من المعروف أننا نعايش ظاهرة غريبة ومدمّرة وسلبية إلى أبعد الحدود، ألا وهي تجاهل الإنجازات العلمية الكبرى التي شكلت إحدى الأدوات الخطيرة والحاسمة في التقدم والتطور الحضاري الذي بدأته البشرية منذ مئة عام·
ذلك التجاهل لا يمارسه العامة من الناس بل وحتى النخبة من العلماء والمفكرين والباحثين·
وأنا شخصيا سألت عددا من المختصين والأكاديميين على سبيل ما إذا كانوا على علم واهتمام بهذا الإنجاز العلمي الجبّار أي ألـ "برنكيبيا ما تيمانيكا" لكن بعضهم التزم الصمت وآخرين ضحكوا وقالوا بأنهم لم يسمعوا بهذا الاسم من قبل!!
إن الاحتفال بتلك المنجزات واستلهامها وتطبيقها في حياتنا يعني تطوير قدراتنا ورفد وإثراء إمكاناتنا وتقدم مجتمعاتنا وتكريم من أنجزوها وتحفيز جيلنا الحاضر والمستقبلي على الانخراط في البحث العلمي والعمل التطبيقي لا التنظير والافتراض والجدل العقيم·
كتاب برنكيبيا ما تيمانيكا أو "مبادئ الرياضيات" أخرجه الفيلسوف البريطاني برتراندرسل وهوايتهد بين العامين 1910-1913 حيث استطاع أن يبسط قضايا المنطق والرياضيات برمتها في صورة رمزية دقيقة تخضع للبرهان الرياضي المحكم·
وحاول لويس المنطقي الأمريكي أن يضع بديلا عن برنكيبيا لكنه فشل·
ثم أقدم هلبرت على المحاولة نفسها لكن فكرته لم تتحقق في إحلال النسق الأكسيوماتيكي مكان نسق برنكيبيا·
وأقدم نسق منطقي متكامل عرفته البشرية على الإطلاق واستخدم فكرة النسق الاستنباطي هو نسق المنطق الأرسطي الذي أودعه أرسطو نظرية القياس وقد لا تكون الرياضيات أقدم وأعرق تاريخا من المنطق لأن الرياضيات لم تنتظم في نسق استنباطي محكم إلا في عصر إقليدس (300 ق·م) وإقليدس عالم الرياضيات المشهور واضع أول نسق هندسي "Geometrical System" ولقد انصهرت في أبعاد نسق برنكيبيا محاولات ليبنتز المنطقية التي قام بها لتأليف لغة عالمية وجبرية بول ونسقية بيانو وخريجة المنطقية الرياضية وأصبحنا لا نعرف في برنكيبيا ما يتمانيكا على ما يقول رسل: أين ينتهي المنطق؟ وأين تبدأ الرياضيات؟ وبذلك أعلن الرياضي والمنطقي في خاتمة مسيرته في القرن العشرين عن ولادة المنطق الرياضي Mathematical logic كعلم جديد يعني بأغراض المنطق والرياضيات معا، ويجمعهما في نسق استنباطي متجانس بعد أن افترقا لأكثر من عشرين قرنا من الزمان·
ومنذ صدور برنكيبيا أو بمعنى أدق منذ كتابات رسل الأولى في المنطق الرياضي مع مطلع القرن العشرين لم يتحقق لرياضي كان أو منطقي أن أخرج نسقا علميا دقيقا يجمع بين المنطق والرياضيات البحتة بالصورة التي نجدها في البرنكيبيا وقصارى ماذهب إليه المناطقة والرياضيون بعض التعديلات والاقترحات الخاصة بالتطوير الذي يمكن أن يخضع له المنطق الرياضي كما يبدو بوضوح في أعمال كثير من الكتاب أمثال هلبرت ولويس ولوكاشيفتش وكواين وغيرهم·
hamid@taleea.com |