رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 2 رجب 1425هـ - 18 اغسطس 2004
العدد 1641

دراسة علمية لباحث سعودي تناقش(1-2)
الشروط الموضوعية لتحقيق الديمقراطية وتطوّرها

                                                   

 

·         الهياكل السياسية وخصوصاً الأحزاب مصممة على تهيئة التغيير في المجتمع

·         الديمقراطية "مساومة" تتوصل إليها مجموعات متصارعة الى الاعتراف بحتمية تقسيم السلطة

·         عملية التحول الديمقراطي تستكمل حين يتم إقامة حكومة منتخبة بحرية مع سلطة سيادية

·         البحبوحة الاقتصادية تؤدي الى انخفاض عدم المساواة والتمييز والصراع الطبقي الفطري وتوزيع مصادر السلطة بصورة واسعة

·         التجمعات قد تعترف أو تنكر بصورة كاملة قوامية وسيادية الملك ومن هم على قمة الهرم السياسي

·         بات من الصعب الاحتفاظ بموازنة مستقرة بين الملك والجماعات الإثنية والقبلية

·         الترتيبات الهيكلية في الأنظمة السياسية غير السواسية التقليدية هي في تعارض دائم مع تلك الموجودة في الأنظمة الليبرالية الديمقراطية والتسلطية العادية

·         النظام يمكن أن يكون ديمقراطيا إذا شاركت نسبة كبيرة من السكان في صنع القرار

·         تقسيم المساواة وعدمه يتم بواسطة معرفة الدخل لدى الفرد أو توزيع رأس المال عبر السكان

 

محمد الهويمل:

مشكلة الإجابة عن السؤال المركزي: لماذا بعض الدول ديمقراطية وأخرى غير ذلك؟ هي مشكلة شغلت لفترة طويلة علماء السياسة· فلماذا تكون الهند ديمقراطية فيما لا تزال الصين تحكم من قبل حكام تسلطيين؟ ولماذا أثبتت الديمقراطية بأنها مستقرة في شمال أمريكا بينما لاتزال متذبذبة في أمريكا اللاتينية؟ فما الشروط التي تؤدي الى بزوغ وترعرع الديمقراطية؟

لقد أثار الفيلسوف الليبرالي جون ميل في القرن التاسع عشر سؤالاً حول فرص التحوّل الى الديمقراطية في أي بلد· ولكن هذا السؤال كان يصدر عن نزعة شوفينية، فقد زعم بأن الحكم الديمقراطي يستدعي مستوى حضارياً متقدماً· وعليه، فقد منح جون ميل الغرب حقاً مفتوحاً في إدارة بلدان العالم· وقال بأن البلدان غير الغربية ليست مؤهلة كيما تحكم نفسها بنفسها، وأنها بحاجة الى سلطة راشدة من خارجها، أي غربية· وقد تبنى هذا الطرح معظم المفكرين المتنورين في تلك الحقبة· بيد أن هذه الطروحات محقت عقب تحوّلات تاريخية وفكرية شهدها الغرب، مع تضاؤل النزعات الشوفينية التي كانت مرتبطة بأنظمة سياسية واجتماعية معينة·

إن واحدة من المقاربات العلمية لشروط الديمقراطية التي ظهرت لاحقاً هي التحديث، كما نظّر لهاLipst  إن الجدل المحوري في هذه المقاربة يدور في إطار الفكرة التالية: أن بحبوحة العيش تنجب ديمقراطية مستقرة، في كتابه المعروف(Political Man) توصل ليبست الى أنه بقدر ما تحقق الأمة من أداء حسن، فإن فرص تعزيز الديمقراطية تكون أكبر· وكغيره من المؤيدين لهذه النظرية، فإن ليبست استعمل معلومات احصائية لدعم أطروحته، وقد أظهر بأن الديمقراطيات المستقرة سجّلت أعلى مما فعلت الأنظمة التسلطية في قياسات مثل: دخل الفرد، التعليم، ومعدلات السكان الذين يعيشون في المدن· وهناك أبحاث جديدة أكّدت بأن العلاقة بين بحبوحة العيش والديمقراطية المستقرة مازالت قائمة، رغم أن الديمقراطية يمكن تعزيزها في مستويات أقل من الدخل القومي· "صموئيل هنتنجتون"، على سبيل المثال، أظهر بأن الدولة غير الديمقراطية التي كانت في 1970 أكثر ثراء كانت أكثر تأهيلاً لأن تصبح ديمقراطية عام 1989 فالتحولات الديمقراطية كانت متمركزة في البلدان ذات الدخل المتوسط في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية، وليس في البلدان الأشد فقراً من جنوب آسيا وأفريقيا· وتلخيصاً للبحث الذي حفّزته نظرية ليبست، فإن ماركس ودايموند(1992)  وصفا الصلة بين البحبوحة المالية والديمقراطية باعتبارها (واحدة من أشد العلاقات استقراراً وقوة في دراسة التنمية الوطنية المقارنة)·

 

البحبوحة الاقتصادية

 

ولكن يبقى السؤال: كيف تنجب بحبوحة العيش ديمقراطية؟ وما الآليات الضالعة في عملية الإنجاب؟، فهنا يصبح عمل ليبست ضئيل الفائدة، وأن ما تبديه نتائجه من شيء في هذا الصدد تعجز في حد ذاتها عن إثبات العلاقة· لقد توصل ليبست الى مجموعة مقترحات مهمة في هذا الصدد، كالقول بأن التنمية الاقتصادية والتعليم يشجعان طبقة وسطى كبيرة على معارضة التطرف· كما يعتقد أيضاً بأن الطبقة الدنيا التي تعيش تحت الفقر المدقع لن يمكن حينئذ رؤيتها باعتبارها دون الطبقة العليا· وبصورة عامة، فإن البحبوحة الاقتصادية كما يبدو تؤدي الى انخفاض عدم المساواة والتمييز، والصراع الطبقي الفطري، وتوزّع مصادر السلطة بصورة واسعة بحيث لا يمكن لجماعة واحدة أن تسيطر على الجميع، كما يذهب الى ذلك (فانهانن)· إن هذه جميعها تعتبر شروطاً تفضي الى توافق ديمقراطي من نوع ما·

إن المقاربة البديلة للشروط التي تحتها تتطور الديمقراطية هي تاريخية بدرجة أساسية· والتركيز هنا يتم على كيفية إدارة المجتمعات لعملية الانتقال من المجتمع الزراعي الى المجتمع الصناعي، والتداعيات التي يعكسها هذا الانتقال على نوع النظام السياسي الذي ينشأ عنه· إن أهم عمل ريادي في هذا الصدد هو لـ Barrington Moore حول الاصول الاجتماعية للديكتاتورية والديمقراطية والذي صدر عام 1966· فبينما يشدد ليبست على تأثير ما اذا كان المجتمع محدَّثاً بدرجة كافية، فإن مور يحاول اختبار الموروث وكيف أن المجتمع يقوم برحلته الكبرى من الطور الزراعي الى الطور الصناعي· إن منهجية مور تقع في مجال التاريخ المقارن، وهو يسأل لماذا قاد طريق الحداثة كلا من اليابان وألمانيا الى الفاشية وروسيا والصين الى الثورة الشيوعية، وانجلترا وفرنسا والولايات المتحدة الى الديمقراطية الليبرالية· للتذكير فقط فإن هذه الدول أصبحت الآن (باستثناء الصين) ديمقراطية· وعليه، فمن منظور معاصر فإن تحليل مور يمكن النظر اليه باعتباره تحليلاً لكيفية إنتاج التحديث للتباينات في العملية التاريخية طرقاً متقابلة الى الديمقراطية· إن العامل الحاسم هو ما اذا كان بإمكان الطبقة المتصاعدة من الموظِفين الصناعيين التطوّر والنمو ما لم تكن مغلقة· وعلى حد قول مور (لا برجوازية (يعني) لا ديمقراطية)· وعليه فإن مور كغيره عديدين يرى بأن الديمقراطية باعتبارها تعبيراً سياسياً للنمو الرأسمالي، وهو استنتاج يدعم فكرة ليبست بأن الطبقة الوسطى تساعد في استقرار الديمقراطية· فبريطانيا على سبيل المثال اقتفت طريق التحديث المتوازن، فلا الارستوقراطية ولا الدولة قادرتان على مقاومة ضغوط التغيير· وهذا قد حرر الطبقة المدنية من الصناعيين ليس فقط للنمو اقتصادياً بل وأيضاً للضغط من أجل المزيد من التحرر، ولكن ليس الى حد التأثيرالبالغ في النظام السياسي·

 

تحالف رجعي

 

في كثير من البلدان، فإن برنامج النمو الرأسمالي قد تم لجمه· فقد أثبت ملاك الأراضي الأقوياء أنهم المصدر الرئيسي للمقاومة، وأن الارستوقراطية العقارية المستثمرة للفلاحة التابعة (سواء عن طريق الاسترقاق أو أجهزة قهرية أخرى) استعملت سلطتها السياسية لمنع التحوّل التدريجي للمجتمع الصناعي· وفي بعض البلدان، فإن ملاّك الأراضي توّخوا تحالفاً رجعياً مع دولة قوية، ولذلك فإن تحديثاً متوازناً قد تم منعه، وبهذا كانت الديمقراطية مستحيلة فأصبحت الثورة السياسية هي الناتج المحتمل· إن طبيعة هذه الثورة تختلف على أية حال· فحين كان بالإمكان تعبئة وتجنيد الفلاحين كما حصل في الصين فإن ثورة شيوعية أصبحت ممكنة· وحين كانت الطبقة الفلاحية ضعيفة، فإن الطبقة الرجعية المهيمنة كانت قادرة في نهاية المطاف على فرض القهر عبر الفاشية كما في ألمانيا· إن ثورات كهذه ساهمت دون ريب في تأخير تطوّر الديمقراطية، فلم تستطع المانيا تأسيس ديمقراطية ليبرالية بمعناها الغربي الا بعد هزيمة الفاشية في عام 1945، وبطبيعة الحال، فقد بقيت الصين دولة تسلطية حتى اليوم·

 

التحوّلات الى الديمقراطية

 

لقد أتاحت موجة الدمقرطة منذ السبعينيات من القرن المنصرم لعلماء السياسة فرصة غنية لمراقبة - بصورة مباشرة - عملية بناء الديمقراطية· وقد قاد ذلك الى الانحياز بعيداً عن المقاربات التحديثية الواسعة والتاريخية التي تبناها كل من ليبست ومور· إن الأبحاث المتأخرة بدأت تركّز بدرجة أقل على الشروط الكامنة للديمقراطية وأخذت في التعامل بشكل أكبر مع التكتيكات المباشرة لعملية التحوّل، المشكلة الفكرية هنا هي فهم كيفية صناعة الخيارات من قبل السياسيين في حركتهم من الشمولية التسلطية والتي تؤثر في سرعة التحوّل، والشكل، والناتج من تغيير النظام· إن هذه المقاربة تضع أهمية أكبر على الوسيلة الإنسانية، فالتاريخ ليس قدراً والديمقراطية يجب أن تصنع على حد قول "دي بالم"·

لقد دشّن Dankwart Rustow حقلاً جديداً باسم علم التحوّل (transitlogy)  لدراسة التحولات الديمقراطية· لم يكن سؤال روستو عن العوامل المشجّعة على الاستقرار الديمقراطي، ولكن كيف يستطيع السياسيون إظهار الديمقراطية الى حيز الوجود في المقام الأول· وكان جوابه بصورة واسعة بأن الديمقراطية هي مساومة تتوصل اليها مجموعات متصارعة والتي تتوصل في نهاية المطاف الى الاعتراف بحتمية تقاسم السلطة· إن الجماعات التي تعترف باستحالة احتكار السلطة تقوم بتسوية، حيث تمنح الفرصة من أجل الفوز بمنصب عبر الانتخابات· وبالرغم من أن مقاربة روستو كانت تختلف كثيراً عن مقاربة ليبست، فإنهما توصلاً الى استنتاج مماثل: أن الديمقراطية هي حاصل عملية توافق ومصالحة· فانتقال جنوب افريقيا من حكم البيض كان مثالاً ساطعاً، ونجاح الديمقراطية في جنوب أفريقيا وأماكن أخرى يندرج تحت كونها الخيار الثاني لكل شخص: إنها غير مفضلة لأحد وفي الوقت ذاته مقبولة لدى كل شخص·

 

النخب السياسة

 

إن أهم الاكتشافات التي توصلت اليها نظرية روستو في علم التحوّل هو الدور المركزي الذي تلعبه النخب السياسية· حتى وإن كانت الديمقراطية مصنوعة من أجل الناس، فإنها نادراً ما تكون مصنوعة على أيديهم ومن قبلهم· وهذا يعني أن الديمقراطية مفروضة من أعلى· وحسب أحدهم فإن الضغط من أسفل نادراً ما كان عاملاً من عملية الدمقرطة· وفيما أخذ هذا الضغط شكلاً راديكالياً كما في غواتيمالا والسلفادور، فإنه أدى الى تشديد قبضة الحكم التسلطي، فيما يبقى مثال نيكاراغوا عام 1979 الذي أدت فيه المقاومة الشعبية الى النجاح في إسقاط الدولة التسلطية· هناك من يرى بأن عملية الدمقرطة تمر بثلاث مراحل أساسية: اللبرلة (liberalization)  حيث تسترخي فيها قبضة الدولة، وتسمح بقدر ما من المنافسة السياسية، وتخفف من قمعها، ورقابتها على وسائل الإعلام، وتطلق سراح المعتقلين السياسيين··الخ، أما المرحلة الثانية فهي: التحوّل والانتقال(transition)  حيث يتم فيها تفكك النظام القديم، ويحل محلها المؤسسات الديمقراطية· إن عملية التحوّل الديمقراطي تستكمل حين يتم اقامة حكومة منتخبة بحرية مع سلطة سيادية، والانتقال يحدث عن طريقين: الاصلاح(reforms)  حيث تقوم النخب القائمة بأخذ المبادرة في التأسيس لتغيير سلمي، أما الطريق الثاني الانشقاق والعصيان(rupture)  حيث تأخذ المعارضة المبادرة فيما يتعرض النظام القديم للانهيار من خارجه وليس من داخله وذلك عن طريق العنف اذا تطلب الأمر، على أن هناك من يجادل بأن طريق العصيان قد لا يؤدي الى الديمقراطية كما حدث في رومانيا بعد الاطاحة بنظام تشاوشيسكو عام 1989 والذي جاء بحكم غير ديمقراطي واستمر حتى وقت متأخر· والمرحلة الثالثة: الاستتباب (consolidation). فالديمقراطية تتعزز حين توفّر اطاراً مقبولاً للمنافسة السياسية، وبحسب برزورسكي فإن الديمقراطية تتعزز حين يصبح نظام خاص بالمؤسسات تحت شروط سياسية واقتصادية معينة هو اللعبة الوحيدة في المدينة وحين لا يكون بمقدور أحد تصور القيام بعمل خارج المؤسسات الديمقراطية، ومن أجل تحقيق ذلك، أي استتباب الديمقراطية، فإن الأخيرة يجب أن تمنح أفقاً حقيقياً للفوز بالانتخابات بالنسبة للمعارضة، وهذا يعطي خصوم الحكام القائمين حافزاً على قبول النظام السياسي بصورة عامة· فقد انتقلت كوريا الجنوبية بصورة سلمية الى الديمقراطية عن طريق لانتخابات الرئاسية عام 1997 والتي جذبت اليها القوى المعارضة والحكومة على السواء·· يقول علماء السياسة بأن استتباب الديمقراطية لا يتطلب من النخبة السياسية إظهار إجماعها حول المبادىء الديمقراطية·

 

من يحكم؟ وما مدى المشاركة والديمقراطية؟

 

البعد المباشر والأول لتعريف ورؤية مدى المشاركة والديمقراطية في أي بلد يرد الى عدد أو بصورة أدق الى نسبة الأشخاص في الحكم، أي المنخرطين في العملية السياسية· فإذا قيل بأن جميع الاشخاص في الحكم منخرطون في العملية السياسية فإن النظام يكون حينئذ ديمقراطياً، ولكن حقيقة الأمر ليس هناك نموذج كذلك، ويرى روسو في (العقد الاجتماعي) بأن الديمقراطية الكاملة مستحيلة، وفي الطرف الآخر هناك نموذج الانظمة السياسية التي تدار من قبل شخص واحد، وهذا النموذج أيضاً مستحيل، ولذلك فإن ما يمكن رؤيته هو مواقع بينية تحمل خصائص الديمقراطية والشمولية الفردية·

ولذلك، فإن محتوى مفهوم الديمقراطية أو الملكية يجب أن يكونا مسترخيين في إتجاهين: أولهما يتعلق بالعدد أو النسبة: فالنظام يمكن أن يكون ديمقراطياً إذا كانت نسبة كبيرة من السكان تشارك في عملية القرار· وثانياً، وحيث إن هناك صعوبة لتعريف السلطة التي تخضع تحت تأثير المعارضة (حسب دال 1963) فإن من الضروري الأخذ بنظر الاعتبار حتى دور أولئك الفاعلين في عملية صناعة القرار وإن كان محدوداً أو انتقالياً حيث ينظر شخص ما الى الديمقراطيات الحقيقية في العالم·

 

وهذا ينقلنا الى السؤال الجدلي: هل السياسة نشاط إجرائي؟

 

السياسة تعتبر بحسب البعض نشاطاً اجرائياً مرتبطا بعملية صناعة القرار، وليس بجوهر ومحتوى القرارات، وفيما يقدر أي نظام سياسي على تثبيت سياسة ما، ولذلك فإن من المنطقي، كما يبدو استثناء محتوى السياسات في محاولة الى تصنيف الانظمة السياسية بحسب معاييرها·

إن هذا الرأي خطأ· فالتوصيف المقارن للأنظمة السياسية يجب أن يأخذ في الحساب السياسة التي يجب على هذه الانظمة تطبيقها· فعلى سبيل المثال، فإن نظامين سياسيين قد يكونا تسلطيين، ولكن قد يختلفان بناء على الاعمال التي يقومان بها فيما يتصل بـ: العقار، التركيبة الاجتماعية، التعليم، ولذلك فهناك أنظمة تسلطية محافظة وأنظمة تسلطية تقدمية، وهذه التمايزات في واقع الامر يتم التعامل بها في اللغة العادية: إن الحكومة وكذلك الهيئات الأخرى داخل النظام السياسي مثل الاحزاب والجيش ميّز بخاصية الحد الذي يمكن اعتبار الحكومة محافظة أو تقدمية وهكذا ليبرالية أو ديمقراطية·

 

عن المساواة

 

متى يمكن القول بأن هذا النظام السياسي سواسي أو خلافه؟

في الطرف الأول يمكن وصف نظام سياسي بأنه (يوتوبيا شيوعية) أي مساواة كاملة، وفي الطرف الأخرى مجتمع بطركي بالكامل، حيث يحظى شخص أو فئة محدودة بالغالبية العظمى من المنافع·

إن الأرضية التي يقوم عليها عدم المساواة تختلف من حيث الخصائص التالية: الارث، العرق، العقيدة، الوظيفة أو الطبقة، وفي حقيقة الأمر فقد ينشأ عدم المساواة عن حاصل جمع بين هذه الخصائص، وسيكون هناك أيضاً درجات مختلفة من المساواة والتمييز·

 إن التأثير الكلي في كل الأحوال هو الإشارة الى أن جميع المجتمعات يمكن موقعتها عند نقطة ما في البعد الثالث من الاهداف، وهو البعد الذي ينشق ظاهراً عن أبعاد الليبرالية في مواجهة التسلطية والديمقراطية في مواجهة الملكية·

إن تقييم المساواة وعدمها يتم بواسطة معرفة الدخل لدى الفرد أو توزيع رأس المال عبر السكان، بالرغم من أن هناك مؤشرات أخرى بحاجة الى الاستعمال مثل الحد الذي تمتلك به الأقليات فرصاً متساوية للوصول الى المناصب المختلفة·

فإذا كانت درجات اللبرلة تقيّم من الناحية التقليدية بالحد الذي تحققت فيه مختلف الحريات في النظام السياسي، بالرغم من أن كثيراً من هذه المؤشرات قد تكون ذات طبيعة كيفية أكثر منها كمية، إن مستوى الديمقراطية يمكن بالطبع قياسه جزئياً بالرجوع الى الفرصة الممنوحة للمواطنين في المشاركة في العملية الانتخابية، ولكن هناك مؤشرات أخرى تحتاج الى الأخذ في الحسبان مثل مستوى المشاركة في الاحزاب السياسية والجماعات الضالعة في صناعة القرار الوطني·

ـ اذا تم تغيير نظام ما أو جرى استبداله بآخر لديه أهداف مختلفة (ليبرالية أو ديمقراطية أو سواسي الى حد ما) فإن موقع النظام في الفضاء البعدي الثلاثي للمعايير يتغير هو الآخر·

ـ إن الترتيبات الهيكلية في الأنظمة السياسية غير السواسية التقليدية هي في تعارض حاد مع تلك الموجودة في الأنظمة الليبرالية الديمقراطية والتسلطية العادلة، حيث إنها ليست بأي حال نتاج قرارات تشاورية، دع عنك كونها نتاج فرض على هيكلية قائمة سلفاً· إن الانظمة السياسية التقليدية لديها ترتيب مؤسسات، من بين جميع الانظمة السياسية، تتوافق الى حد كبير مع التركيبة الاجتماعية في واقع الأمر إن هذه هي الأنظمة السياسية التي تتداخل بين السياسة والمجتمع بصورة شبه كاملة لأن العناصر الوحيدة التي تحسب هي الجماعات التقليدية والمواقف المراتبية التي تبقى بين وداخل هذه المجموعات، وعليه فليس هناك مضمار سياسي بالمعنى، سواء تم تعريفه بصورة صحيحة أو مختلة· وبصورة محددة، فليس هناك أحزاب سياسية وفي الغالب ليس هناك برلمان·

إن البيروقراطية نفسها محدودة نسبياً، أو على الأقل تقليدية غالباً من بين هذه الدول، وما يميّز هذه الانظمة هو منظومة الولاءات للخاصية الفردية أو الجماعية، والتي تبدأ في مستوى الوحدات الصغيرة (أي القرى أو بين الجماعات والطوائف على سبيل المثال) وتنتقل الى القبيلة والرؤوساء·

إن هذا الوضع يفضي الى نتيجتين: الأولى، حين يعمل النظام بطريقة جيدة، فإن المجموعات تكون قوية جداً ومن الصعب زعزعتها، وإن مجالها الى حد كبير يتحدد جغرافياَ وأنها من المحتمل أن تقاوم أية تجاوزات، وفيما تقوم الحكومات الديمقراطية الليبرالية على التنافس الدائم بين الجماعات، وهي ذات نشاطات محددة وأنظمة تمييزية (غير عادلة) تقليدية قائمة على مبدأ بأن ليس هناك سوى تجمع واحد داخل منطقة محددة، ولتكن على سبيل المثال قبيلة واحدة فحسب·

النتيجة الثانية: على المستوى الوطني، فإن مختلف التجمعات قد تعترف أو تنكر بصورة كاملة قوامية وسيادية الملك ومن هم على قمة الهرم السياسي· وللإنصاف فإن الانظمة التمييزية (غير العادلة) التقليدية ستبقى لفترات طويلة ومهمة حال تحقق قدر من التعايش والتكييف بين الجماعات الاقليمية التي تشكل الوطن، وفي غير ذلك فإن الحكومة ستنهار وتتفكك، ولهذا السبب فإن البلدان الاستعمارية السابقة نادرة ما كانت تمنح أهمية للانظمة السياسية التمييزية (غير العادلة) التقليدية: إن المعارضات بين الجماعات الاقليمية هي من الناحية التقليدية كذلك، مباشرة بعد الاستقلال، وإن نظاماً مختلفاً يجب أن يتم إدخاله·

لقد بات من الصعب الاحتفاظ بموازنة مستقرة بين الملك والجماعات الأثنية والقبلية، جزئياً لأن كل مجتمع خاضع للتأثيرات الخارجية والتي تقوّض الجماعات التقليدية، وجزئياً بسبب الحراك الجغرافي والاجتماعي للسكان·

 

الانظمة التقليدية

 

إن الأنظمة السياسية التمييزية التقليدية تبدأ في التغيير: مؤسسات مثل المؤسستين البيروقراطية والعسكرية تصبح أقوى، مجموعات جديدة ذات أغراض محددة مثل مؤسسات تجارية وحتى الاتحادات التجارية تبدأ في لعب دور ما، وطالما أن هذه التطورات تحدث بمعدل صغير، فإن النظام السياسي يبقى يوصف بكونه تقليدياً· وعلى أية حال، فحين تبدأ سيادة وتفوق التجمعات القبلية تتعرض لتحد خطير، فإن النظام السياسي يصبح اجمالاً شعبوياً أو تمييزياً تسلطياً·

إن الترتيبات الهيكلية للنظم السياسية الشعبوية هي هجينة، وتتميز غالباً بمعارضة معقدة بين الجماعات التقليدية المنخفضة والجماعات الجديدة، منثل المنظمات التجارية والنقابية، والتي تتطلب تهيئة توافقات غير سهلة فيما بينها، وهذا يعني أن الانظمة الشعبوية ليس فيها تداخل بين المجتمع والحياة السياسية التي تحدث في الانظمة التمييزية (غير السواسية) التقليدية·

إن الهياكل السياسية، وخصوصا الاحزاب، هي عادة مصممة مع الغرض الواعي لتهيئة التغيير في المجتمع، ولكن هذه الاحزاب هي من الناحية الطبيعية لمواجهة الصعوبات التي يفرضها التعارض بين النزعات المحافظة للجماعات التقليدية والضغط باتجاه التحديث والتي تأمل بعض الجماعات الجديدة، وحتى في بعض الحالات الجهاز البيروقراطي وحتى الجيش تطويرها· ولهذا السبب فإن الاحزاب غالباً ما تكون منقسمة بين تلك التي تمثل بصورة رئيسية الجماعات التقليدية وتلك التي تزعم ـ على الاقل ـ بأنها تشجع وتدعم مطالب الجماعات الجديدة (بالرغم من أن كثيراً من الاحزاب في هذه البلدان مميزة بهاتين الخاصيتين)·

 

---------------------------------

الجزء الثاني:

الديمقراطية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية

طباعة