لا شك أن من أهم ما يعطل التطور الفكري والثقافي في البلدان العربية هو تقديس الأشياء والأشخاص والأفكار دون محاولة لتقييم هذه الأمور على ضوء الأداء والتجارب والأحداث· ولقد تذكرت هذه الحقيقة عندما جرى الجدل حول مسألة دعوة شركات النفط العالمية لتطوير حقول النفط الشمالية في الكويت وزيادة إنتاجها، لقد توقف الكثير من أعضاء مجلس الأمة وغيرهم من منتسبي المجتمع السياسي في البلاد أمام هذه المسألة وكأننا بصدد ارتكاب إثم عظيم· وفي حين يبرر بعض أعضاء مجلس الأمة لبلدان منتجة قريبة، أو بعيدة، الإقدام على دعوة تلك الشركات النفطية، ليس فقط لتقديم الدعم الإنتاجي والعون الفني بل للمشاركة في استثمار الحقول النفطية، يجدون أنه من الكفر أن تدعو الكويت هذه الشركات للاستفادة منها فنيا وفي تحديث طرق الإنتاج والتمكن من تحقيق الكفاءة في أداء الحقول والآبار·· ويبرر هؤلاء، وغيرهم، بأن تلك الدول تتعامل مع الشركات في العقول الصعبة والهامشية ولا تسمح بدور في الحقول الرئيسية والكبيرة·· من جانب آخر يدعون بأن تلك الدول ربما احتاجت للشركات وأموالها نظرا لمحدودية إمكاناتها المالية بينما الكويت تملك الأموال الطائلة·
لكن مثل هذه الطروحات لا تجد توافقا مع واقع الأمور حيث إن العاملين في القطاع النفطي يؤكدون بأن الكويت لم تطور خبراتها الوطنية وأساليب الإنتاج منذ تأميم النفط في عام 1975·· كما أنهم يؤكدون بأن النفط المنتج ليس صافيا حيث يحوي ما نسبته 15 في المئة من الماء، يضاف الى ذلك أن نسبة الكبريت ترتفع باستمرار مما يخلق معضلات ومشاكل مع المستوردين·· وبالنسبة لحقوق الشمال يعتقد المختصون بأن إمكانية الإنتاج بنسب معقولة غير ميسرة باستخدام القدرات الوطنية ولا بد من الاستعانة بجهات أكثر كفاءة لرفع الإنتاج·· أليست تلك العوامل تشكل مبررات مقنعة لدعوة الشركات النفطية العملاقة لمساعدتنا على تطوير الإنتاج واستغلالها بشكل لا يحدث الضرر للحقول؟ أما ما يتعلق بالخبرة الوطنية، فإنه من دون مجاملة، لا بد من الاقرار بأن تدهورا مهماً حدث في الإدارة الفنية والأوضاع الإدارية نتيجة لتسييس القطاع النفطي وإخضاعه لمجاملات وبحيث شبع بالتعيينات غير المبنية على أسس موضوعية وفنية·· ويمكن أن يزعم المرء أن الأوضاع الخطرة في المصافي ومراكز التجمع التي برزت في السنوات الأخيرة لا بد أن تنسب لتدهور الرقابة والكفاءة في المؤسسات والشركات ذات الصلة·
ولقد تعاقب على القطاع النفطي عدد من الوزراء لا بد أنهم خضعوا وتعرضوا لضغوط رهيبة من أعضاء مجلس الأمة وغيرهم جعلهم يقبلون بتعيين أعداد كبيرة من البشر في الشركات التابعة لمؤسسة النفط الكويتية دون تمحيص، في الكثير من الأحيان، بقدرات هؤلاء العاملين ومدى فائدتهم وصلتهم للعمل في هذا القطاع الحيوي· ولذلك أصبح القطاع النفطي مثل أي مؤسسة حكومية تخضع، في ظل قيم الاقتصاد الريعي، لمبادئ التنفيع وتفضيل الولاء على الكفاءة، هل كان يمكن أن يحدث ذلك لو أن القطاع النفطي ظل مدارا من قبل القطاع الخاص ومن جهات ذات خبرة؟ من الطبيعي أن نحرص على أن تكون الثروة النفطية، وهي ثروتنا الطبيعية، مصانة ومملوكة ملكية عامة ينص على ذلك دستور الكويت، لكن طريقة استثمار واستغلال هذه يمكن أن تقنن على أسس اقتصادية مفيدة تمكن من تحقيق أفضل العوائد والحفاظ على الثروة لأمد طويل، وفي ذات الوقت الاستفادة من الخبرات المتجددة لبناء عمالة وطنية متمكنة في هذا القطاع·
وإذا عدنا لموضوع تقديس الأوضاع القائمة فإننا يجب أن نحاول أن نستفيد من تجارب الآخرين، وخصوصا الدول المنتجة ومنها دول الأوبك الأخرى·· هناك الآن تجارب في فنزويلا والجزائر لإحياء التعاون مع الشركات النفطية بشروط تحفظ الحقوق الوطنية وليست كما كانت الاتفاقات التي وقعت في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين·· يجب الاعتراف بأن الأوضاع السياسية والاقتصادية في الدول المنتجة، وفي العالم أجمع، قد تغيرت ولم يعد بالإمكان القبول باتفاقيات مجحفة، وفي الدول ذات النظم الديمقراطية هناك شفافية ورقابة لا تسمح باستغلال البلدان المنتجة مثل ما كان يحدث قبل عقود قليلة·· لكن في ذات الوقت في ظل النظام الاقتصادي العالمي الجديد، وانفتاح اقتصاديات معظم الدول، لا يمكن وضع شروط وقوانين تعجيزية تشكل عوامل طرد للمستثمرين والشركات وتحرم هذه البلدان من أموال وتكنولوجيا يمكن أن يساعدا على تطوير اقتصاديات الدول النامية·· وماتزال الدول النامية، وخصوصا البلدان العربية، تعاني من عدم قدرتها على جذب الأموال لأسباب هيكلية وسياسية·
وعندما نعود إلى الكويت فإننا نجد أنفسنا الأكثر تشددا في التعامل مع الاستثمار الأجنبي، والأكثر رغبة في التقييد بما يضعنا ضمن قائمة الدول الأقل جاذبية للاستثمار·· من الصحيح أن هناك محاولات لإنجاز مشروع قانون الاستثمار الأجنبي المباشر، وقد أنجزت قراءة المداولة للقانون خلال الأسابيع الماضية، لكن من يقرأ نصوص المواد يجد أن هناك عراقيل بيروقراطية كثيرة كان المستثمرون الكويتيون يشكون منها عندما تعاملوا مع بلدان عربية قبل ثلاثة عقود، وقد تمكنت هذه الدول من إزالة تلك العراقيل·· أما فيما يتعلق بالجانب المتعلق بالنفط، فقد يكون مجلس الأمة قد وفق في وضع أسس للتعامل القانوني بشأن الاستثمار الأجنبي في قطاع النفط، ولكن ربما ظلت هناك معوقات قد لا تجذب الكثير من الشركات·· ومهما يكن من أمر فإن التعامل مع مسائل الاستثمار على أسس اقتصادية وفنية أجدى من إخضاعها لهواجس السياسة والأيديولوجيا·· إن ما يجب وضعه بعين الاعتبار هو كيف توظف الانفتاح الاقتصادي لدفع البلاد نحو المزيد من الإنتاجية ورفع الكفاءة وخلق قدرات مهنية وعملية متقدمة· |