رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 9 رجب 1425هـ - 25 أغسطس 2004
العدد 1642

حالة مأساوية

                                                                    

 

·         سلطة بلا استراتيجية·· وحركة بلا قيادة موحدة·· وعدو يفصل "جيتوات"، يسودها العنف الداخلي

·         محاربة الفساد شعار يصادره الفاسدون ويتجنبه من يخشى تبعاته السياسية·· ويخاف··!

·         لا نهج بل تقاطع مثابر بين سعي إلى أكبر قسم من كعكة السلطة مع استعجال التسوية!

 

عزمي بشارةü

ترسم التطورات الأخيرة في الضفة الغربية وقطاع غزة صورة مأساوية للحالة الفلسطينية الراهنة، ولا تكمن المأساة في الخلاف السياسي، ولا في نقد القيادة الفلسطينية بذاته، بقدر ما تكمن في العمليات العميقة الجارية وراء التفاصيل والكليشيهات التي تجذب انتباه الإعلام، وقد لا يدركها المحللون، وقد يدركها ويشخصها بعضهم من دون أن يكون بوسعهم البوح بها فيتحول التعامل معها إلى همس وثرثرة وإنتاج أمزجة سياسية، وعلى كل حال، حتى عندما ينشر التشخيص فقد يغمره فيضان المعلومات والتفسيرات، أو يذروه إعصار الإعلام الباحث عن نسبة مشاهدة، "ريتنج"، تساوي بين الغث والسمين، على وزن: كلها آراء تعكس أهدافا خفية، وكلها مصالح·· ويساهم هذا المزاج في تحييد المجتمع عن السياسة في مرحلة نضال لا تستوي فيها السياسة من دون تورط المجتمع وقواه الحية مباشرة فيها·

وتتلخص عناصر الصورة المباحة والمسكوت عنها لشدة إباحتها بما يلي:

 

1- لم تنته معركة كامب ديفيد لا عربياً ولا فلسطينياً، رغم أنها انتهت إسرائيلياً، إذ حسمت ضد نهج باراك في كامب ديفيد وقبلها، وضد نهج أوسلو، وهما للتذكير والتدقيق نهجان مختلفان، وقد اختلطت خصومة التيارات الفلسطينية نفسها حول أفكار كامب ديفيد مع مسألة إشراكها أو عدم إشراكها في عملية صنع القرار، جريا على عادة العرب في الرضا والمناكفة، واستمرت القيادات المختلفة نفسها في نصب الكمائن لبعضها البعض طيلة الفترة الماضية منذ بدء الانتفاضة من دون أن يردعها وعيها لتقاطعات أجندتها مع الأجندة الإسرائىلية والأمريكية المثابرة ومع بعض الأجندات العربية غير المثابرة، ولم ترتدع عن هذه التقاطعات القائمة عن سبق الإصرار حتى في مرحلة تصعيد أمريكي وإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني·

2 - تتم مصادرة شعار الإصلاح في كثير من الحالات من قبل عناصر وقوى لم تشارك في الفساد فحسب بل هي نتاج الفساد على أنواعه، وللأسف الشديد لم تدرج على لسان السياسة الفلسطينية بعد أسئلة تشخيص الفساد السهلة من نوع "ما دام دخلك الرسمي هو كذا فمن زين لك هذا"؟ اللهم إلا كنكات وطرائف تروى من قبل المتذمرين وتحولت إلى جزء من ثقافة الناس الدارجة المحكية، أو كيف يجوز أن يتدخل قادة أجهزة أمنية في السياسة المباشرة أو أن يتحولوا إلى نجوم إعلاميين أو أن يناقشوا مصير القيادة والرئيس الذي عينهم أو أوفدهم مع قوى أجنبية أوفدوا إليها ليس بقوة شخصهم بل بفعل الوظيفة التي عينوا فيها؟

لقد تم اختطاف شعار محاربة الفساد وتعميمه بحيث يختلط الحابل بالنابل، وبحيث يتم تيئيس الناس من الفساد ومن المعركة ضد الفساد باعتبارها معركة فاسدة بحد ذاتها، أي معركة نفوذ، لا شك أن شعار محاربة الفساد يحظى بشعبية، ولكن غير الفاسدين وغير المستفيدين في السلطة الفلسطينية وخارجها يتركونه للفاسدين يصادرونه لأن الأوائل يخشون من التبعات السياسية لخوض هذه المعركة، أو ببساطة يخافون·· دون مفعول به·

3 - هنالك خلط كارثي بين قوى المقاومة المسلحة وبين عشرات الجماعات المسلحة التي بدأت تتحول إلى مليشيات لغرض الدفاع عن النفس داخليا على مستوى فصيل وجماعات متخاصمة في فصيل ودون فصيل، وحتى على مستوى العائلة غير المنظمة في فصيل أو في تيار في فيصل، أو لغرض تقاسم النفوذ بمعناه الشارعي، أي "الخاوة" والسيطرة على الأحياء (مناطق بمعناها البائس) وغيرها· ويحركها الشعور أنه فيما يضحي شباب ويناضلون ينشغل آخرون بجباية رسوم حماية وأتاوات وعمولات وفي ترتيب وضع أبنائهم إلخ· هنا تختلط النقمة بالشعور بالأحقية على هذه الغنائم والضرائب الرثة مثل كل شيء، ولسان حالها يقول إنه إذا كان من لديه الحق باستخلاص أو عصر المنافع من المجتمع في عملية إعادة توزيع قسرية للثروة فهم أولئك الذين وضعوا دمهم على أكفهم، ومنهم من يتعرض يوميا للاغتيال، وهذا استنتاج كارثي فعلا مؤداه حالة قاعدية غير مؤهلة لمقاومة الفساد بل هي امتداد للفساد، ولكن يجب الاستدراك والتأكيد أن الحالات النضالية، حتى غير المنظمة والمعرضة لحكم الإعدام الإسرائيلي الشامل، مازالت بمجملها بعيدة عن الفساد والمشاركة فيه، ولكن غياب البنية التنظيمية، الواضحة يسهل تبني أسماء من دون مسمياتها وإصدار البيانات باسمها·

وتخلط التحالفات الجزئية والكاملة بين أفراد من نخب السلطة، سابقين وحاليين، وبين المليشيات الأوراق إلى درجة يصعب عرضها في مقالة، ولا أعتقد أن هنالك ما يبرر مثل هذا العرض على جاذبيته التي تكاد تكون بوليسية، فلسنا بصدد إعداد قطعة أدبية تصور عبثية الحالة، ولكن لا بد من بعض الملاحظات ذات المغزى السياسي:

يتضمن السؤال الأول قضية وهمية، ومع أن إجابة الكاتب القاطعة بالنفي معروفة فإن هذا لا يعني أن السؤال: هل كان على الفلسطينيين قبول أفكار باراك وكلينتون في "كامب ديفيد"؟ هو سؤال حقيقي لأن هذه الخيارات ليست قائمة حاليا، وهي لم تكن قائمة أصلا وإزاء ما يقوم به المستوطنون حاليا ضد شارون يسهل تخيل ما كانوا سيفعلونه ضد باراك ولأسباب أوجه بكثير·

ونصعّب على أنفسنا السؤال إذ نذكّر أنه يستطيع من شاء أن يحرجنا فيدعي أن المسألة مسألة نهج، والنهج الذي رفض هذه الأفكار في كامب ديفيد مازال قائما حيا يرزق، ويرزقنا الأزمة تلو الأخرى، إذ يفوّت الفرصة تلو الأخرى، ونحن نقول إن المصيبة ليست في النهج بل في غياب نهج، في عدم وجود نهج، والدليل أن القوى نفسها التي حضت همسا وعلنا، سرا وسفورا على قبول أفكار كامب ديفيد وعدم تفويت الفرصة السانحة استطاعت أن تتعايش مع من رفضها في السلطة الفلسطينية نفسها قبل أن تشتد الحملة الدولية عليها وعلى رئيسها، بل وزاود بعض المتفقين مع أفكار كلينتون وباراك في بداية الانتفاضة بكثافة إعلامية لنيل رضا الشارع بكلام يعرف الجميع، ما عدا الجميع، أنه لا يؤمن به "ولا يعتقده" رغم الإكثار من عبارة "أنا أعتقد"·· و"في الحقيقة"·· كان ذلك قبل أن يستشعر بمجسات الانتهازية السياسية الحساسة "تعب المجتمع الفلسطيني"·

لا ليس هنالك نهج· بل هنالك تقاطع مثابر بين السعي للوصول إلى أكبر قسم من كعكة السلطة مع استعجال مسألة التسوية ولو كان ذلك على حساب الموقف، وفي بعض الأحيان على حساب تفاصيل ثانوية كان بالإمكان إقناع حتى إسرائيل بقبولها·

ولا يعكس سلوك جهات السلطة الفلسطينية المعارضة للتسرع في قبول الشروط الإسرائىلية، أو المكبلة تاريخيا بقيود دور مختلف وعقلية مختلفة، أو غير المدعوة للتسوية أصلا، نهجا أكثر مثابرة· إذ استمر التمسك بشعرة معاوية وهمية لم يعد لها وجود في العلاقة مع إسرائيل وأمريكا، لأن السلطة بالشكل الذي أنتجته اتفاقات أسلو قد فقدت وظيفتها بالنسبة للولايات المتحدة وإسرائيل وذلك عندما رفضت أن تكون مرحلة نحو تصفية، وليس حل، القضايا التي عرّفها نهج أوسلو كقضايا الحل الدائم، وفيما بعد اتفق بوش وشارون على نشوء حاجة لكيان سياسي فلسطيني بشروط أخرى تماما تفرض فرضا، أو يتم تشجيع قيادة فلسطينية تقبل بالدور الجديد في عملية مقايضة مع تغيير المواقف المتعلقة بالحل الدائم، لقد توقفت السلطة ماديا ومعنويا منذ فترة طويلة عن أن تكون حركة تحرر، ولكنها لم تصبح دولة، وفقدت وظيفتها وشخصيتها ودورها من دون أن تكتسب دورا جديدا يحظى بشرعية وطنية أو ديموقراطية، ودخلت في طور الأزمة، أزمة الهوية التي لا تلبث أن تطور إشكاليات أخلاقية، وأزمة غياب الاستراتيجية بغياب استراتيجية أوسلو، وقد كانت الأخيرة رغم رفضنا لها استراتيجية على الأقل· وتم الانتقال إلى "استراتيجية الانتظار"، وهي ليست استراتيجية· وتعمق مزاج انتظار تطور ما في أمريكا وإسرائيل في فشل محاولات المراضاة التي وصلت قمتها في وثيقة جنيف، كما تشعب مزاج الانتظار في اتجاهات متناقضة بين وثيقة جنيف والتنافس مع حركة حماس بشكل غير منظم في أطر قاعدية تحمل السلاح·

وفي غياب استراتيجية مقاومة موحدة ومدروسة يتم تبني تكتيك في المقاومة يزاود على حماس حتى في فترات وقف إطلاق النار، وفي غياب استراتيجية تسوية، بسبب رفض إسرائىل للتسوية يتطور وحده تكتيك تفاوضي يزايد على اليسار الصهيوني بحيث بدت أمامه لغة محكمة لاهاي كأنها لغة جبهة رفض فلسطينية، وليس غريبا أن تؤدي هذه الفوضى إلى حالة ضياع وفقدان معنى بشكل جذري يهز أساس البنيان، وليس مستغربا أن يتم التعبير عن ذلك في التسيب على مستوى استخدام العنف الداخلي وهو الوجه الآخر للتسيب على مستوى الحوارات والمسارات التفاوضية التي تم الخلط بينها منذ أوسلو بشكل مستمر كما أكدنا مرات عدة، ألم تبدأ عملية كحوار غير ملزم؟ ألا تحسب كل عملية مسلحة كجزء من مقاومة الاحتلال حتى لو حكمت بالفوضى والتنافس الداخلي؟

مازلنا نقول أن حسم هذه المسألة تتطلب استراتيجية سياسية مقاومة موحدة، وأن هذا الأمر يحتاج إلى أطر سياسية موحدة تعمل إلى جانب السلطة كمؤسسة تعني بشؤون المجتمع الفلسطيني وعناصر استمرارية حياته على الأرض، وحدها أجواء الاستراتيجية الموحدة ووحدة القوى السياسية في مرحلة تحرر وطني كفيلة بإضعاف ثقافة المليشيات وتهميشها· وهنا يجب التمييز بشكل واضح بين الحاجة الماسة لالتزام السلطة الفلسطينية ورئيسها بضمان الأمن للمواطن، وبين محاولة خلط تطلع المواطن الشرعي لهذا الأمن واستغلال ذلك لجعل أمن إسرائيل جزءاً لا يتجزأ من الصورة بمبرر مفاده أن من يقاوم إسرائيل خارج عن القانون، ويجب فرض القانون عليه·

فإذا تم تبني مقاومة موحدة تأخذ بعين الاعتبار عوامل النجاح والفشل يصبح بالإمكان الحديث عن مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي يغطيها المجتمع وتخطط بشكل واع لكي لا تتناقض داخليا مع أمن المواطن الفلسطيني والالتزام بالمحافظة عليه· وكما آن الأوان لطرح وسلوك واضحين بهذا الشأن، كذلك آن الأوان لطرح مسألة الفساد التي يُتاجر بها أكثر مما ينبغي لدى شعب مسحوق ومجتمع فاقة لديه ميل طبيعي للاعتقاد أن كل مسؤول أو مؤسسة هو فاسد، وهذا غير صحيح إطلاقاً، الفساد في الحالة الفلسطينية كما في حالة الكيانات السياسية هي حالة تجمع بين النفوذ الاقتصادي والسياسي لغرض الإثراء أو الاستفادة السياسية، أو اشتراط خدمات، هي بمثابة حقوق للمواطن، بالاستزلام والولاء السياسي لغرض الإثراء والاستفادة السياسية، أو اشتراط خدمات، هي بمثابة حقوق للمواطنين بالاستزلام والولاء السياسي لغرض تعزيز النفوذ، وخلط بين الحيز الخاص والحيز العام·· ولسنا بحاجة إلى الإسهاب في هذا الأمر، ولكننا نذكر أيضا بالفساد القائم لدى الدول الممولة وموظفيها الذين يربطون التمويل بالولاء السياسي وبالمواقف، كما يربطون بين الخدمات والصلات الشخصية، ويدعمون هذا التيار السياسي ويغضون النظر عن فساده لأنه مندفع نحو التسوية، في حين كانوا يغضون النظر عن فساد ذاك، ويقسمون الناس بموجب هذا كله إلى معتدلين ومتطرفين·

ولا شك أن مسألة الفساد قبل قيام السيادة هي مسألة أخطر بكثير من الفساد القائم في الدول إذ يؤدي إلى إحباط شديد في مرحلة يحتاج فيها الشعب إلى الأمل من أجل النضال والتضحية، وحتى لو لم يؤد غياب الفساد إلى تحسن وضع المواطن مباشرة وبالضرورة، تبقى مكافحته جزءا من مهام حركة التحرر، إذا كانت قائمة!! ويكفي أن يجد المواطن المطالب بالتحمل والصمود النظر من حوله وتلتقط حواسه الخمس المدببة - نتيجة الشعور بالظلم - أجندات أخرى لدى مسؤولين وأقربائهم وانسبائهم لا علاقة لها بالأجندة النضالية لكي تنشأ أزمة أخلاقية ومعنوية تطال جوهر المسألة برمتها على وزن: لماذا؟ ومن أجل ماذا؟ وماذا يعني التحرر من الاحتلال؟ وإذا انتشرت هذه الأسئلة تنشأ مصيبة معنوية حقيقية·

تخطط إسرائيل وتنفذ على الأرض الفلسطينية المحتلة حلولا من طرف واحد، ويطالب الفلسطينيون بالتكيف مع حدودها، وقد أطلقت رصاصات هذه المعركة الأولى· ولا شك أن هنالك علاقة وثيقة لا يرقى إليها شك أي باحث اجتماعي جدي بين الحصار المفروض على غزة وإغلاقها عل شكل معسكر اعتقال وبين تطور ديناميكية غيتو ومعسكر اعتقال فيها، بما فيها أشكال من العنف الداخلي وتقسيم مناطق النفوذ داخل المعتقل·

حالة اكتظاظ المقموعين على رقعة أرض صغيرة في حالة حصار، وكما أن هنالك قطاع غزة Gaza Strip محاصر فإن إسرائيل تعد العدة لإنشاء قطاعات محاصرة في الضفة الغربية West Band Strips قطاعات محاصرة وليس قطاع واحد وهي محاصرة بفعل تعرجات الجدار ونقاط التفتيش·

ومجرد نشوب الأحداث الأخيرة في غزة في ظل مواصلة إسرائيل سياسة القمع والاغتيالات في الضفة وغزة وبناء الجدار في الضفة هو دليل على أن هذه المسألة الأخيرة، أي العنف الداخلي المفروغ منه في العلوم الاجتماعية في ظل الحصار، لم تدرس بعناية ولم يتم استيعابها بشكل عميق لغرض الاستعداد لها ومواجهتها بسياسة يتبناها المجتمع ومؤسساته، وهذه مسألة وجودية وليست مسألة رفاهية كما نكرر منذ سنوات عن مسألة الاستراتيجية الموحدة والقيادة الوطنية الموحدة عندما ناقشنا مسألة المقاومة والتفاوض·

ولكن هل للكلام من معنى؟ كم مرة كتبنا هذا الكلام بصيغ مختلفة؟ وماذا لو توقعنا أن ما حصل سوف يحصل، فقد توقعه لارسن من منطلقات تكاد تكون مناقضة، أو ربما علم أو أعلم به قبل وقوعه·

 

ü عضو الكنيست الإسرائيلي،

رئيس التجمع الوطني الديمقراطي - الناصرة

طباعة  

دراسة علمية لباحث سعودي تناقش:(2-2)
الديمقراطية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية

 
هنتنغتون صاحب نظرية صدام الحضارات يسأل مواطنيه:
من نحن؟