Al - Talea
رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962
العدد 1813

الفيلم يدعو إلى التروي لا إلى الإثارة
صراع كوسوفو في الفيلم التسجيلي "الوادي"

واشنطن، شهدت العاصمة الأمريكية الأسبوع أخيرا عرض فيلم "الوادي"، وهو فيلم تسجيلي فذ صور فيه مخرج ومنتج التلفزيون البريطاني دان ريد بشاعة الحياة والحرب في كوسوفو·

ما الحياة في وادي درنيكا القريب من العاصمة الكوسوفية بريشتينا حيث تدور مشاهد الفيلم؟ إنها الفترة التي يمضيها سكان الوادي الألبان والصرب على السواء نهبة لليأس والأسى بين دمار وآخر وموت وآخر وجنازة وأخرى· لا عمل ولا إنتاج ولا مدارس تستقطب الصغار· الفلاح يعادي الفلاح والجار ينهب دار جاره· القصف الوحشي الضاري مستمر ومتبادل بين الطرفين وكأن الغاية منه هي الإبادة الكاملة لأهالي الوادي البسطاء وكل ما يعتمدون عليه من سبل العيش: الأرض والمأوى والأهل والزرع والماشية·

وجاء عرض "الوادي" (70 دقيقة) ضمن برنامج مخصص للروائع السينمائية يقدمه متحف الهولوكوس (الإبادة الجماعية لليهود على أيدي هتلر ونظامه النازي) في واشنطن· وقد غصت قاعة العرض بجمهور مثّل طلاب الجامعات وأساتذتهم عددا كبيرا منهم· وسبق العرض محاضرة ألقاها الدكتور بيتر بلاك، كبير باحثي التاريخ في المتحف، قدم في سياقها تحليلا تاريخيا موضوعيا لأسباب الصراع في كوسوفو·

وفي لقاء مع "نشرة واشنطن العربية"، قال ريد إن ما أغراه بإنتاج الفيلم هو مشاعر الكراهية التي تغلي بين أفراد كل من الطرفين نحو الآخر· إلا أن ريد اتبع في عرض أحداث الفيلم البشعة أسلوبا هادئا رزينا خلا من توجيه الجمهور وفرض الآراء المسبقة عليه وإثارة مشاعره، وكذلك من عصبية الحركة والتركيز على الألوان الصارخة والمغالاة في إظهار المناظر المفجعة والانفعالات النفسية الشديدة· والغاية من ذلك كله - كما قال - هي "محاولة رؤية الصراع من خلال عيون القائمين به، الناس وراء عناوين الصحف اليومية الذين فرض عليهم القتال ودفعوا إليه دفعا·

وعزز ريد هذه الغاية في تصوير المأساة الإنسانية في "الوادي" باعتماده الكلي على بساطة أداء "أبطال" الفيلم من الطرفين، وهم أناس عاديون من ذوي المهن البسيطة، كمعلم مدرسة القرية مثلا·

وقال ريد إن تصوير "الوادي" الذي يجري عرضه حاليا في عدد من المدن الأمريكية الكبرى استغرق خمسة أسابيع، فضلا عن اضطرار المخرج الى تمضية خمسة أشهر في موقع التصوير للتعرف على معالمه وأهله وبلورة إطار الفيلم ومضمونه· وتحدث عن صعوبة العمل في الأفلام التسجيلية بصفة عامة، وخاصة تلك التي لا تعتمد على مشاهد سبق التقاطها أو معلقين يدعون الى رسالة معينة أو شخصية لامعة تتركز عليها الأضواء، فقال إنها تتطلب وجود العاملين على إنتاجها في المكان المناسب وفي الوقت المناسب وإلا ضاعت عليهم فرصة إيصال الرؤية التي تبلورت في أذهانهم الى الجمهور·

ويتمتع المخرج ريد بصبر غير عادي وقدرة على كسب المعارضين له والمشككين فيه· وقد مكنه ذلك من الانتقال بقدر من السهولة من طرف الى آخر في وادي درنيكا وإن تعرض أحيانا لخطر حقيقي لكي يتمكن من تصوير مأساة الوادي في شمولها دون الاقتصار على طرف دون الآخر وإن خص الجانب الألباني المسلم بنصيب أكبر من الوقت··

وريد ليس جديدا على صناعة السينما التسجيلية، فقد بدأ عمله السينمائي قبل نحو عشر سنوات في مدينة كيب تاون في جنوب أفريقيا وتمكن هناك من الامتزاج بقادة الفئات المتطاحنة ومعايشتهم رغم تميزهم بالعنف الشديد· وسئل عما إذا كان يعتزم تناول صراعات مماثلة للصراع الكوسوفي يشهدها العالم من حين الى آخر، فقال إنه يتمنى أن يصور محنة الأكراد وإن كان ذلك صعبا في الوقت الراهن كما قال·

وقد ألغى ريد دور الراوية في فيلم "الوادي"، الفائز بجوائز عدة عالمية منذ صدوره في أوائل هذا العام، واكتفى بعناوين تظهر على الشاشة من حين الى آخر تعرف مشاهد الفيلم وتواريخها· إلا أن الفيلم يتسرب الى النفس البشرية ويعتصرها من خلال الصوت والصورة لا من خلال النظريات أو الجدل السياسي· إنه دعوة الى التأمل والتروي لا العمل المستفز أو المنتقم·

ويبلغ هذا التأثير ذروته في مشاهد "الوادي" الأولى والأخيرة· ففي البداية نرى الوادي وقد خلا من السكان واشتعلت النيران في مساكنه· وتتسع عدسة الكاميرا بعد ذلك لتصور عددا من أهالي القرية وهم ينقبون بحثا عن فقيد لهم· ويعثر أحدهم في معرض ذلك على "زرار" سروال ثم السروال نفسه، وأخيرا الجثة بعد أن تآكلت أطرافها وراحت معالمها·

أما الخاتمة فتكاد لا تنسى نظرا الى بساطتها وتأثيرها العميق على النفس: النار تبدأ في التهام أحد بيوت القرية المهدمة بينما يحاول رجل وامرأة في كد ويأس استخدام دلوين صغيرين لانتشال ماء من بئر تكاد تخلو منه! ماذا يجدي الدلو الصغير وما حواه من ماء قليل في إخماد نار تتسع لتلتهم ما تبقى من البيت وما يحيط به؟ وتعلو وسط هذه اللقطات اليائسة ألحان حزينة أدمعت عيون بعض المشاهدين!

طباعة