رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 16 ربيع الأول 1425هـ - 5 مايو 2004
العدد 1626

كتابة

لكي يحدث شيء ما!

 

محمد الأسعد

هذه ورقة كتبت أصلا بالإنجليزية بناء على طلب أستاذ العلاقات الدولية في جامعة رتشموند - لندن، د· فولفغانغ ديكرس، لطرحها على طلابه في سياق مناقشة موضوعية "مسؤولية الفنان في عالم اليوم"·

قدمت الورقة في صيف العام 2003، وهذه الترجمة من إعداد كاتبها·

 

سأل صحافيّ الشاعر الكبير المتصوف "محمود البريكان" عما إذا كان يرى الشاعر إنسانا مسؤولا، فقال باقتضاب "نعم·· هو مسؤول ولكنه حرّ في كيفية نهوضه بمسـؤوليته"·

جواب دقيق ومحدد، وصحيح بالطبع، فلا أحد يمكن أن يحدّد للفنان المشغول بالإبداع والحياة كيف يفكر، ولا أحد يمكن أن يفرض عليه شكل إبداعه، مسؤولية الشاعر وحريته قضيتان داخليتان أي أنهما من القضايا الشخصية· وبقدر ما يعني الأمر قدرته الإبداعية لا يمكن التعامل معها بوصفها من القضايا الخارجية·

شرطه الأول هو الحرية، ثم يجيء شرط المسؤولية، كيف؟ وبأي معنى؟

أعتقد أن مصدر هذه المسؤولية غير المحدّد هو طبيعة العمل الفني ذاته، ودعوني أشرح ما أعنيه بهذا المقترح الغامض·

أولا: أي عمل فني هو صورة ممثّلة لنظرة ما إلى العالم، أو رؤيا تختلف عن أشياء كثيرة مثل التقرير والخبر أو وجهة النظر المحدّدة، مع ملاحظة أن صناع التقارير والأخبار ووجهات النظر يمكن أن يستعيروا شيئا من الطيف اللوني الذي هو الرؤيا، ويمكن أن يقدموا أعمالا جميلة·

الصورة هي وسيط للرؤيا، ولكنه وسيط غير محايد، إنه يحمل بذاته إشعاع قوة الرؤيا، الإيحائي، وحين نحاول تقييم هذه القوة في العمق، علينا البحث عن الكثير من الوصلات "Links) التي ليست بمثابة بوابات إلى الكثير من العوالم، أعني الكثير من الممكنات التي تتجاوز واجبات حياتنا اليومية المعتادة·

الرؤية الفنية كما أعتقد أوثق ارتباطا بالبصيرة، منها بأي نوع من أنواع النظر والقول، لأنها ترى وجودها في سياق عملية متواصلة الحركة، لهذا ليس للرؤية الفنية ما تفعله مع الواجهات: إنها تنتمي إلى واقعنا الباطن·

ثانيا: أي عمل من أعمال الفن يعبّر عن نفسه بوصفه جوابا عن أسئلة ذات علاقات متشعبة، أو هو استجابة في أفضل الأحوال إذا أردنا الابتعاد عن لفظه "الجواب" التي تحمل نوعا من التحديد· الأسئلة متشعبة لأنها أسئلة يطرحها الماضي والحاضر والمستقبل على حد سواء، وبناء على هذا سيكون على جوابنا ألا يرتبط لزوما بعرق محدّد أو أمة أو ثقافة، بل بكل أكبر من كل هذا·

كيف يمكن أن ينشىء الفنان جوابا من هذا النوع؟ ذات يوم، كنتُ في العاصمة الإيطالية "روما" سألتني فتاة إيطالية بلا مبالاة ظاهرية: "ما معنى الحياة في نظرك؟"·

كان السؤال محددا إلى حد ما، إلا أنه زجني في وضعية غير محددة: شعرتُ كما لو أنني أقف أمام الكثير من "الوصلات" وعليّ أن أختبرها دفعة واحدة بحثا عن جواب يأخذ في اعتباره ممكنات لا حصر لها·

قبل كل شيء، لم يكن هذا السؤال خاصا بشخص محدد، كان سؤالا سأله ويسأله وسيسأله الجنس البشري·

ولهذا السبب بالذات لا أستطيع الاكتفاء بجواب يعبر عن حالتي كفلسطيني فقد وطنه مثلا، أو بوصفي فردا لديه ما يعبر عنه في ضوء انشغاله هو فقط·

للوصول إلى جواب شامل وكلّي يتناغم مع تساؤل كل كائن حيّ "مادام السؤال موجها إلى الأحياء" كان عليّ أن أتخذ موقف المسؤول، أي أن أكون شاملا·

لم يكن لدى الفنان في داخلي سوى خيال واحد: أن يقدم استجابة مستساغة تتفق مع سؤال مثل هذا يبدو أنه يردد أصداء شيء ما في ذاكرة الكون، أي الكل الكبير·

أن تكون في وضعية غير محددة، فمعنى هذا أنك في قلب الكل - لا هذا الجزء أو ذاك، الكل الذي هو واقعك الحقيقي - أو وجودك العميق والوطيد، ولهذا عليك إبداع جوابك بناء على مسؤوليتك كفنان·

كان جوابي: "حسنا الحياة لقاء في مهرجان، ثم كلمة وداع نقول فيها إلى الملتقى في الزمان"·

في واقع الأمر، لم يكن لجوابي أهمية ربما، لا في تلك اللحظة ولا في المستقبل، ولكن الحدث ذاته كان مهما وذا دلالة فيما يتعلق  بفكرتي عن المسؤولية، لقد أيقظ في نفسي شعورا جديدا جدة تامة، حدث شيء حين حاولتُ تقديم جواب: فكرت أنه لا يمكن تبرير مهنتي كفنان من دون أن آخذ في اعتباري هذا "الكل الكبير" أو أن "أجعل الأشياء قادرة على الخلود" على حد تعبير الشاعر الألماني "ماريا راينر ريلكة"

ثالثا: يحمل أي عمل فني بطبيعته قدرة على تجاوز الواقع المعطى، وإقامة علاقات حيوية مع واقع أكثر عمقا، أي ذلك الواقع الباطن الذي يحتوي على الممكنات كلها قبل أن تتجسد وتمثل·

وهنا، في هذه الوصلات العلائقية، يمكن أن يكون الفنان حرا في كيفية تشكيل استبعاداته ومسؤوليته ووجوده العميق، فهو لن يكون مغربا عن شخصيته الحقة بعد الآن، هو الآن قادر على رؤية "الأرض" لا "الخريطة" التي تمثل الأرض، هنا في هذه الوصلات العلائقية يبرهن الأفق على أنه أكثر أهمية من المكان·

 

ü  ü  ü

 

إذن تنبثق المسؤولية والحرية معا في طبيعة الفن ذاته، وبهذه الطريقة يقدم لنا هذا اللاتحدّد "مسؤولية / حرية" موقفا نقديا أكثر صفاء ونزاهة مما يقدمه أي موقف آخر، كأن يكون موقفا سياسيا أو اجتماعيا أو إيديولوجيا، سيكون الفنان في وضعية اللاتحدد هذه مسؤولا أمام "الكل" ومنسقا في الوقت نفسه مع قوانين طبيعته الفنية، وهنا سيحدث شيء ما·

شيء مفيد بالطبع، مادام لدينا شيء نقوله من هذا المركز الذي هو مركز الأشياء كلها·

طباعة  

نص
 
"البيان": الشطي قاصا مبدعا·· والفريح تكتب إبداع المرأة
 
"العربي" في الوردة البيضاء "وجهاً لوجه" مع السفير الألماني
 
خبر ثقافي
 
المرصد الثقافي
 
"زوايا": القاسمي·· الجسد والمتاهة وهاجس الموت
 
وتــد