رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 9 رجب 1425هـ - 25 أغسطس 2004
العدد 1642

دراسة علمية لباحث سعودي تناقش:(2-2)
الديمقراطية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية

                                        

 

·      مؤسسات المجتمع المدني  قابلة للتحول الى قنوات ضغط وتعبير جماعي أمام الدولة الى جانب كون هذه المؤسسات توفّّر إطارات حماية أيضاً من غلواء الدولة

·         مازال للشعب الكلمة الفاصلة في تقرير مسار الديمقراطية ومصيرها لئن استطاع ابتكار ضمانات نجاح التجربة واستمرارها

·         ليست هناك ضمانات ثابتة للمحافظة على الديمقراطية ما لم تترافق مع تحوّلات اجتماعية واقتصادية وسياسية معينة

·         قد يكون للمؤسسة العسكرية سلطة نافذة واختراقية بحيث تجعل من الممارسة الديمقراطية ذات تأثير ضئيل أو غير مقنع كما في مثالي باكستان وتركيا

·         الشروط المتشددة التي تفرضها الدول الدائنة لاسترداد فوائد الديون الخارجية تسهم سلبياً في طمس الحوافز الكامنة لنمو الجنين الديمقراطي

·         في الدول الديمقراطية يميل الناخبون للمطالبة بتعزيز الإنفاق الحكومي على قطاعات الصحة والتعليم والبنية التحتية أكثر من تعزيزه على الشؤون العسكرية والأمنية أو المشاريع ذات المردود الاجتماعي الهزيل

·         الحكم التسلطي أقدر على قيادة برنامج التصنيع السريع، ولكن على أية حال فإن هذا الحكم يقدّم عدة أمثلة على أنظمة ديكتاتورية فاسدة أحدثت دماراً هائلاً في اقتصاد وشعوب بلدانها

 

محمد الهويمل:

نشرنا في العدد الماضي الجزء الأول من دراسة للباحث محمد الهويمل عن الشروط الموضوعية لتحقيق الديمقراطية، وطرح الباحث في هذا الجزء السؤال: لماذا بعض الدول ديمقراطية وبعضها غير ذلك ؟!، وأثار أيضا قضية أن النظام يكون ديمقراطياً إذا شاركت نسبة كبيرة من السكان في صنع القرار وفي هذا الجزء الثاني يناقش الباحث الديمقراطية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية وفيما يلي التفاصيل:

 

بالنسبة لكثير من الناس، فإن التنمية يجب أن تأخذ أولوية على الديمقراطية· ويضرب مثل لذلك، أن أماً لطفل جائع قد تقدّر صوتها الانتخابي حق قدره، ولكنها يجب أن تقيم وزناً أكبر للطعام، وعليه ومن أجل تقدير قيمة الديمقراطية يجب تقييم ما إذا كانت الديمقراطية ستساهم في أو تبطىء التنمية الاقتصادية· وهل بإمكان الديمقراطية والتنمية أن يسيرا جنباً الى جنب أو لابد من تقرير خيار صعب بينهما؟

النمو الاقتصادي ينظر إليه بوصفه مفهوماً كمياً ونوعياً معاً، فهو لا يكتفي عند حد قياس حصة الفرد في إجمالي الناتج القومي، بل وأيضاً بما يعكسه من رفاه على مستوى الشعب وفق اعتبارات توزيع الدخل، ومجالات إنفاق الدولة· في الدول الديمقراطية يميل الناخبون للمطالبة بتعزيز الإنفاق الحكومي على قطاعات الصحة والتعليم والبنية التحتية أكثر من تعزيزه على الشؤون العسكرية والأمنية أو المشاريع ذات المردود الاجتماعي الهزيل· ونشير هنا الى أن النظام المسؤول والمنفتح يستخدم الموارد المالية بفعالية أكبر مما يفعله نظام مغلق واستبدادي·

ومن الواضح، فإن بعض الأنظمة التسلطية قد أفلحت في تحقيق نمو سريع· في القرن العشرين كانت الامثلة الرئيسية هي الحكومات الشيوعية في النصف الأول، والنمور الآسيوية في النصف الثاني، وبحسب Sorensen  فإن التنمية الاقتصادية تتطلب استثماراً، وأن الانظمة غير الديمقراطية هي المتمكنة في مقاومة الضغوطات الشعبية للاستهلاك الفوري والمباشر· إن الحكام التسلطيين أقدر على خلق فائض اقتصادي لاستثمار طويل الأجل لكونها محميّة او محصّنة إزاء التموّجات السياسية الاحتجاجية التي يولّدها التغيير الاقتصادي السريع·

يمكن ببساطة وضع ذلك، إن بإمكان هؤلاء الحكام التسلطيين تجاهل الخاسرين· إن الحكومات غير الديمقراطية قادرة على التدخل الهائل الذي يتطلبه التصنيع السريع· يقول سورنسن: بأنه في القرن العشرين لم تسجّل حالة واحدة ناجحة في مجال التنمية الاقتصادية بدون عمل سياسي شامل يتطلب تدخلاً واسعاً من قبل الدولة في الاقتصاد، ويضرب مثالا على ذلك الهند والصين، فبينما حققت الاخيرة نمواً سريعاً لم تنجز الهند الديمقراطية سوى قدر ضئيل للغاية في مجال التنمية الاقتصادية، فكلتا الدولتين متشابهتان من حيث الكثافة السكانية، والمساحة الجغرافية إضافة الى كونهما بلدين زراعيين وقد حققا وضعهما السياسي الحالي بعد الحرب العالمية الثانية· وعلى أية حال، فخلال أربعين سنة، فإن الاقتصاد الصيني نما بوتيرة تفوق ضعفي وتيرة النمو الاقتصادي في الهند، فمعدل الوفيات في الهند يفوق نظيره في الصين·

بطبيعة الحال، إن الأنظمة التسلطية اليوم لا تتبنى النمو الشيوعي للتصنيع القهري القائم على أساس خطة مركزية، بالرغم من أن الصين نجحت في أن تتحول الى دولة موجّهة نحو السوق، ومازالت مستمرة في الجمع بين الحكم التسلطي والنمو الاقتصادي، في المقابل بقي الأداء الاقتصادي الهابط في الهند يثير طيفاً من الأسئلة حول كفاءة وقيمة الديمقراطية في تطوير المجتمعات·

وهناك عدد من البلدان غير الشيوعية في آسيا قد تطوّرت اقتصادياً، ولكن في ظل إعدادات سياسية متخلفة أو تشتمل على خصائص الحكم التسلطي، وهي بذلك تقدّم أمثلة مضادة على العلاقة العضوية بين الديمقراطية والتنمية· ففي الفترة ما بين 1960 ـ 1985 كانت أندونيسيا، واليابان، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية، وهونج كونج وتايوان الأسرع نمواً في العالم، وتتفاوت حكومات هذه الدول في الحد الذي تعتمد فيه على الآليات التسلطية، مثل قمع المعارضة، الأحكام العرفية، والتشريع المناوىء للاتحادات وإساءة النظام القضائي· فعلى سبيل المثال، تعتبر اليابان ديمقراطية تضامنية، فيما مالت كوريا الجنوبية بقوة ناحية الديمقراطية، وحافظت أندونيسيا على عناصر تسلطية قوية· يبقى أن نمور شرق آسيا تتقاسم خصائص كثيرة لما وصفه جالمرز جونسون (1987) الدولة التنموية: إن من أهم ميزات هذه الدولة هو حكم مستقر من قبل نخبة بيروقراطية وسياسية تقسر (كما يذهب أيضاً لذلك سورينسن) الضغوطات الشعبية على الاستهلاك، فالتعاون بين القطاعين العام والخاص، بالخضوع تحت تأثير مؤسسة تخطيط قوية، يتجاوز المعيار المرتبط بالديموقراطيات الليبرالية· إن فكرة الدولة التنموية تقوم على فرضية أن النمو السريع يتحقق بصورة أحسن من خلال تحديد التعبير الديمقراطي·

ولكن وبالرغم من ذلك كله فإن ثمة حقيقة أخرى يجب حملها على بالغ الجدية، وهي أنه حين يصل بلد ما الى مستوى محدد من التنمية الاقتصادية، فإن استمرار الحكم التسلطي قد يؤدي الى انخفاض سرعة النمو· إن تجربة الاتحاد السوفييتي - على سبيل المثال - تكشف أن الاقتصاد المخطط بصورة كاملة يفتقر الى المرونة، والإبداع، والتركيز على المساواة الضرورية من أجل تفادي الركود، فقد انتهت الاقتصادات الرئيسية للمعسكر الشيوعي الى طريق مسدود، وحتى الدول التنموية في آسيا ستكون بحاجة للاعتماد المتزايد على السوق في حال أرادت الاحتفاظ بموقع تنافسي دولي، والذي قد يتم تجاهل حقيقة كونه مؤسسا في المقام الأول على مساعدة أميركية هائلة، وفي حقيقة الأمر: "إن التخفيض القسري لقيمة عملات آسيوية عدة في عام 1997 كشف الاستعمال السيء للقروض المالية الخارجية من قبل البنوك المحلية، بعد أن سلبت البريق من الأداء الاقتصادي في البلدان الصناعية الجديدة (إن آي سي) وكشفت حدود الدولة التنموية في الانفتاح"·

ولذلك، فإن القرن العشرين كشف بأن الحكم التسلطي أقدر على قيادة برنامج التصنيع السريع، ولكن على أية حال فإن هذا الحكم يقدّم أمثلة عدة على أنظمة ديكتاتورية فاسدة أحدثت دماراً هائلاً في اقتصاد وشعوب بلدانها، ولهذا السبب فإن الدليل الإحصائي على العلاقة بين الديمقراطية والتنمية ليس قطعياً· إن الدراسات الكميّة كافة تقترح بأن نوع النظام ليس له تأثير ثابت ومستمر على الأداء الاقتصادي· إن المشكلة فيما يتصل بهذا النوع من البحث هو أن مفهوم الحكم التسلطي واسع جداً بحيث لا يمكن التقاط الأنماط الخاصة بالحكم غير الديمقراطي الذي يخلق النمو· وعلى أية حال، فإن قدرة النظام التسلطي على استخراج الفائض من أجل الاستثمار لا يتطلب ولا يبرر إساءة استعمال السلطة أو انتهاك حقوق الانسان، وهي تمثل الخطر المتأصل في الحكم غير الديمقراطي·

وفيما نجح بعض الحكام التسلطيين في القرن العشرين في تدشين تنمية اقتصادية، ففي القرن الحادي والعشرين قد تعد الديمقراطية الليبرالية طريقاً ناجحاً بصورة أكبر، فالعولمة قد منحت الدول النامية سبيلاً الى مصادر جديدة لرأسمال عبر مؤسسات متعددة القوميات، وبنوك ووكالات ماوراء البحار مثل "البنك الدولي"· إن الفائض المطلوب للاستثمار قد لا يتطلب أن يكون منتزعاً أو مغصوباً من مجتمع متردد، ولكن المستثمرين الأجانب بالخصوص مشككون في السيطرات البيروقراطية الممتدة، والتي تميز الدول التنموية، وقد كان ذلك العامل الرئيسي في الأزمة المالية التي ابتلي بها كثير من الدول الآسيوية في عام 1997· وفي عالم متداخل ومتشابك المصالح بات من الصعب بالنسبة للحكام التسلطيين الهروب بنموذج التنمية القسرية، والتي تمثل تعديّاً على المجتمع الدولي· إن إرساء أساس تقريبي على الأقل من الديمقراطية الليبرالية سيسهل الدخول الكامل بالنسبة لأي بلد الى النظام التجاري العالمي، وهذا يمثل الآن الشرط الأولي للنمو الحقيقي والجوهري·

وفيما تصبح البلدان أكثر اندماجاً في المجتمع العالمي، فإن فكرة ديمقراطية الحكم الذاتي المستقل قد انكفأت وأصبحت جزءا من التاريخ، فما هو الأمل من بقاء النموذج الأثني (من أثينا) للمواطنين المتجمعين مع بعضهم لتقرير مصيرهم؟، وبالنظر الى أن القرارات الاقتصادية الحاسمة باتت تتخذ خارج حدود الدول القومية، فماذا يعني حينئذ أن يجتمع الناس مع بعضهم أساساً؟· لقد فعلت قوى العولمة كل ذلك، وستفعل أيضاً في فرض الديمقراطية·

إن التهديد الذي تفرضه العولمة قد تم التشديد عليه مراراً وبصورة كافية، وبحسب Guehenno  فإن مطالب الاقتصاد العولمي قد حوّل السياسة الى إدارة، ويقول إن الحكومات لم تعد تصنع خيارات، إنها ببساطة تقوم بإدارة مشاركة بلدانها مع الأسواق العالمية، وقد أعاد تأكيد العبارة الشهيرة لمارجريت تاتشر (ليس هناك بديل)، ويذهب جوهينو الى أن مجال الحتمية يرمز الى موت المجتمع السياسي كهيئة للمواطنين الناشطين، وبالتالي نهاية الديمقراطية نفسها· وفي السياق نفسه، فإن المنظّر السياسي الاميركي "مايكل ساندل" كتب: إن الحكومة المستقلة تتطلب مجتمعات سياسية تسيطر على مقدّراتها، ومواطنين يتطابقون بصورة كافية مع هذه المجتمعات للتفكير والعمل بالنظر من أجل الصالح العام، وسواء كانت الحكومة المستقلة بهذا المعنى ممكنة تحت الشروط الحديثة في أحسن الأحوال هو سؤال مفتوح·

وعلى أية حال، فإن الغاء الديمقراطية بهذه الطريقة يعتبر بالتأكيد خطأ· إن العالم متشابك المصالح والمتداخل ليس هو بالضرورة عالم غير ديمقراطي· إن الخطأ يكمن في المساواة بين الديمقراطية، وتقرير المصير الكامل، فإذا كانت الديمقراطية لا تبقى إلا في مجتمعات ذات سيادة كاملة، فإننا سنضطر للقول بأن هذه الديمقراطية لم تكن موجودة على الإطلاق في أي مكان في العالم، وهذا في حقيقة الأمر استنتاج غير معقول، ولربما أن المراكز الامبريالية والقوى العظمى وحدها هي التي اقتربت كثيراً من المعنى المثالي لـ (الاستقلال التام)، ولربما لوقت محدود فقط· إن الدول كافة كانت دائماً تخضع بقوة تحت تأثير الخارج، وأكثر من ذلك، فإن من الخطأ الواضح الاستنتاج بأن بلداً صغيراً مثل سويسرا (ويبلغ عدد سكانها سبعة ملايين) هي أقل ديمقراطية من بلد كبير كالولايات المتحدة (التي يبلغ عدد سكانها 258 مليون نسمة)، ببساطة لأن البلدان الصغيرة تخضع لتأثيرات خارجية أكبر· في واقع الأمر، فإن الديمقراطيات الصغيرة مثل سويسرا غالباً ما تعزز إحساساً قوياً بالمواطنة فيما يظل الجدل قائماً حول ضعف إمكانية ذلك في بلدان كبيرة مجاورة· إن إدارة الشؤون العامة، سواء في الديمقراطيات، أو سواها، تتطلب دائماً توافقاًَ بين السكان المحليين والضغوطات الدولية· إن ما يميّز الديمقراطيات هو أن هذا التوافق يتم عبر الإقناع والقبول، وعليه، فإذا فشل الحكام في جهودهم، فإنهم يسقطون·

 

الديمقراطية

والإصلاح البنيوي

 

يجب الاشارة ابتداءً الى أن هذا العامل يقع في مجال التأثير الخارجي على داخل الدول المراد دمقرطتها من خلال استعمال عامل المساعدات الاقتصادية كعنصر ضغط، ونفوذ من أجل إجبار الدول التي تتلقى مساعدات من قبل الدول الكبرى، أو المؤسسات النقدية والاقتصادية الدولية· ثمة نقد مشروع يواجه الدول المتطوّرة والمصنّفة على الأنظمة الديمقراطية كونها تتبع أسلوبا متناقضا في دعم الديمقراطية، فمن جهة تقتفي هذه الدول تدابير صارمة في متابعة سير البرامج الاقتصادية من أجل الإصلاح البنيوي، بينما تطالب من جهة أخرى باسترداد الدين، الأمر الذي قد يلعب دوراً تقويضياً في إضعاف بنى الديمقراطية، بل إن الشروط المتشددة التي تفرضها الدول الدائنة لاسترداد فوائد الديون الخارجية، تسهم سلبياً في طمس الحوافز الكامنة لنمو الجنين الديمقراطي، للسبب نفسه المذكور في النقطة السالفة، وهي أن الفوائد الجشعة التي تجنيها الدول الدائنة، والمؤسسات الاقتصادية الكبرى تفضي الى التخفيض التمييزي للإنفاق العام، أي تهدد تلك البرامج التي تستهدف تحسين الظروف المعيشية لدى الطبقات الفقيرة والتي هي تمثل قضية ذات أهمية متفوّقة على تعزيز الدعم الشعبي للديمقراطية، أو غرس ثقة الحكومة في الشعب كون الأولى ذات كفاءة في السيطرة والإدارة على مقدراتها الاقتصادية·

 

علاقة الديمقراطية

بحياة الناس

 

اذا كان ثمة هدف جوهري للديمقراطية، فهو تحسين أداء الدولة فيما يرتبط بأوضاع الناس اليومية، ولكن ماذا لو لم تحقق الديمقراطية هذا الهدف؟ أي "لا تؤدي الى تحسين ظروف الناس وأوضاعهم التي يعيشون في ظلها"، أو حين لا تحدث الديمقراطية فرقاً واضحاً وإيجابياً في أوضاع الافراد؟ فحينئذ يصبح الدفاع عن الديمقراطية غير جدير، خصوصاً حين تكون الديمقراطية فاقدة لأي تأثير على الأوضاع المحلية، وتحديداً في تعزيز الرقابة الشعبية، والمساواة السياسية من الناحية الديمقراطية·

قد يكون تفسير المشكلة في الدول الديمقراطية مختلفاً بالقياس الى الدول التي تفتقد في الأصل الى مؤسسات تمثيلية، وتجارب حكم ذات طابع جمعي، أي تلك الدول التي تنتقل بحكمها من نظام شمولي الى ديمقراطي، حيث تكون التجربة الناشئة هي المحك الرئيسي في اختبار مصداقية التطبيق· إن الإشكالية المتكررة في الدول الشرق أوسطية ذات الطبيعة الاستبدادية تتصل بمجال التطبيق، حيث تفرض الحكومات سلطانها المباشر في توجيه سير العملية الديمقراطية، بطريقة تخدم أغراضها، وتؤدي في الغالب الى إضعاف المضامين الديمقراطية، حيث تمارس المؤسسات التقليدية القديمة دوراً تعويقياً للتحوّلات الداخلية للدولة باتجاه الديمقراطية، كونها تؤدي الى إضعاف تلك المؤسسات، وسحب قدر من المكاسب والسلطات التي بيدها·

 

شروط استقرار

واستمرار الديمقراطية

 

ليست هناك ضمانات ثابتة للمحافظة على الديمقراطية ما لم تترافق مع تحوّلات اجتماعية واقتصادية وسياسية معينة، فقد تطلب استقرار الديموقراطيات الغربية المرور عبر سلسلة من التحديات والمواجهات الدامية، مع الطبقات الارستوقراطية والفاشية، وقد ثبت بأن الديمقراطية قد تفشل حين تنشأ في بلدان لم تكن مؤهلة لها بصورة تامة، أو لم تتوفر شروطها الموضوعية، بل قد تفعل الديمقراطية فعلاً تمزيقياً للأنسجة الاجتماعية، وتعمل على تعميق الانقسامات الداخلية، ولربما كان الاقتصاد ضعيفاً بحيث تفشل الديمقراطية في صناعة مناخ إيجابي يلبي التوقعات الشعبية، أو قد يكون للمؤسسة العسكرية سلطة نافذة واختراقية بحيث تجعل من الممارسة الديمقراطية ذات تأثير ضئيل، أو غير مقنع، كما في مثالي باكستان وتركيا·

في المقابل، لا يجب أن توحي تلك الأوضاع السلبية بأن دور الشعب في تعزيز التجربة الديمقراطية هامشي، بل مازال للشعب الكلمة الفاصلة في تقرير مسار الديمقراطية ومصيرها لئن استطاع ابتكار ضمانات نجاح التجربة واستمرارها، فهو قادر على إنشاء مؤسسات ديمقراطية تصمد في مواجهة محاولات اختطاف المنجز الديمقراطي· ولعل واحدة من أهم الضمانات هي مؤسسات المجتمع المدني، وهي المؤسسات التي تعلو فوق العائلة، وتدنو عن الدولة، أي تلك المؤسسات التي تعمل في مجال خارج الروابط العائلية التقليدية، ولكنها لا تصل في سعة مجالها الى المجال الدولتي، فهي جمعيات مستقلة تنظيمياً عن الدولة، وهي في الأصل نشأت للحد من هيمنتها، ولتقييد سلطتها من التمدد بانفلات تام، ومن جهة ثانية يعمل المجتمع المدني على استيعاب الفائض الاجتماعي داخل مؤسسات مستقلة عن الدولة، يمكن لها أن توفّر إطارات جماعية تساعد على حل مشكلات قد لا تقدر الدولة عليها، كما أن مؤسسات المجتمع المدني قابلة للتحول الى قنوات ضغط وتعبير جماعي أمام الدولة، الى جانب كون هذه المؤسسات توفّّر إطارات حماية أيضاً من غلواء الدولة·

يجب التنبيه دائماً على أن الممارسة الديمقراطية داخل مؤسسات المجتمع المدني مطلب مركزي من أجل صناعة مناخ ديمقراطي عام، إذ لا يمكن أن تحقق الديمقراطية ذاتها على مستوى الدولة فيما تغيب أو تضعف في مؤسسات المجتمع المدني، أو حين تدار الأخيرة بطريقة غير ديمقراطية، لأن القبول بوسائل استبدادية في إدارة مؤسسات المجتمع المدني، وانتقال ذلك عن الأسرة والمدرسة ودور العبادة والشركة، يفضي الى التعايش مع وقبول السلطة الاستبدادية·

هل ثمة علاقة بين الديمقراطية وحقوق الإنسان؟

نعم بكل تأكيد، وقد ثبّت الإعلان العالمي لحقوق الانسان هذا الربط الحميمي بينهما· وبحسب المادة 25 من الاتفاقية الدولية حول الحقوق المدنية والسياسية فإن الدول الموقّعة على الاتفاقية ملزمة بأن تضمن لمواطنيها الحق، وتهيئ لهم فرصة المشاركة في إدارة الشؤون العامة مباشرة أو غير مباشرة من خلال ممثلين منتخبين والتصويت والترشيح لانتخابات دورية حقيقية، وحرية الوصول بالمعنى الشامل للمساواة الى المناصب الرسمية·

إن تفسير العلاقة بين حقوق الإنسان والديمقراطية يتم بهذا النحو: إن مزاولة الإنسان لحقوقه الأساسية، وحرياته تعتبر جزءاً صميمياً من الممارسة الديمقراطية، إذ أن جوهر الفكرة الديمقراطية يكمن في تمكين الفرد من تقرير مصيره، والتعبير عن رأيه وممارسة حقه الطبيعي، وهناك من يزعم بأن حقوق الإنسان قد تكون مكفولة، أو يمكن الدفاع عنها في ظل أنظمة ديكتاتورية مع إعطاء أولوية للتطور الاقتصادي· ويرد على ذلك بأن ثمة تجارب عديدة ثبت فيها فشل الانظمة الديكتاتورية في الحفاظ على أوضاع اقتصادية مستقرة، بما يجعل حقوق الإنسان عرضة للانتهاك السافر·

إذن، إن العلاقة بين الحقوق المدنية والسياسية وبين الديمقراطية هي متداخله وضرورية، فهذه الحقوق تؤمّن غايتين كبريين: الأولى: الرقابة الشعبية والمساواة السياسية في صناعة القرارات ذات التأثير الجماعي، والثانية تصبح هذه الحقوق بمثابة إطار ضابط للنشاطات الجماعية من خلال رسم الحدود التي يجب أن تحكم الحريات الفردية والتي تقع خارج نطاق قرار الأكثرية· وأمثلة ذلك الحرية الفردية، حيث لا يمكن للأفراد الانضواء في نشاطات سياسية، ما لم يتمتعوا بحماية من الاعتقال أو النفي أو الإبعاد، تماماً كما هو الحق المكفول لأعضاء السلطة التشريعية من الاعتقال خلال تأدية واجباتهم البرلمانية، ولكن هذا الحق يجب أن يستغرق كافة الأفراد بحيث يشعر الفرد بأن حريته وسلامته البدنية مصانتان، وإن تعارضت حريته مع رغبة الأكثرية·

ولعل النقطة المحورية في هذا الصدد هي وقوع بعض الأفراد تحت عسف وحيف السلطة السياسية باعتبار هؤلاء مصنّفين في خانة الخصوم السياسيين، وهذا ما يجعل سوء معاملتهم، وتعذيبهم، وانتهاك حقوقهم الأساسية، وانحياز المحاكم ضدهم أموراً مألوفة في دول غير ديمقراطية لا تتمتع فيها السلطة القضائية باستقلالية تامة أو قدر كبير منها·

ثمة مفردة حقوقية ثالثة ذات أهمية بالغة من حيث التعالق الحميم بين حقوق الإنسان والديمقراطية، وهي مفردة الحرية الفكرية· فإذا كانت الديمقراطية ترتكز على مبدأين: السلطة الشعبية والمساواة في الحقوق والواجبات، فإن المساواة تعبّر عن نفسها ديمقراطياً حين يتكافأ الأفراد في فرص التعبير عن أفكارهم ومتبنياتهم العقدية الخاصة· ولذلك، فليس مستغرباً قراءة الديمقراطية من خلال تجسيدها السياسي في الدورات الانتخابية، والتعددية الحزبية، وأن لكل مواطن صوتاً مساوياً في الشؤون السياسية العامة، وتجسيدها الفكري من خلال قدرة الأفراد على التعبير بحرية تامة عن آرائهم، وباعتبار أن حماية الحرية الفكرية حق فردي مصون إزاء سيطرة معتقد ما، وليكن معتقد الأكثرية·

يجب التشديد مكرراً وبصورة دائمة على تأثير العامل الاقتصادي في استقرار، أو اضطراب المسار الديمقراطي في أي بلد· للتمثيل على أهمية هذا العامل يمكن القول بأن درجات التفاوت في فرص العيش تؤثر سلبياً في التحوّل الديمقراطي، وفي نجاح التجربة الديمقراطية في أي مجتمع· فالديمقراطية في مجتمع يتفشى فيه الفقر على نطاق واسع تكون قاصرة، إذ أن أفراد المجتمع لا يتمتعون بفرص متكافئة في ممارسة أدوار فاعلة في العملية الديمقراطية، بسبب التفاوت الجسيم في الفرص المعيشية· إن التفاوت الاقتصادي على المستوى الاجتماعي سينعكس بصورة تلقائية على المستوى الاجتماعي، فإذا كان هناك تفاوت اجتماعي بفعل عدم تكافؤ الفرص على الصعيد الاقتصادي، فإن هذا التفاوت سينعكس تلقائياً، وبوتيرة أشد خطورة على الصعيد السياسي، ولعل مثال تلاعب الأغنياء بالعمليات الانتخابية، وشراء أصوات الفقراء يتردد في كثير من الديمقراطيات التي يكون فيها التفاوت الاقتصادي جسيماً، ولذلك كانت هناك دعوة متكررة الى الأحزاب السياسية، والقادة السياسيين للعمل على التخفيف من التأثيرات بالغة الخطورة للتفاوت الاقتصادي على المستوى السياسي· على أنه لا يجب إنكار حقيقة النجاح الباهر الذي حققته بعض الديمقراطيات في مجال الحريات المدنية والسياسية بالرغم من انخفاض مستويات التنمية الاقتصادية، كما في مثال الهند ودول في امريكا اللاتينية·

 

دور الدين في

العملية الديمقراطية

 

إن دور الدين يتحدد في رؤية الأتباع وما يقررونه من درجة مشاركة في العملية السياسية· فالدين بما هو تأويلات خاصة بكل مدرسة فكرية، ومذهب قد يكون حائلاً أو حافزاً في تحريك التجربة الديمقراطية باتجاهات معينة· ولذلك ففي الإطار العام للأديان هناك ميول متضاربة واتجاهات متقابلة حيال مفاهيم ذات دلالات مضطربة، أو مهام ذات مغازِ مثيرة للجدل· وقد قيل بأن بعض المدارس الفكرية التي تستمد من مجموع النصوص الدينية مشروعيتها ورؤاها الكونية، وتعتبر أن النص الديني حقيقة منزلة يجب قبوله حرفياً دونما نقاش أو تحقيق في صدوره وسنده تكون أقل قبولاً بمبدأ الديمقراطية·

إن ما يجعل الأمر ذا جدل خاص هو رؤية بعض المذاهب الدينية للدول باعتبارها وسيلة مقدّسة لتطبيق إملاءات شريعة ما، وتحقيق رسالة السماء على الأرض، ولكن الأنكى حين تتسرب هذه العقيدة الى الدولة نفسها فيقوم رجالها بإكراه أصحاب المعتقدات الدينية الأخرى على اتباع ديانة الدولة، أو تعريضهم للاضطهاد وحملات كراهية على أساس ديني، ومصادرة حقهم في التعبير عن الرأي·

إن ثمة عنصر ايجابي فاعل يمكن للدين أن يلعبه في تعزيز الممارسة الديمقراطية، وهو التسامح الديني الذي يحبط النزوعات الداخلية لدى الجماعة الدينية الغالبة في تقرير ما تشاء من معتقدات دينية، وفرضها على باقي الطوائف والجماعات· ويجب الاشارة هنا الى أن التسامح الديني لم يقرر من أجل حرمان أي جماعة من تبني ما تراه، أو إسقاط حقها في الترويج لمعتقداتها بصورة متساوية مع الجماعات الأخرى، وإنما تم تقرير ذلك من أجل منح الناس فرص حقيقية وكاملة تتيح لهم تقرير ما يشاءون حتى في مجال العقيدة الدينية·

إن تدخل الدولة في فرض مبادىء ديانة معينة على غير المؤمنين بها يفضي الى إلغاء سلسلة حريات منها، الحرية الفكرية، وحرية الاعتقاد والضمير والاجتماع، وهذه الحريات كما ترى مبادىء أساسية في الديمقراطية·

وعلى المستوى السياسي، فإن أخطر ما يمكن للعامل الديني أن يفعله سلبياً، وأن يحدثه من انقسامات داخل المجتمعات هو استبعاد بعض الفئات من المناصب السياسية على خلفية دينية·

طباعة  

حالة مأساوية
 
هنتنغتون صاحب نظرية صدام الحضارات يسأل مواطنيه:
من نحن؟