رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 13 سبتمبر 2006
العدد 1742

أين ذهب الشارع الإماراتي؟
ياسر سعيد حارب
yasser.hareb@gmail.com

بعد أن فجع العالم العربي برحيل الأديب نجيب محفوظ الحاصل على جائزة نوبل للأداب، تتبع كثير منا سيرة هذا الراحل الذي أثرى المكتبة العربية بمؤلفاته وأضاف إلى المكتبة العالمية اسماً عربياً يقارع في إبداعاته أسماءً عالمية لامعة· ومن خلال قراءتي لسيرة حياته شدني أنه كان من عادته الجلوس في أحد مقاهي حي الحسين الشعبي في القاهرة ليراقب المارة ويستمع إلى قصص وحكايات الشارع المصري المليء بالمواقف المضحكة أحياناً والمبكية في أحيانٍ كثيرة·

ولكثرة احتكاكه بشخصيات الشارع ومعايشته ليومياتها والاستماع إلى شكواها أو حتى الاكتفاء بمراقبتها استطاع نجيب محفوظ أن يصور حياة المصري البسيطة في بعض جوانبها والمعقدة في جوانبها الأخرى بأسلوب قصصي فريد يحوي في طياته شخصيات بطولية عشقها الشارع العربي وتندر بها· أضف إلى ذلك أنه استطاع أن يسقط معظم قصصه ورواياته على الحياة السياسية التي قضى فيها ردحاً طويلاً من الزمن مكنه من تناولها بأسلوب عجز كثيرون من معاصريه عن مجاراته فيه·

والزائر إلى مصر يجد لها رونقاً خاصاً يميزها عن باقي دول العالم، حيث أنه للوهلة الأولى التي تلتقي فيها عيناه مع نيلها الأزرق يشعر برهبة هذا العملاق الذي بالرغم من تنكيله بالمصريين عبر العصور إلا أنهم يعشقونه كعشقهم للأهرام وأبي الهول وقناة السويس وصحراء سيناء·

وأذكر مرة عندما كنت على عتبات سن المراهقة أنني كنت مع أسرتي في زيارة لأحد أصدقاء أبي الذي كان يسكن في بيت يطل على إحدى تفرعات النيل أو كما يسميها المصريون "الترعة" وبعد أن تناولنا العشاء في الشرفة المطلة على الترعة بدأ الحديث عن الكتابة والتأليف، ولا أنسى مقولة مضيفنا عندما قال لوالدي بلهجة مصرية أصيلة: "تسدأ يا دكتور سعيد، تمانية وخمسين كتاب كتبتهم في المكان ده وعلى الترعة دي" فنظرت إليه باستغراب وأنا أحاول أن أربط بين الترعة وبين الكتابة والتأليف لأفهم طبيعة العلاقة بينهما!

واليوم وبعد أن دخلت عالم الكتابة أيقنت أن تلك الترعة كانت تشكل بالنسبة له المحفز والملهم، وكانت هي الرابط بينه وبين المجتمع الذي يعيش فيه، وكانت أيضاً المعلّم الذي يخبره عن جماليات الحياة وصراعاتها عبر إيحاءاتها الصامتة·

كنت أتحدث مع أحد الأصدقاء عن أثر الأحياء الشعبية أو الشارع المصري على أعمال نجيب محفوظ، وكيف أن معايشته اليومية لهموم الناس مكنته من الغوص في مكامن المجتمع ووضع يده على جروحه وآلامه ومنغصاته، وكذلك هو حال معظم الأدباء العالميين، فأعمال الأديب الفرنسي "فيكتور هيوجو" الذي عاش بين عامي 1802  و1885  كانت نتاج الأحداث التي عصفت بفرنسا في تلك الفترة وقبلها من تولي نابليون بونابرت للسلطة وما لحق ذلك من تبعات إيجابية وسلبية، إلى اعتلاء نابليون الثالث سدة الحكم وما صاحبه من أحداث سياسية واجتماعية يضيق المجال عن ذكرها، فأفرزت تلك المرحلة قيماً وأفكاراً كان من أهمها بروز الحركة الجمهورية المطالبة بتفعيل مشاركة الشعب في الحكم· ولقد تأثر هيوجو بهذه الإفرازات فكانت كتاباته منصبة بشكل كبير على تعزيز الفكر الجمهوري وتحرير الفرنسيين من النظام العسكري الذي كان جل همه تكميم الأفواه وإسكات الأقلام الحرة حتى تفشّى الفقر والبؤس في البلاد بسبب إهمال الحكومة وتقصيرها في الاضطلاع بدورها، فألّف روايته الشهيرة "البؤساء" التي عكس فيها وضع المجتمع الفرنسي في صورته المزرية ولكن بأسلوب فريد·

ومن ناحية أدبية تأثر هيوجو بنبض الشارع الفرنسي الذي كانت تجري في عروقه كلمات الأديب "فرانسيسكو رينيه" الذي بدأ شرارة الحركة الرومانسية في الأدب الفرنسي، فاستفاد هيوجو من هذا الحراك لينتج أعمالاً خالدة كروايته الشهيرة "أحدب نوتردام" ووصل إلى مرحلة من التميز لدرجة أنه أثار جدلاً بين أنصار التيار الكلاسيكي والتيار الرومانسي· أضف إلى ذلك أن فرنسا كانت في تلك الفترة في أوج نهضتها الثقافية التي أثرَتها التركة الثقافية والفنية والسياسية لنابليون بونابرت، فبرزت أعمال هيوجو الفنية في أربعة آلاف لوحة رسمها إلا أنه لم يعرضها أمام الناس وإنما اكتفى بإهدائها إلى أقربائه وأصدقائه حتى لا يصنف في خانة الرسامين، وفضل ألا يتخلى عن مكانه في الجبهة السياسية والأدبية·

ومن أمريكا الجنوبية وبالتحديد من كولومبيا قدم لنا الروائي المبدع "غابرييل غارسيا ماركيز" الحاصل على جائزة نوبل عام 1982  أعمالاً أدبية يستعصى على الشاعر وصفها كروايته "حب في زمن الكوليرا" التي تحدث فيها عن قصة الحب التي دارت بين والديه والتي تعد انعكاساً لجماليات المجتمع الذي عايشه واستقى منه· وإن نسي العالم ما نسي فإنه لن ينسى روايته الشهيرة "مئة عام من العزلة" التي يصور فيها الصراع البشري بكل أبعاده المشرقة والمظلمة، واصفاً بدقة تفاصيل مجتمع قرية يقال إنه عاش فيه، ليشعر القارئ بأنه يجوب في أرجاء تلك البقاع النائية في أمريكا اللاتينية·

إن رجل الشارع لا يقل أهمية عن غيره من الأفراد في رسم ملامح المجتمع الذي يعيش فيه، فهو المؤثر والمتأثر بجميع أحداثه وقلاقله، وهو الصورة التي تعكس هذه الأحداث في شكل تصرفات وعادات وقيم وحكايات تروي قصة كل قرية وكل مدينة على حدة· وهو نفسه نجيب محفوظ وفيكتور هيوجو وغابرييل ماركيز وغيرهم من المبدعين الذين نهلوا من مدرسة الشارع ووضعوها في قالب أدبي رائع·

وبعد كل ما حققناه في الإمارات من تقدم ورفاه ونمو اقتصادي، هل يمكن لأحدنا أن يكتب عن الشارع الإماراتي؟ وهل يمكن لنا أن نجلس في أحد المقاهي العريقة داخل سوق قديم لنراقب المارة ونرصد تصرفاتهم التي قد نستطيع أن نسقطها على واقع الحياة؟ وهل يمكن لأحدنا وهو يعبر خور دبي في قواربه الخشبية القديمة أن يجد عبق الماضي وأحلام المستقبل ليكتب رواية أو كتاباً يعكس ثقافة المجتمع؟ وهل بقي ما يسمى بالشارع الإماراتي أم أنه قد خلا من المارة؟

باحث إماراتي

yasser.hareb@gmail.com

�����
   

إن المساجد لله..!:
عبدالخالق ملا جمعة
Shut up and pray!:
فهد راشد المطيري
الإعلام الإخباري والاستخفاف بالحقيقة:
د. نسرين مراد
"زيارة ناجحة":
المحامي بسام عبدالرحمن العسعوسي
تجزؤ العراق:
د. محمد حسين اليوسفي
أين ذهب الشارع الإماراتي؟:
ياسر سعيد حارب
رسالة من السجون الإسرائيلية:
عبدالله عيسى الموسوي
عطلة السبت تقليد عربي قديم:
د. فاطمة البريكي
أشياء صغيرة:
د. لطيفة النجار
الموت المجاني:
د. حصة لوتاه
حقيقة الانتصار:
يوسف الكندري
المنتصر والشروط:
فيصل عبدالله عبدالنبي