من الأسباب· لقد كانت تلك السيدة تصف هذا البلد وأهله بصفات تظهر بوضوح نظرة الاستعلاء التي تنطلق منها وتبرز مشاعر الاحتقار لنا وشعورها بغياب أي قيمة طيبة من الممكن أن تجدها في هذه الأرض أو في أهلها· كان الكلام يسّاقط على مسامعي كبركان متدفق من مشاعر الكره والامتعاض والاحتقار، وحين كانت تصمت لتستمع إلى الطرف الآخر كنت أحاول أن أنفض عن مسامعي ما علق بها من كلمات مؤذية جارحة، لكنها ما تلبث أن تعود بكلام أشد وقعا وإيلاما·

هكذا تنظر إلينا هذه السيدة التي لا أدري ما الذي جاءت تفعله في بلدنا: إنها ترانا مجموعة كبيرة من المتخلفين الذين يحاولون عبثا أن يلصقوا بهم صفة التحضر والتقدم، إننا في نظرها نضع قناع الحضارة على وجوهنا ولكن ذلك لا يخفي حقيقتنا "البدوية المتخلفة"، فنحن لا نملك من صفات التحضر وشروطه إلا القشور التي نظن - بجهلنا- أنها تمثل حقيقة التحضر وجوهره· أما هذه الحقيقة وذلك الجوهر فليس في مقدورنا أن نمتلكهما مهما نفعل لأن فهمنا يقصر عن إدراكهما ولأننا بطبيعتنا لا نستطيع أن نتحرر من قيود تخلفنا لننجز شروط العمل المتحضر الحقيقي· إنّ هذه السيدة ترانا رجالا ونساء مجرد أكياس بيضاء وسوداء خاوية بلا مضمون· وهي تستطيع أن تصفنا بكلمتين فقط: أغنياء أغبياء· وهي ترى أنّ الناس هنا يمارسون الكذب والادعاء في كل شيء، فالناس هنا يكذبون على أنفسهم وعلى الآخرين، ولذلك فهي تكره هذا البلد ولن تطيل البقاء فيه، وستغادره قريبا، لأنها لن تهدر إمكاناتها ومواهبها في هذا المكان·

جاءت الممرضة فطلبت منا الدخول عند الطبيب، وحين خرجنا لم أسمع صوتها· وأنا حتى هذه اللحظة لا أعرف من هذه السيدة الملفعة بالحضارة العنصرية التي تنطلق من نظرية الطبائع الثابتة التي نكاد نصدقها من كثرة دورانها في أدبياتنا· جلست في السيارة أتأمل الناس على جانبي الطريق بعضهم جالس إلى طاولات المطاعم والمقاهي التي تتوزع على جانبي الطريق، وبعضهم يسير، وبعضهم يحاول عبور الشارع ·· أجناس من البشر كثيرة مختلفة· كنت أتساءل: ترى كيف ينظر إلينا هؤلاء البشر؟ وكيف يحكمون علينا؟ أيعقل أن يكونوا جميعا كتلك السيدة التي سمعت؟ أخذ كلامها يعاد على مسامعي مرة تلو مرة وأنا أنظر من زجاج النافذة أتأمل هذا التنوع الكبير في البشر في شارع واحد من شوارع دبي· 

إنني الآن وأنا أكتب هذه الكلمات أتأمل كلامها تأملا بعيدا عن الانفعال العاطفي الذي كان مسيطرا عليّ حين كنت أسمعها؛ فقد هدأت نفسي وأصبحت قادرة على أنْ أعيد النظر في ما بقي في الذاكرة مما قالته· وبعيدا عن الاستعلاء والعنصرية التي كانت تنضح في كلامها، بعيدا عن الافتراء والكذب الذي كان يقطر من عباراتها·· بعيدا عن جنسها ولونها وبلدها·· أقول: كم غيرها ينظر إلينا هذه النظرة؟ ولماذا يستلب الآخر - في الغالب- إلى هذه النظرة التي ترى التخلف متأصلا فينا، وترى التحضر أصلا لا ينفك عنه هو؟ وهل نظرية الطبائع الثابتة التي يسوّق لها كثيرون في الغرب والشرق هي التي تتحكم في نظرة هؤلاء وتجعلهم لا يرون في الإنسان العربي "وهنا الخليجي على وجه الخصوص" إلا علامة فارقة على التخلف والغباء وانعدام القدرة على الإنجاز الحقيقي الذي يقدر جوهر الأشياء لا مظهرها المادي الخارجي؟

كثيرا ما يطالبنا هذا الآخر - على تعدده واختلافه - بأن نتحلى بصفات التحضر القائمة على تقبل الآخر ومحاورته محاورة تقوم على احترام ما عنده وإن كان مخالفا لقناعاتنا ومبادئنا والأصول التي تنبني عليها ثقافتنا·· نحن اليوم مطالبون بقوة بالانفتاح على الآخر، وبالتبسم في وجهه تبسما قد لا يعكس ما في الدواخل من عدم الرضا أو عدم الاقتناع، لكننا لكي نثبت تحضرنا علينا أن نرى في هذا الآخر كل الجوانب الطيبة·  وإن كان الأمر عصيا في كثير من الأحيان فإن السبب يعود إلى قصر نظرنا فعلينا لكي نرى الحقيقة أن نضع نظارات ترينا إياها وتجعل تبسمنا حينها ابتساما نابعا من قلب تكشفت له الحقائق فرأى الجمال الذي لا يملك المرء أمامه إلا الرضا والقبول· أما هذا الآخر فليس مطالبا أن يعاملنا بالمثل، وهو حين يفعل فإن ذلك كرم أخلاق منه وتفضل علينا نحن الذين أدنى منه درجة وأقل منه قيمة·

ومع أنّ هذه المسائل لا يصح فيها التعميم، ولا يستقيم فيها إطلاق الأحكام إلا أنّ ما عبرت عنه تلك السيدة في ذلك المساء لا يمكن أن يكون شاذا لا يقاس عليه، ولا يمكن لنا أن نخدع أنفسنا وفي نفوس كثير منا يقبع إحساس ممضّ بالمرارة يتعاظم كل يوم وهو يرى كيف ينظر إلينا كثير من هؤلاء· والسؤال الذي يبقى في النفس حائرا ينشد إجابة صادقة جريئة متجردة للحق وحده: هل نعفي أنفسنا من مسؤولية ما يراه الآخرون فينا؟ سؤال لا يحتاج إلى إجابة ولكنه يدعو إلى تأمل عميق عميق·

جامعة الإمارات

�����
   
�������   ������ �����
القراءة للأطفال ..خطوة نحو تثقيفهم
حين يميل الميزان
منذورون للموت
الترجمة.. سلاح القوة المفقود
نشد على يديْ هذا الرجل
إشكالية الثقافة
لبنات المجتمع الكبير
اللغة العربية في جامعاتنا العربية
الانتزاع من الوطن
مفهوم التحضر.. تساؤلات ومواقف
كوب لبن أم كوب ماء؟
فراشة مبتسمة تطير من شدة الفرح
هوية في مهب الريح
عن الرياضة والثقافة
العمى والبصيرة
مَنْ لأبنائنا؟
ثوابت ومتغيّرات
الطب.. وأخلاقيات المهنة
تحولات المكان
  Next Page

"قوم تعاونوا ماذلوا":
د.عبدالمحسن يوسف جمال
ذاكرة الحكيم!!:
سعاد المعجل
"ما نبيها غير الخمس":
محمد بو شهري
"بالبرتقالي":
المحامي بسام عبدالرحمن العسعوسي
إيران والمناورة الخطرة:
الدكتور محمد سلمان العبودي
التحدي الجديد: الجائزة!!:
د. محمد عبدالله المطوع
أمريكيون أكثر من الأمريكان:
د. محمد حسين اليوسفي
البرهان على خطأ(إسرائيل):
عبدالله عيسى الموسوي
غربة العقل:
د. فاطمة البريكي
شكرا لمنع الكتب المتطرفة:
عبدالخالق ملا جمعة
في العيادة:
د. لطيفة النجار
أحلام لا تعرف حدوداً(1):
يوسف الكندري
الدماء الوطنية الجديدة:
فيصل عبدالله عبدالنبي
رجل أعرفه جيدا:
على محمود خاجه