Al - Talea
رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962
العدد 1849

تلاشي الخطر الخارجي وانهيار الأيديولوجيا يُعمق الانقسامات الداخلية
لماذا انخفضت فعالية "الوعاء الصاهر" في إسرائيل؟

·         اليسار اقترب من اليمين اقتصادياً واليمين من اليسار في التسوية على الأراضي

·         اليهود الروس يتمتعون بثقافة لا يريدون التخلي عنها

·         قوة "شاس": اجتذاب قسم من ناخبي ليكود وشبكة المؤسسات الخيرية والتأقلم مع "الدولة"

·         الآباء المؤسسون أساؤوا تقدير قوة "الهويات" فانبعثت بعد تلاشي الخطر الخارجي

 

يعتبر ألان ديكوف مدير البحوث في المعهد الوطني (الفرنسي) للبحوث العلمية من أفضل المتخصصين في الشؤون الإسرائيلية· وهو أستاذ المؤتمرات في معهد الدراسات السياسية في باريس· هذا الباحث يعتبر أن التفكك "الطائفي" في المجتمع الإسرائيلي يعتبر سمة لنهاية نموذج التوحيد الوطني الذي بدأ في الخمسينيات بأيدي الآباء المؤسسين للدولة العبرية الذين أساؤوا تقدير قوة "الهويات" الدينية· وقد التقته "لوموند" لاستشراف مستقبل الدولة العبرية وكانت هذه المقابلة:

 

أفضت الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة الى أكبر تشتت في الكنيست في تاريخ البلاد· وهذا التشتت يؤكد بصورة كاريكاتورية التفكك "الطائفي" في المجتمع· فهل يشكل ذلك ظاهرة لا تقاوم؟

- هذه الظاهرة تؤكد في كل حال نهاية نموذج التوحيد الوطني الذي أرساه الآباء المؤسسون في الخمسينيات· فغاية مشروعهم الذي كان عظيم الطموح هي خلق المجتمع الأشد تجانسا وولادة "الإنسان الإسرائيلي" مجسدا بالمولود في إسرائيل نفسها· هذا المشروع كان يقوم على صهر المنفيين (من بلدان أخرى) في "وعاء صاهر" حيث تذوب الهويات الأصلية· ومنذ نهاية الستينيات تبين أن لهذه العملية حدودا وصلت إليها الآن· وهكذا صارت إسرائيل الآن في مرحلة انتقالية تتجه فيها نحو إعادة تعريف العلاقة الوطنية·

 

إسرائيل القرن الحادي والعشرين تبدو إذاً مختلفة عن تلك التي كان يحلم بها الرعيل الأول للحركة الصهيونية· فهل أن "الوعاء الصاهر" بالطريقة الإسرائيلية توقف عن العمل؟

- كانت للبناء الوطني آثار لا يمكن نفيها· فقد أدى الى ظهور ما نسميه "الإسرائيلانية الانترلويولوجية": أي استعمال اللغة العبرية والتجارب المشتركة في نطاق واسع وقواعد السلوك المشتركة وغياب الطابع الرسمي في العلاقات بين الأفراد·

لكن برغم وجود مؤسستين تعملان على التكيف الاجتماعي الوطني وهما المدرسة والجيش، لم يستطع "الوعاء الصاهر" أن يفعل فعله حتى النهاية لأنه تبين أن الهويات الأصلية أثبتت أنها أشد مقاومة مما افترض الآباء المؤسسون· فهؤلاء الذين كانوا يناصرون التحديث أساؤوا تقدير قوة الهويات الدينية·

بدأت بواكير إعادة التمسك بالهوية الأصلية تظهر عقب حرب أكتوبر (الغفران بالتعبير الإسرائيلي) عام 1973 عند ظهور الأزمة في حزب العمل وقد كان منذ الاستقلال التيار السياسي الغالب المكلف مهمة البناء الوطني· وهكذا تصادمت رسالة حزب العمل مع رسالة اليمين القومي والصهيونية الدينية· غير أن إشكالية الهوية لم تظهر مباشرة لأن تكتل ليكود كان يقمع استياء اليهود السفارديم ذوي الأصل المغربي أو الشرقي· وإذا لم يعد "الوعاء الصاهر" يعمل بمثل ما كان من قبل فلأن العنصر الموحد يضعف باضطراد· ففي الخمسينيات، كان الناس يتقاسمون كثيرا من الأشياء· فعلى سبيل المثال، كان بن غوريون وهو علماني، ينتمي مثل المتشددين الدينيين الى طائفة اليهود "الييديش" الآتية من أوروبا الشرقية· واليوم ازداد الافتراق بين أحفاد بن غوريون الذين انفصلوا عن التقاليد، واليهود المؤمنين المتشددين·

 

لماذا ينفر المهاجرون الجدد لاسيما اليهود الروس من الانخراط في اللعبة السياسية الحالية؟

- كان المهاجرون في الستينيات يدركون "أسبقية القدامى" (أي اليهود الآتين أولا)، وااليا حقهم في تثبيت المعايير· والروس لا يتنمون الى هذه الأسبقية· فهم يريدون مكانا في المجتمع، وكذلك فهم يتجمعون حول الفرق الوحيد (بينهم وبين الآخرين) أي أصلهم الروسي· أما وزنهم الديموغرافي (800 ألف جاؤوا منذ عام 1989) فيعزز هذه الظاهرة· وهم في طريقهم نحو تشكيل "مجتمع في قلب المجتمع"· أما أصولهم مختلفة· فقد جاؤوا من موسكو ومن جورجيا وبلدان البلطيق وغيرها، لكن لا يتجمعون باعتبارهم روسا إلا في إسرائيل·

وثمة عاملان يحافظان على قوة الهوية لدى الروس· فهم يستندون الى ثقافة خاصة بهم تبدو لهم، - خطأ أم صوابا - بأنها أشد جدارة بالاهتمام في ثقافة إسرائيل التي هي في الوقت نفسه مؤمركة وشرقية· وهذا يبدو في أنظارهم بمثابة ورقة رابحة لا يريدون التخلي عنها· وهناك أيضا عدد منهم، ربما 20 في المئة، ليسوا يهودا أو لا يعتبرون كذلك إلا جزئيا· وهؤلاء يجابهون هوية جماعية يهودية تؤكدها الدولة نفسها· وهذا ما يعزز في المقابل هويتهم الروسية·

الى ذلك، يجب أن نضيف أيضا أن إسرائيل تنخرط في حركة الهجرة العالمية، وهذا ما يعتبر بالنسبة إليها أمرا جديدا جذريا· فإسرائيل كانت مقصدا لمهاجرين من نوع واحد هم اليهود· واليوم، صارت بلدا جاذبا لمهاجرين آتين من بلدان متباينة مثل غانا ورومانيا وتايلاند· وهذا يطرح مشكلة مخيفة كان التفكير فيها حتى الآن أعجم (متعلثما)· فالبعض يعتقد بحسن نية أن هؤلاء المهاجرين سيعودون الى بلدانهم، في حين أن قسما منهم يبقى في إسرائيل· وبطريقة أكثر عمومية، ستكون الدولة مضطرة الى الاعتراف بتعددية المجتمع وبطبيعته الثقافية التعددية·

 

بعد ثلاث سنوات من حكم رئيس وزراء (نتانياهو) كان يطيب له أن يقسم من أجل أن يحكم، ألا يعتبر انتخاب إيهود باراك تعبيرا عن رغبة جماعية في الوحدة؟

- ليس هناك أدنى شك في ذلك· فإيهود باراك ربما يكون موحدا· فهو يجسد حنينا الى الوحدة وهذا ليس مجرد مصادفة· فهو نموذج تقليدي للشخصية الصهيونية· فقد ولد في كييوتس (مزرعة جماعية) وأمضى 35 سنة في الجيش· لكنه يمثل في الوقت نفسه إسرائيل الماضي· ومن انتخبوه فعلوا ذلك حتى يطمئنوا أنفسهم أنهم لا يريدون السير نحو المجهول·

 

إذا كانت الدولة الإسرائيلية نجحت في النجاة، ألن يشعر المجتمع بأنه سيكون أكثر حرية في التعبير عن نفسه كما هو فعلا أي مثل لوحة فسيفساء؟

- في غالب الأحيان، يدور حديث كارثي عن بلقنة إسرائيل· لكن التنوع الحالي يمثل أيضا دليلا على استقلال ذاتي كبير للمجتمع المدني بالنسبة الى الدولة، وهذا شاهد على التعددية ومصدر للاعتناء· أفلم يمجد الناس سنوات الخمسينيات والستينيات· ففيها كانت الدولة حاضرة بقوة ففرضت معايير جماعية على حساب خليط المجتمع وتنوعه·

وإذا كانت قضايا الهوية تطرح نفسها بقوة أشد مما كان في الماضي فلأن الخطر الخارجي أخذ يتلاشى· وهذا عائد أيضا الى تلاشي الفروق بين الحزبين الكبيرين العمل والليكود اللذين يتقهقران الى الوراء·

فالحياة السياسية طغت عليها الأدلجة المفرطة طويلا بمواجهة عاتية بين اليمين واليسار· والواقع أن التيارين اقترب أحدهما من الآخر· فاليسار اقترب من اليمين عندما تخلى منذ الثمانينيات عن مشروع الدولة (المتدخلة في كل شيء) معترفا بكون الفرد لاعبا اقتصاديا·

أما اليمين فقد رفض طويلا فكرة إبرام تسوية على الأرض مع الأردن ومع الفلسطينيين كان اليسار يناصرها·

ثم تنازل الليكود مع نتانياهو واعترف بها· وبقبول فكرة، - بعد تردد طويل، - كان يرفضها جزء من حزب "أرض إسرائيل" (الكبرى) دق زعيم ليكود إسفينا في القومية المتطرفة التي يمجدها اليمين· وهكذا فقد الاختلافات الأيديولوجية بين "العائلتين (السياسيتين) الكبيرتين" كثيرا من حرارتها· ولهذا السبب أيضا ينتقل النقاش الى قضية أخرى هي قضية الهوية·

 

كيف تفسرون الانتصار الكبير لحزب "شاس" لليهود الشرقيين المتشددين (السفارديم)؟

- لا يمكن تفسير انتصار "شاس" (في الانتخابات التي زاد فيها عدد مقاعده في الكنسيت من عشرة الى 17) إلا باجتذابه جزءا من الناخبين التقليديين لليكود· فالقومية "الملطفة" التي ينادي بها ليكود لم تعد سلطة رائجة في حقبة انحطاط الأيديولوجيات· وفي المقابل، يملك "شاس" عرضا أصيلا في الهوية· فنخبته هي من "الرجال ذوي المعاطف السود" (أي الحاخامين)· وهو ينادي بأولوية السلطة الروحية على السلطة السياسية· لكنه يحوز في الوقت نفسه عرضا إثنيا أيضا· فهو يخاطب اليهود الشرقيين التقليديين الذين يعرفون كيف يتكيفون بمرونة مع التقليد الديني· وهو يستطيع أيضا أن يغري جمهورا أوسع بكثير مما يجذبه اليهود المتشددون الاشكيناز (الغربيون)·

ويطرح "شاس" أيضا توليفا للإصلاح الديني وإعلاء لشأن العزة الإثنية· وهذا النهج يتبعه الحزب بواسطة العمل الاجتماعي أي استراتيجية العمل الخيري· فهو يعمل على سبيل المثال على مساعدة العائلات المحرومة فيعتني بأطفالها بعد دوام المدارس ليقدم إليهم تربية دينية· وقد استطاع إقامة شبكة تعليم ومدارس قوية· ولذلك أقام علاقة "محسوبية" مع الجمهور الذي يصوت له·

 

هل يمارس "شاس" نوعا جديدا من اليهودية؟

- هو يمثل الصهيونية - الجديدة التقليدية (النيوصهيونية) وهو تقليدي في وقت تنطوي أرثوذكسيته على ممارسات غيبية، تختلط فيها العبادة مع القديسين والإيمان بالتعاويذ· وهو نيوصهيوني لأنه يجد أن من الطبيعي العمل داخل جهاز الدولة حتى ينتزع شرعيته وإن كان يعلن أنه يرمي الى زيادة وزن الدين في الدولة· ولذلك يمكن القول إنه لا يتبع منطقا انفصاليا بالنسبة الى المجتمع العلماني على نحو ما فعل المتطرفون اليهود والتقليديون الذين أقاموا طواعية داخل معازلهم (الغيتو)·

 

هل تزداد راديكالية العلمانيين برأيكم؟

- تكشف تعبئة العلمانيين ردة فعل قوية دفاعية بدأت بالتعبير عن نفسها خلال الانتخابات البلدية في نوفمبر من عام 1998 وتحديدا في القدس· فبالنسبة الى كثير منهم صار نفوذ المتشددين في ظل حكم نتانياهو غير محتمل· ولذلك قرر العلمانيون أن هناك أسلوب حياة يجب أن يدافعوا عنه·

 

كيف تفسرون الانهيار الانتخابي لليمين المتطرف العلماني الناطق بلسان المستوطنين في الضفة الغربية والجولان؟

- هنا نجد أيضا تراجعا للأدلجة في إسرائيل· فاليمين المتطرف العلماني يتراجع لأن جمهوره محدود· وقد حاول بيني بيغن (نجل رئيس الوزراء الأسبق مناحيم بيغن) توحيد اليمين القومي لكنه أخطأ الهدف· فكثير من الإسرائيليين يعتبرون الدفاع عن "أرض إسرائيل" الأصولي معركة خلفية هي صارت خاسرة، وأن الأفضل لهم هو التكيف مع حقائق اتفاقات أوسلو· فهناك نحو 60 في المئة من الإسرائيليين يعتقدون أن الفلسطينيين ستكون لهم دولة· والأهم من ذلك أن غالبية الإسرائيليين تعتقد أن للفلسطينيين حقا معنويا في الحصول على دولة· وحتى يلعب إيهود باراك يكفيه ما لديه من أوراق كثيرة لاسيما حقيقة مفادها أنه خلافا لما كان لإسحق رابين، لم يعد باراك يربط مصيره بمقاعد الأحزاب العربية في الكنيست: فلديه الآن غالبية يهودية فيه·

لوموند

طباعة