رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 30 ربيع الأول 1425هـ - 19 مايو 2004
العدد 1628

قراءة

الحضور المغيّب اتصالية في "يحدث أمس"

للـروائي إسماعيل فهد إسماعيل

 

                                                                    

بقلم مقداد مسعود:

 

قبل الآن·· إلى إسماعيل حسين غلوم

 

اتصالية السياسي

(1)

 

قراءتنا الاتصالية هذه بالسياسي الذي تراه الحضور المغيّب: منشغلة··

السياسي المغمور بشعرية قص تميز بها الروائي إسماعيل فهد إسماعيل منذ "كانت السماء زرقاء 1970" لا "البقعة الداكنة 1965" عمله الأدبي الأول·· السياسي المحدد روائيا بسنة "1960" في "يحدث أمس" وهي سنة ملتهبة من سنوات ثورتنا الخالدة "14 تموز 1958" الثورة التي أجّل الأعداء كل اختلافاتهم ليتفقوا على جعلها ثورة مغدورة عبر القطار الأسود الدموي المسمّى بـ "8 شباط 1963"· إن الفترة التي أعقبت ثورة "14 تموز" اتسمت للأسف بالاصطراع والاحتراب بين ألوان الطيف السياسي·· وقراءتنا الاتصالية ترى "أن النقد الذي لا يحسب حسابا لموقف النص في العالم هو مشروع لا ينتمي للشعوب التي استعمرت من قبل إدوارد سعيد -مفارقة هوية ص 48·

 

(2)

 

اتصالية الروائي إسماعيل فهد إسماعيل بالتاريخ: اتصالية ماركسية "وجدت أن القراءة الماركسية للتاريخ هي الأكثر صوابا من ناحية حركة المجتمع وطبيعة الصراعات وطبيعة داخله أو تلك التي تحكم الصراعات الدولية علي حد قول الروائي نفسه "ارتحالات كتابية د· مرسل فالح العجمي ص 16 رابطة الأدباء في الكويت 2001" إذن فهو روائي كما يفهم من قوله هذا "مثقف ثقافة تقدمية" والنقد لا سواه من "يضع المثقف في العالم ص 56 إدوارد سعيد" ذلك لأن العمل الجوهري لهذا المثقف أن يتحدث عن السلطة إن حديث المثقف عن السلطة يرتبط بحرية مشروطة لا أعني بذلك شروط الوعي بل بشروط مدى اقترابه أو ابتعاده عن سلطة السلطة التي يتحدث عليها أو عنها اتصاليا نؤجل ذلك إلى نهاية القراءة·

 

اتصالية العنونة

 

"يحدث أمس - يحديث هذا الصباح - أمس كان غدا" يتصل العنوانان الأول والثاني بالفعل المضارع "يحدث"·· في "يحدث أمس"·· أمس: تجعلنا نرى أن ما يحدث قد حدث بالأمس بحكم التصريح "أمس" غير أن "يحدث" قابل كفعل مضارع للدلالة على الاستمرارية وعلى المستقبل باستقصاء "أمس" ومن هنا فإن المفارقة في حدوث الفعل في الزمن الماضي واستمراريته في المستقبل "أجل ما حدث أمس يحدث، اليوم ص 262 يحدث أمس"·

في "يحدث هذا كل صباح - محمود عبدالوهاب" نرى أن الفعل المضارع "يحدث" يفيد للحاضر والمستقبل·

إن اتصالية العنونة تمت عبر الفعل المضارع "يحدث"·· ثمة اتصالية أخرى مزدوجة:

الأولى: اتصالية - ظرفية زمانية "أمس" بين "يحدث أمس" و "أمس كان غدا للقاص والروائي كاظم الأحمدي"·

الثانية: اتصالية موضوع ويمكن تسميتها اتصالية تعاقبية·· ذلك لأن "أمس كان غدا" تتناول السنوات الأخيرة من عصر الاحتلال البريطاني للعراق، يمثل ذلك عائلة "مستر فيلمن" عبر اتصالية عقيل مع "عائلة أبي عقيل" الذي يمتهن النجارة لدى مستر "فيلمن"·· تحاول "مسسز فيلمن" إعادة صياغة عقيل من خلال رسمه في لوحة زيتية·· ورواية "أمس كان غدا - بغداد 1992" هي الجزء الأول يليه "نجيمات الظهيرة - بغداد 2001 ويليه "تجاه القلب" لم يطبع بعد وقد اطلعنا عليه شخصيا ضمن من اطلع عليه من أدباء البصرة·· في حين تبدأ "يحدث أمس" بعد سقوط الملكية وقيام ثورة تموز 14 يوليو وتحديدا سنة 1960 من هنا نرى أن اتصالية الموضوع: اتصالية تعاقبية فالرواية الأولى "أمس كان غدا" تتناول فترة ما قبل الثورة تعقبها "يحدث أمس" لتتناول السنة الثالثة للثورة· علما أن هذه الاتصالية هي اتصالية خارجية تجاورها اتصالية داخلية تمثلها ثلاثية الروائي كاظم الأحمدي "أمس كان غدا - نجيمات الظهيرة تجاه القلب"·

 

اتصالية قومية

(1)

 

بعد رباعيته الروائية التي كان العراق موضوعها "كانت السماء زرقاء - المستنقعات الضوئية - الحبل - الضفاف الأخرى" كان الروائي مهتما بـ "تصوير التوترات والصراعات الاجتماعية في الستينيات ارتحالات كتابية ص 77" بعدها ينتقل إلى الكتابة عن القضية الفلسطينية فيكتب "ملف الحادثة 67" وبعد مجموعته القصصية "الأقفاص واللغة المشتركة 1975" يتناول لبنان الدم المسفوك روائيا "الشياح 1976" تلك الرواية التي دخلت ضمن التثقيف الذاتي لليسار العربي "قررت الشياح على الكثير من الأحزاب الشيوعية لقراءتها سياسيا 17 - ارتحالات كتابية" ثم وبعد كتابات متنوعة: دراسات - نص مسرحي رواية دراسات عن مسرح سعد الله ونوس، يدخل الروائي إسماعيل إلى مصر القرن التاسع عشر عبر بوابة تاريخية كبرى هي كتابات المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي فيتصل التاريخي الذي لدى المؤرخ بالفني الذي يمتلكه الروائي على أثرها يتدفق النيل ثلاثا "البدايات - النواطير - الطعم والرائحة" بعدها مباشرة يكتب "يحدث أمس 1989" لكنها لا تنشر إلا بعد سباعيته عن فوز الطاغية للجارة دولة الكويت "إحداثيات زمن العزلة - 1996) فتنشر (يحدث أمس - في عام 1997 - دار المدى دمشق"

 

(2)

 

من خلال كل ذلك نلاحظ: أن اتصالية الروائي إسماعيل مع الهم القومي تتم عبر قدراته الفنية وعلى أهمية هذه القدرات، فهي منبثقة من تجربة قراءة لا من معايشة حياتية باستثناء رباعيته عن العراق فهي رواية منشأ وتجربة عراقية معيشة فالروائي "من أم عراقية وأب كويتي ومولود في العراق وكان في البال أيام مطلع الشباب أن أظل هناك·· على حد قول الروائي ذاته ص 19 ارتحالات كتابية" في حين كانت "ملف الحادثة 67" تشكو من برودة التأمل لأنها تفتقد حرارة التجربة وهذا الأمر ينسحب على الشياح وكذلك الجزء الثالث من ثلاثية النيل·· إنها الفروق بين السياحة والمواطنة· في السياحة قد يستغني السائح لكثرة زيارة البلد المعني عن الدليل السياحي وربما يكتب "ريبورتاجا" ناجحا إذا كان صحافيا لكن الكتابة الروائية لا طواف السائح بل ثبات الشجرة في المكان تحتاج وقد يختلف سائحان في معرفة هوية شجرة فهما لم يلدا معها ولم يكبرا في جوارها أو  تحت ظلالها، وعلى حد قول تلك العجوز البولونية "اسمع أيها السائح· لقد ولدت مع هذه الشجرة كنا طفلتين معا وكبرنا معا وهكذا ترانا الآن شائختين - محمود عبدالوهاب - رواية رغوة السحاب ص 61" وعندما يتأمل السائح، يرى ثمة اتصالية تماهي بين الشجرة العجوز "أتنقل بنظراتي بين كف العجوز ناتئة العروق وجذور الشجرة المتصلبة الممسكة بالأرض، التحمت عروق الكف وجذور الشجرة في عيني حتى كأنهما انبثقتا معا في زمن واحد وتربة واحدة ص 62 رغوة السحاب - محمود عبدالوهاب" لذا نرى أن كل هذه الروايات ذات الهم القومي باستثناء رباعيته عن العراق وسباعيته عن الكويت وهما منبثقتان من تجربة حياتية طويلة فإن الروايات الأخر تمثل "مراكز انتباه" روائية فقط·

 

اتصالية داخلية

 

"يحدث أمس" تتصل مع رباعيته عن العراق بالوجه التالي

اتصاليات: كانت السماء زرقاء

1 - اتصالية مكان: إيران "السماء زرقاء" هي الملاذ تحاول مجموعة بشرية الفرار إليها لكنها: تفشل··

"يحدث أمس": إيران منها تنطلق مجموعة بشرية يقودها المهرب "هادي" لكنها تفشل في التسلل إلى العراق·· وإيران بالنسبة الى "هادي" هي المكان الشريك: لانشطار حياة بين عائلتيه واحدة في العراق والأخرى في إيران·

2 - اتصالية تقنية: في السماء زرقاء يتناوب الحكي اثنان: الشخصية الرئيسية وضابط شرطة سابق تصيبه رصاصة في ظـهره فتعيقه عن الحركة·

"يحدث أمس" يتناول الحديث ثلاثة: المهرب "هادي" وسارق أسلحة "المقاومة الشعبية": "حاكم" والعائد إلى البصرة بعد غياب سبع سنوات في "الكويت" "سليمان"·

3 - مكان الحكي: عزلة مغلقة: في "·· السماء··" يجري الحديث في كوخ منعزل· "يحدث أمس": زنزانة في مديرية أمن البصرة·

 

اتصالية المستنقعات الضوئية

 

تتصل الروايتان "يحدث أمس" و"المستنقعات" بالسجن فهو المكان الأساس الذي تدرو فيه الروايتان·

 

اتصالية شخوص

 

الشخصية الرئيسية في "كانت السماء··" له علاقة بامرأتين: واحدة اختارها له أبوه زوجةً وأخرى تمت له بصلة قرابة بعيدة من أجل أن تصده عن الهروب إلى إيران لا تصده عن افتضاضها··· زواج هادي - يحدث أمس: تنفيذا لأمر أبيه وحين يموت·· يتزوج هادي باختياره هو امرأة إيرانية·· فينشطر هادي بين زوجتين وبين بلدين، وطنه العراق ووطن زوجته "إيران" الذي لا تغادره الزوجة، إنه انشطار مزدوج بالنسبة لـ "هادي" وسيكلفه باهظا·

 

اتصالية الموضوعة الروائية

 

الفترة التي يتناولها الروائي إسماعيل فهد من ثورة 14 يوليو في روايته هذه هناك من سبقه إلى ذلك وهناك من أعقبه روائيا·· السبق كان لرواية "الحقد الأسود" للدكتور شاكر خصباك·· فضيلتها الكبرى هي فضح ما اقترفه البعثيون بحق الحزب الشيوعي العراقي·· الرواية بسيطة ويعيق سيرورتها تلك المناجاة بين السارد وبين حبيبته "ندى" وهي أقرب إلى "الريبورتاج" والقارىء المطلع على فن الرواية يلمس ذلك دون الاطلاع على رأي الناقد محمد الجزائري في كتابه "حين تقاوم الكلمة" ثم تجيء مناوئة لها "الطريق المسدود كما يموت الآخرون - الصمت والحقيقة" لـ "ياسين حسين" يتميز الجزء الأول بتقنية روائىة عالية·· مع بدايات القرن الجديد ظهرت لـ "فهد جمال" وهو الاسم المستعار لـ "سليم الشيخلي" "عباءات محترقة 2001" وزارة الإعلام "؟" وهي رواية لا تحيد عن فكرة معينة فتسرع بإنجاز رأيها الروائي بذلك: وهي مجيء البعثيين للسلطة منذ الانقلاب الأسود الدموي في "فبراير - 1963" والذي يتسبب في ضياع عائلة عراقية بعد أن قتل البعثيون معيلها لانتمائه للحزب الشيوعي العراقي إلى ما بعد غزو الجارة دولة الكويت·· نرى أن الشخوص يتحركون حركة خارجية وبسرعة فائقة ولا تمتلك الرواية شروط الإقناع الروائي وتوظيفها للجنس لا يقدم أنها أقرب إلى "ريبورتاج" يفضح بصدق كل الأساليب الوحشية للبعثيين منذ أن ابتليت بهم هذه الأرض ذات السواد المزدوج: سواد الأخضر الذي نهبوه والأحمر الذي دفنوه في مقابر جماعية·· في "طفل الـ CNN" يكون سبب تشرد الشخصية الرئيسية خارج الوطن ما حدث لأخيه "قتل هاني بانقلاب فبراير 1963 انتزعه الحرس القومي  في ليلة رهيبة من بين زوجته وأطفاله أخذوه مع مجموعة من رفاقه إلى مشارف الصحراء وهناك دفنوه ص 14-13 إبراهيم أحمد - طفل الـ CNN" دار المنفى السويد الطبعة الأولى 1996"·· "وليمة لأعشاب البحر - حيدر حيدر" يتناول فيها المؤلف حيدر حيدر التجربة المشرفة الجرىئة للـ "فيت هور" كما كان يطلق يومها على أبطال القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي·

نرى أن كل هذه الروايات ذات اتصالية فاعلة بالموضوع عبر شخوصها المؤثرة في سيرورة الحدث سلبا أو إيجابا بينما شخوص "يحدث أمس" منشغلة بمراياها الخاصة التي لا تعكس غير صورها أو صور مشتقاتها·

 

اتصالية الهندسي بالإيديولوجي

 

من الأشكال الهندسية تختار الرواية الدائرة ولهذا الشكل بالذات بثه الدلالي المؤثر، تبدأ الرواية بعودة "سليمان" إلى بيته في السبيليات أبي الخصيب·· بعد غيبة سبع سنوات في الكويت فيلقى القبض عليه من "أمن الثورة" كما يسمى المؤلف "المقاومة الشعبية" ميليشيات الحزب الشيوعي العراقي ولا يطلق سراحه إلا في الصفحات الأخيرة من الرواية وفي العنوان الفرعي الوحيد في الرواية "حدث تلك الليلة" يعترض "سليمان" للمرة الثانية وهو قام من السجن إلى بيته رجال المقاومة الشعبية أقصد "أمن الثورة" كما يطلق عليهم المؤلف ويقاد إلى السجن الذي خرج منه للتو وهكذا ينغلق باب السجن هذا ما تدل عليه وظيفة الشكل الدائري في الرواية والدائرة على حد قول المؤلف "شكل هندسي مغلق تحكمه أبعادا متساوية ويمثل بصفته المكتملة ككرة حالة الاستقرار المستمر (صـ 23) ارتحالات كتابية مرسل فالح العجمي" وهكذا تتضح اتصالية الهندسي بالإيديولوجي الذي يصرح الروائي أن روايته هذه بالذات خالية من الإيديولوجي·

 

اتصالية الإيديولوجي بالروائي

 

حاول الروائي إسماعيل أن يغمر الإيديولوجي بالفني من خلال اختيار ثلاثة أشخاص حياديين في علاقاتهم بثورة 14 تموز مصرحا بأن روايته خالية من الإيديولويجا، علما بأن الأمر لا يخفى على روائي تقدمي مثل إسماعيل فهد إسماعيل أن الفني ينتج إيديولوجية ضمن فنيته بالذات "تظهر محاولة تغيب الإيديولوجيا عبر توفير ديمقراطية نصية من خلال تعدد الأصوات الروائية بحيث لا تنطق الشخوص بصرف النظر عن اختلافها بوجهة نظر المؤلف أو بصوته ولعل الأمر لا يخلو من ارتباط حدث أو حادثة أو ظاهرة تفكك المعسكر الاشتراكي "(صـ 16) ارتحالات كتابية" ونرى أن من الضروري أن نفك وجهة نظر المؤلف حول اتصالية الشكل الفني أو ما يسميه المؤلف "استبدادية الإيديولوجيا (صـ 16) ارتحالات كتابية" بالمعسكر الاشتراكي· إن الإيديولوجية الماركسية اللينينيّة بريئة كل البراءة من الممارسات البيروقراطية للجهاز الإداري في المعسكر الاشتراكي كما أن تعددية باختين حول روايات دستوفسكي موجودة ولها صداها الإيجابي بين المثقفين بعيدا عن الإيديولوجيا الرسمية المشوهة للماركسية اللينينيّة والأمر لا علاقة له مباشرة بذلك هذا ما تؤكده رباعية لورنس داريل وعلى المستوى العربي في زمن قوة المعسكر الاشتراكي وتأثيراته علينا، استفادة من رباعية داريل وكتب "الرجل الذي فقد ظله" فتحي غانم كما كتب نجيب محفوظ "ميرمار" على نهج داريل نفسه·

إن تناول الروائي للواقع المعيش بتحيد روائي أعني اختيار شخوص في مرحلة ملتهبة ما بعد قيام ثورة 14 تموز بسنتين شخوص لا علاقة لهم بتوتراتها منغلقين على دوائر ذواتهم، هذا التحيد لا يمنحنا سوى رؤية عائمة تقصي سيرورة حركية التاريخ الموضوعية وتيار الخطاب السياسي بتجربتها الشخصانية "تجربة المؤلف ذاته مع الثورة وما لاقاه من سجن لقاء تهجمه شعريا على ذات الزعيم الركن عبدالكريم قاسم (صـ 5 ارتحالات أدبية) يفترض بالروائي الذي رأى أن "القراءة الماركسية للتاريخ هي الأكثر صوابا من ناحية حركة المجتمع وطبيعة الصراعات داخله أو تلك التي تحكم الصراعات الدولية (صـ 16) ألا يرى من عراق الستينيات سوى "مديرية أمن البصرة" وحسب، وألا يتعامل مع الواقع الستيني فقط من خلال ما لاقاه هو من ظلم شخصي لا يعد إلا مرحمة مقارنة بالعقوبات الصدامية التي وضعها الطاغية التمثال منذ 1968 إلى سقوط تمثاله فهناك 73 مادة قانونية يعاقب المواطن عليها بالإعدام ومعظمها تمس ذات الحاكم الطاغية لقد سجن الروائي لقاء نشره قصيدة يتهجم فيها على الزعيم الخالد ثم أطلقوا سراحه (صـ 9 ارتحالات كتابية) إن الثورة العراقية "14 تموز 1985" أنجزت الأهم الذي أغاظ الأعداء وجعلهم يتخلون عن مركباتهم الشخصية ليصعدوا مجتاحين البلاد في القطار الأسود الدموي قطار 8 شباط 1963··

إن فضاء الخطاب الروائي في "يحدث أمس": مساحة من المعرفة الاجتماعية محددة بتجربة المؤلف الشخصية مع ثورة "14 تموز" فإذا به يعتبر ما لاقاه هو شخصيا أهم من كل منجزات الثورة وهنا تتراجع المادية التاريخية التي كان الروائي قد صرح بالانتماء لها· لقد انتفت الحاجة إلى الإيديولوجيا لقد انحل المعسكر الاشتراكي فليتخلص الروائي إسماعيل من استبداد الإيديولوجيا الماركسية التي تجعل الكتابة فعلا سهلا (صـ 16 ارتحالات كتابية) والآن والآن فقط تنبه المؤلف الى ضرورة الجمع بين هويتين في هوية واحدة "هويتي في الشكل وهويتي في الإيديولوجيا صـ 17 ارتحالات كتابية"·· أرى أن السبب كالتالي الكتابات الأولى ذات الشكل المبتكر "رباعيته عن العراق" تحديدا هي روايات تجربة معيشية في حين الروايات التالية للرباعية هي مراكز انتباه روائية تفتقد لحرارة التجربة إنها خلاصة قراءات وسفرات سياحية "الشياح ثلاثية النيل" لا كما يرى المؤلف "أين أنا من رواياتي السابقة؟ فالروايات الأولي ميزها النقاد بالشكل المبتكر، في حين أن روايات لاحقة وجدت صدى لدى مناخات إيديولوجية متعددة تجتمع تحت مظلة اليسار 17"·

وعن موقفه من ثورة 14 تموز أود أن أذكر الروائي الذي رأى بالماركسية اتصاليته بالتاريخ برفيق له في هذا المضمار تجاوز ما لحق به من أذى وميز بين الفردي في تصرفه المنفلت وبين حرص الثورة على أبنائها وليكن شاهدنا على ذلك الروائي التقدمي "حنا مينا" الذي له منزلة كبرى لدى الروائي التقدمي إسماعيل فهد إسماعيل "إن الذين لا يملكون علوا في نقطة الملاحظة ويقيسون الأمور بالخط المستقيم وبزمن العمر الشخصي يريدون من هذه الثورة أن تحقق في هذا المدى القصير كل أهدافها وكل خيالاتهم عن البناء الفوقي فيها وهذا مستحيل لا معقول علميا ولأنهم لا يرغبون في فهم هذه الحقيقة يبدون وكأن آمالهم قد خابت وينقلبون إلى متشائمين·· وقد يشهرون القلم ضد الثورة أو يعمدون لستر تنازلاتهم المبدئىة إلى تفسيرات تحريفية يزعمونها تجديدا ثوريا في أيامنا هذه·· ناظم حكمت أفلت من هذا الفخ·· عاش في الاتحاد السوفييتي ثلاثة عشر عاما ووجد إنجازات ضخمة لكنه وجد في المقابل فارقا بين خياله الشعري والواقع الموضوعي للبناء الفوقي وتألم من البيروقراطية والأخطاء لكنه كان يملك علوا في نقطة الملاحظة·· وحين عمد - كما يروي - أقدم شاعر سوفياتي محدود بدافع الحسد أو العداء إلى شتم ناظم حكمت إثر نقاش بينهما تألم هذا وثار برجولة وكبرياء إلا أنه لم يخلط بين النظام الاشتراكي وأحد أبناء هذا النظام وقال للذين قدموا خدودهم من الكتاب والشعراء ليرد الإهانة عليها "يا أصدقائي لا تعاملوني كطفل عاجز عن التمييز··" وقال مؤكدا "وجودي هنا مرتبط بقضية لا بأشخاص صـ 25-24 حنا مينا" ناظم حمكت السجن/ المرأة الحياة/ دار الآداب/ الطبعة الأولى 1978·

 

كهف أفلاطون

 

اتصالية الشخصيات الثلاث بثورة 14 تموز·· هي اتصالية انفصال أي اتصالية سلبية فالواقع المعيش بصراعاته المدببة لا يعني للشخصيات شيئا وهوسهم بالشخصي يورطهم في التهلكة·· وتتصف شخصية المهرب بالحذر والفطنة وسوء الظن من الفطن "رحم الله ابن المقفع" مثلما تتصف بالمغامرة لكن "هادي" المهرب المزدوج لا يشك البتة في الصفقة التي يعقدها "شاهبردي" المهرب الإيراني لتهريب "50" رأسا بشريا إلى العراق وهو يعطيه أجرا خياليا والمياه الإقليمية مضاءة بالطرادات العراقية - الإيرانية·· "حاكم في الزمن المضطرب والأعداء تجمد تناقضاتها لتغدر بالثورة العراقية الفتية وبسطاء الناس ترى في الثورة وفي الزعيم الركن عبدالكريم قاسم منقذها فتتطوع في "المقاومة الشعبية" فإذا به يقوم بسرقة مشاجب السلاح العائد للمقاومة الشعبية؟ في حين يمكث غير بعيد "سليمان" المثقف ثقافة يسارية والمستنكف من مخدومه الإقطاعي العراقي·· يمكث سبع سنوات في الكويت دون زيارة ذويه في (السبيليات) أبي الخصيب على قصر المسافة بين الكويت والبصرة·· ثم يزورهم في زمن أراده الأعداء مضطربا ولا يريد أن يضع في باله أن من حق الثورة والحريصين عليها أن يتشككوا فيه·· و"سليمان" حتى وهو في السجن لا تتداعى ذاكرته إلى سبيليات قدر تداعيها إلى "الكويت"·

نرى أن النص الروائي "يحدث أمس" يقدم لنا نفسه من خلال الشخوص الثلاثة وموقف كل واحد منهم من الثورة، بوصفه تعليقا مبتعدا عن لحظة ثورية تاريخية متفردة "14 تموز"، ممارسا قلبا للتاريخ ومقاومة له وبالطريقة هذه فالرواية تنبهنا دون قصد منها إلى ما تجاهلته عمدا باسم تعليق الإيديولوجي من الروائي وما تجاهلته هو "قوى الصراع، سبب الصراع، سبب التشدد الأمني" وهكذا نبهتنا الرواية إلى الملغى المغيّب قصدا فيها، وفي رباعيته عن العراق في "الشياح" ملف الحادثة 67 ثلاثية عن النيل كان الروائي إسماعيل فهد إسماعيل، يشغل نصه ضمن التراتبية التالية: الإيديولوجي، التاريخي الفني في "يحدث أمس" الإيديولوجي لا التاريخي كان المهيمن لأن عناصر اللحظة الثورية آنذاك والمعادية للثورة: مغيّبة متوارية منزوية بقصد من المؤلف الذي أراد أن يكتب نصا بلا إيديولوجيا وهنا نستعين بالناقد الماركسي "تيري إيغلتون" في مقالته "علم النص" لنقول: "تنتج الإيديولوجيا بالأدبي: الواقع وتبينه لكي تغلب غيابها على إدراك حضورها" نكرر: للمرة الأخيرة أن هامشية شخوص الرواية تجعل قدراتهم على المستوى الأدبي ضعيفة في نقل وإنتاج المعني إنهما موجودان في الداخل "هادي" و"حاكم" من خلال عدم موجوديتهما في توترات المرحلة إنهما غير معنيين بكل ما يحدث في الداخل لا تهمهما سوى مصلحتهما الشخصية ولكنهما في الوقت نفسه لا ينضّدان ضمن تراتبية الأعداء الواعين لدورهما ضد الثورة وما يلحقهما من عقاب نتيجة غفلتهما الاجتماعية·· إن "هادي" و"حاكم" وكذلك "سليمان" لا يقفون على مرأى مما يجري ليروا الأشياء كما هي·· إنهم يرون ظلال الشيء لا الشيء بقسماته الواضحة فهم يجلسون في كهف "أفلاطون" ويديرون ظهورهم للنور القادم من الثورة فلا يرون من الذين يمرون بجوار الفتحة أو يتساقطون من أجلها سوى ظلالهم السود·

في "اتصالية السياسي" الفقرة الأولى من قراءتنا قلنا أن العمل الجوهري للمثقف أن يتحدث عن السلطة·· نرى أن "يحدث أمس": منتوج معرفة سلطة دولة الكويت بثورة 14 تموز الخالدة أن الرواية ممارسة أدبية في السلطة السياسية لدولة الكويت فمعرفة الثورة روائيا لم تكن من داخل خطاب الثورة بل من خارجها وتحديدا من خطاب سياسي أقلقته مديات ثورة 14 تموز رغم أن الحزب الشيوعي العراقي يومها أصدر بيـانا يطمـــئــن الكـــويت وقـــد جاء في البيان "حق الشعوب الصغيرة في تقرير مصيرها"·· لا ثوريين حقيــقـيين فـــي الــــرواية ولا أعداء من الدرجة الأولى، أليس في اختيار الهامشيين الثلاثة ما يراد منه تهميش الثورة ذاتها؟

لم يكن الانفلات الأمني والرعب والفوضى كما هي الحال الآن بضاعة منتجة محليا بــــل بضـــاعة دسـت إلينا من كل مكان بماركة مسجلة واحدة "يا أعداء العراق اتحدوا" أجل إن "ما يحدث اليوم /266"

 

"يحدث أمس" إسماعيل فهد إسماعيل - دار المدى دمشق1997

طباعة  

وتــد