رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 29 صفر 1427هـ - 29 مارس 2006
العدد 1721

لا.. ليس عداءً للسامية

                                                    

 

جوديث بتلر*

"تتلقى وجهات النظر المعادية لإسرائيل في العمق دعما مضطردا في أوساط المثقفين التقدميين· ويقوم أناس مهمون وعلى درجة عالية من القدرات الفكرية بأعمال معادية ذات تأثير معاد للسامية حتي وإن لم تتقصد هذا"

(لورنس سوميرز، 17  سبتمبر 2002)

 

حين أعلن رئيس جامعة هارفارد أن انتقاد إسرائيل في هذا الوقت ودعوة الجامعات الى عدم الاستثمار في إسرائيل هي "أعمال معادية للسامية بالنتيجة هذا إن لم تكن في النيات": كان يطرح تمييزا خلافيا في أفضل الأحوال بين عداء للسامية بالنية وعداء بالنتيجة· والرد المضاد هو أن "سوميرز" بصياغته لهذا الإعلان قد وجه ضربة للحرية الأكاديمية بالنتيجة هذا إن لم يكن في النية· فعلي رغم إصراره على أنه لم يعن بملحوظاته ممارسة الرقابة والحظر، وأنه يفضل أن تكون السياسة الإسرائيلية موضع "نقاش حر ومتمدن" إلا أن كلماته كان لها تأثير محبط على الخطاب السياسي· من بين تلك الأعمال التي دعاها "معادية للسامية بالنتيجة"، المقاطعات الأوروبية لإسرائيل، والمسيرات المعادية للعولمة التي أطلقت فيها انتقادات لإسرائيل، ومحاولات جمع التبرعات لمنظمات "ذات توجهات سياسية موضع تساؤل"·

إلا أن ما يعنيه محلياً كان طلب سحب الاستثمارات الذي وضعه معهد ماساشوستس التقني وأعضاء هيئة التدريس في هارفارد الذين يعارضون الاحتلال الإسرائيلي الراهن، ومعاملته للفلسطينيين· لقد تساءل "سوميرز" لماذا تستهدف حملة سحب الاستثمارات "إسرائيل دون غيرها من الأمم" مشيرا الى أن هذا الاستهداف كان دليلاً على النيات المعادية للسامية· وعلى رغم زعمه بأن جوانب من "سياسة إسرائيل الخارجية والدفاعية" يمكن ويجب أن تتم مواجهتها بصلابة، فلم يكن واضحا كيف يمكن أن تتحقق مثل هذه المواجهات من دون أن تقدم كمواجهات مناوئة لإسرائيل، ولماذا لا يجب أن تتم مواجهة قضايا السياسة هذه، والتي تتضمن الاحتلال، بصلابة بوساطة حملة سحب الاستثمارات·

ستبدو الدعوة الى سحب الاستثمارات شيئا آخر مختلفاً عن "مواجهة صلبة" مشروعة، إلا أنه لم يعطنا أي معيار يمكننا من الفصل بين المواجهات الصلبة التي يجب أن نقوم بها، وتلك التي تحمل القوة "المنتجة" للعداء للسامية·

هل هم وحدهم الضحية؟

"سوميرز" على حق في إعلان اهتمامه بظهور معاداة السامية، وعلى كل شخص تقدمي أن يواجه العداء للسامية بصلابة أينما ظهر، ومع ذلك يبدو أننا وصلنا تاريخياً الى موقف لا يمكن فيه أن يفهم دائما أن اليهود هم وحدهم ضحايا مفترضون، أحيانا نحن كذلك، ولكن أحيانا لسنا كذلك، لا يمكن لأي أخلاقيات سياسية، أن تنطلق من افتراض أن اليهود يحتكرون موقف الضحية·

"الضحية" مصطلح سريع التنقل: إنه يمكن أن ينتقل من لحظة إلى أخرى، من اليهودي الذي يقتله انتحاريون في حافلة، الى طفل فلسطيني تقتله نيران بنادق إسرائيلية· إن جو الرأي العام بحاجة الى أن يكون واحدا  في مواجهة كلا النوعين من العنف ويكون متسقا وباسم العدالة·

إذا فكرنا أن نقد العنف الإسرائيلي، أو المطالبة بالضغط الاقتصادي على الدولة الإسرائيلية من أجل أن تغير سياساتها، هو "معاداة للسامية بالنتيجة"، فسنفشل في إعلان مواقفنا المعارضة خشية أن نُعتبر جزءا من مشروع معاد للسامية·

ليس هناك صفة تلصق بيهودي، سياسيا وأخلاقيا أسوأ من معاداة السامية· إن الإطار الأخلاقي الذي يعمل ضمنه معظم اليهود التقدميين يتخذ شكل السؤال التالي: هل نصمت (وبذلك نكون متعاونين مع قوة عنف غير شرعية) أم أن علينا أن نجعل أصواتنا مسموعة (وبذلك نحسب ضمن أولئك الذين يعملون ما يستطيعون لوقف ذلك العنف) حتى وإن كان في الكلام مخاطرة؟ التيار النقدي اليهودي لإسرائيل كثيرا ما يصور على أنه تيار لا يمتلك إحساسا تجاه المعاناة اليهودية في الماضي والحاضر· ومع ذلك فإن أساس موقفه الأخلاقي هو تجربة المعاناة من أجل إيقاف تلك المعاناة·

إن "سوميرز" يستخدم تهمة معاداة السامية لإخماد أي نقد علني لإسرائيل، حتى وهو يضع نفسه بوضوح على مبعدة من عمليات الرقابة والحظر الصريحة· إنه يكتب على سبيل المثال قائلا إن "الترياق الوحيد ضد الأفكار الخطرة هو بدائل قوية يُدافع عنها بصلابة"، ولكن كيف للمرء أن يدافع بصلابة عن فكرة أن الاحتلال الإسرائيلي وحشي وخطأ، وأن تقرير المصير بالنسبة للفلسطينيين خير بالضرورة، إذا كان إعلان هذه الرؤية يجلب تهمة العداء للسامية؟ من أجل أن نفهم ادعاء "سوميرز" علينا أن نكون قادرين على تصور معاداة سامية مؤثرة، واحدة تمت بصلة الى فعل معين من أفعال الكلام· فإما أن تتبع نمطا من الألفاظ أو أنها تنبني بها، حتي وإن كان هذا قصدا واعيا للذين يستخدمونها· إن رؤيته تفترض أن مثل هذه الألفاظ سيأخذها آخرون مأخذ المعاداة للسامية، أو أنها يتم تلقيها في سياق معين بوصفها معادية للسامية، إذن علينا أن نسأل، أي سياق يدور في ذهن "سوميرز" وهو يطرح مزاعمه، في أي سياق يؤخذ فيه أي نقد لإسرائيل على أنه معاداة للسامية؟

ربما المقصود مما يقوله "سوميرز"، أن الطريقة الوحيددة التي يمكن أن يسمع بها نقد لإسرائيل هو أن يجيء عبر إطار صوتي معين، وبهذه الطريقة فإن النقد، سواء كان لمستوطنات الضفة الغربية، أو لإغلاق جامعتي بيرزيت وبيت لحم، أو هدم البيوت في رام الله وجنين أو قتل عدد كبير من الأطفال والمدنيين، لا يمكن إلا أن يفسر على أنه إظهار لكراهية لليهود· إن ما يطلب منا هو أن نخمن مستمعا ينسب قصدا للمتحدث: فلان وعلان أصدر بيانا علنيا ضد الاحتلال الإسرائيلي، ولابد أن هذا يعني أن فلان وعلان يكره اليهود، أو هو راغب في تحريض أولئك الذين يكرهون اليهود· إن النقد على هذه الشاكلة يعطى معنى خفيا، معنى يتضارب مع ما يظهره، إن نقد إسرائيل لا يتجاوز كونه عباءة تغطي تلك الكراهية، أو هو غطاء لدعوة إلى عمل من أعمال التمييز ضد اليهود، وبكلمات أخرى، الطريقة الوحيدة لفهم "معاداة السامية المؤثرة" هي أن نفترض مسبقا "معاداة سامية قصدية" أو كامنة في النيات، وتصبح معاداة السامية المؤثرة في أي نقد قائمة في نية المتكلم وينسبها المستمع إليه بطريقة استعادية·

ربما في ذهن "سوميرز" شيء آخر، أي أن النقد ربما يستغله أولئك الذين لا يريدون رؤية تدمير إسرائيل فقط بل ورؤية انحطاط الشعب اليهودي وافتقاره للقيم بشكل عام· هناك دائما مثل هذا الخطر، ولكن الزعم بأن نقدا مثل هذا لإسرائيل لا يمكن إلا أن يؤخذ كنقد لليهود، معناه أن ينسب لذلك التفسير الخاص السلطة على احتكار مجال التلقي·

وستكون الحجة ضد نشر نقد إسرائيل علنا، هو أنه سيقدم وقودا لأولئك الذين يحملون نيات معادية للسامية، والذين سيتضامنون مع هذا النقد بنجاح· وهنا مرة أخرى لا يمكن لمقولة أو بيان أن تصبح معادية للسامية عداء بالنتيجة إلا إذا كان هناك في مكان ما نية لاستخدامها في أغراض معاداة السامية· وبالفعل، حتى لو آمن إنسان بأن نقد إسرائيل سمع على نطاق واسع بوصفه عداء للسامية (من قبل يهود، أو معادين للسامية، أو أناس لا يحملون هاتين الصفتين) فستكون من مسؤوليتنا كلنا أن نغير شروط وأوضاع التلقي بحيث يبدأ الجمهور بالتمييز بين نقد إسرائيل وبين كراهية اليهود·

العلم بأثر رجعي

لقد وضع "سوميرز" مقولته بوصفه رئيسا لمؤسسة هي رمز للهيئة الأكاديمية في الولايات المتحدة الأمريكية· وعلي رغم أنه ادعى بأنه لم يكن يتحدث كرئيس للجامعة بل "كفرد من هذا المجتمع"، فإن كلامه كان ذا ثقل في الصحافة بالتحديد لأنه كان يمارس سلطة وظيفته الجامعية· لو أن رئيس جامعة هارفارد كان سيترك للجمهور أن يعرف هذا، فإنه سيأخذ أي نقد لإسرائيل على أنه معاداة للسامية عداء بالنتيجة، ثم ها هو يقول بأن الخطاب الجماهيري ذاته يجب أن يكون في غاية الانضباط بحيث لا يتلفظ بمثل تلك المقولات· وإن أولئك الذين يتلفظون بها سيفهم أنهم منخرطون في حديث معاد للسامية، بل وحتى حديث كراهية·

هنا من المهم التمييز بين خطاب معاد للسامية، مثل ذلك الذي ينتج بيئة معادية ومهددة للطلبة اليهود (كلام عنصري من ذلك الذي أي إدارة جامعية ملزمة بمواجهته وإصدار تعليمات بشأنه) وبين خطاب لا يريح طالبا لأنه يعارض دولة معينة أو مجموعة سياسات دولة يمكن أن يكون (هو أو هي) مدافعاً عنها· الخطاب الثاني هو نقاش سياسي، فإذا قلنا أن حالة إسرائيل مختلفة، وأن أي نقد لها يعتبر هجوماً على الإسرائيليين أو اليهود بعامة، نكون بذلك قد أخرجنا هذا الولاء السياسي لوحده من بين كل الولاءات الأخرى المفتوحة للنقاش العام· وبذلك نكون قد انخرطنا في أكثر أشكال "الحظر" فعالية وإثارة للحنق·

القضية ليست أن تمييز "سوميرز" بين عداء للسامية بالنيات وعداء بالنتيجة لا يستطيع الصمود أمام النقد، بل إن الطريقة التي يتمثل بها في صيغته هي ما ينتج بالتحديد الشروط وربما الأوضاع التي تؤخذ تحتها وجهات نظر علنية معينة على أنها خطاب كراهية، "بالنتيجة هذا إن لم يكن بالنيات"، "سوميرز" لا يقول بأن أي شيء تفعله إسرائيل باسم الدفاع عن النفس شرعي وأنه لا يجب وضعه موضع تساؤل· ولا أعرف إن كان يوافق على كل السياسات الإسرائيلية، ولكن دعونا نتخيل، على سبيل الافتراض، أنه لا يوافق، وأنا لا أعرف ما إذا كانت لديه نظرة على سبيل المثال تجاه هدم البيوت وقتل الأطفال في جنين ذلك الذي اجتذب اهتمام الأمم المتحدة في العام الماضي ولكن لم يتم التحقيق فيه بوصفه انتهاكا لحقوق الإنسان لأن إسرائيل رفضت فتح حدودها لفريق تحقيق، فإذا كان يحتج على هذه الأفعال، وأنها من قضايا "السياسة الخارجية" التي يؤمن أنها يجب أن "تواجه بصلابة" فعليه أن يرضى، وفق صيغته، بأن لا يعلن عدم موافقته، إيمانا منه، كما هو إيمانه الذي عبر عنه، بأن عدم موافقته سيفسر على أنه عداء للسامية· وإذا كان يعتقد بأن من الممكن إعلان عدم الموافقة، فهو لا يرينا كيف يمكن فعل هذا بطريقة تجعلنا نتفادى الادعاء بأننا نعادي السامية·

منطق "سوميرز" يقول بأن أفعالا معينة للدولة الإسرائيلية يجب أن يسمح لها بأن تستمر بلا عائق من احتجاج جماهيري، خشية أن يصل أي احتجاج الى مستوى معاداة للسامية، هذا إن لم يعتبر الاحتجاج نفسه عداءً للسامية·

لا شك أنه يجب معارضة كل أشكال العداء للسامية، ولكن لدينا هنا مجموعة من الاختلاطات الجادة والمشوشة حول الأشكال التي يتخذها العداء للسامية· بالطبع إذا استخدمت تهمة العداء للسامية للدفاع عن إسرائيل بأي ثمن، فعندئذ ستضعف قوة التهمة الى حد بالغ حين تستخدم ضد أولئك الذين يمارسون سياسة التمييز ضد اليهود (الذين يمارسون العنف ضد المعابد اليهودية في أوروبا، أو يلوحون بالأعلام النازية أو يساندون المنظمات المعادية للسامية) إن عددا كبيرا من منتقدي إسرائيل الآن يرفضون كل مزاعم العداء للسامية بوصفها مزاعم "ملفقة"" تستخدم لمنع وحظر الخطاب السياسي·

"سوميرز" لا يقول لنا لماذا أن حملات الامتناع عن الاستثمار أو أشكال الاحتجاج الجماهيرية الأخرى "هي حملات معادية للسامية"· بناء على كلامه، بعض أشكال العداء للسامية موصوفة كذلك بأثر رجعي، وهو ما يعني أنه لا يجب قول شيء أو فعل شيء سيؤخذ من قبل آخرين على أنه عداء للسامية· ولكن ماذا لو كان هؤلاء الآخرون على خطأ؟ إذا أخذنا شكلا من أشكال العداء للسامية وحدّدناه بأثر رجعي، فما الذي يبقى من إمكانية الاحتجاج المشروع ضد دولة، سواء من قبل سكانها أو أي طرف آخر؟ إذا قلنا إنه في كل وقت تلفظ فيه كلمة "إسرائيل"، فإن المتحدث يعني "اليهود" فعلاً، فإننا نكون بهذا قد أغلقنا مسبقاً إمكانية أن يكون المتحدث يعني "إسرائيل" فعلاً· ومن جانب آخر، إذا ميزنا بين العداء للسامية وبين أشكال من الاحتجاج ضد الدولة الإسرائيلية (أو مستوطني الجناح اليميني الذين يتصرفون أحياناً باستقلال عن الدولة)، ستكون لدينا الفرصة لفهم أن عالم اليهودية لا يرى نفسه وإسرائيل شيئاً واحداً، في شكلها الراهن وممارستها، وأن اليهود في إسرائيل لا يرون أنفسهم بالضرورة والدولة شيئا واحداً· بكلمات أخرى، إن إمكانية قيام حركة سلام يهودية جوهرية يعتمد على حفاظنا على مسافة مثمرة ونقدية بيننا وبين دولة إسرائيل، وهي حركة يمكن أن تتزاوج مع استثمار عميق في مسارها المستقبلي·

(عن London Review Buolrs 21 أغسطس 2003)

* جوديث بتلر، أستاذة البلاغة والأدب المقارن في جامعة كاليفورنيا، بركلي، الولايات المتحدة الأمريكية·

طباعة  

النزعة المحافظة الجديددة تحولت الى شيء لا أستطيع مساندته!
تحتاج أمريكا الى إعادة تأطير لسياستها الخارجية ليس كحملة عسكرية بل كتنافس سياسي على القلوب والعقول