رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 28 محرم 1426هـ - 9 مارس 2005
العدد 1668

أعتذر منك يا لبنان

فادي الطفيلي:

أشعر بالخجل الشديد من نفسي وأودّ أن أعتذر، أن أعتذر من نفسي أولاً ومن أبي وأمي وإخوتي وجيراني في البناية في زقاق البلاط وباقي سكان الحي ومن لبنان، ففي التسعينات، وتحت ثقل "الأوديبيّة" المحبطة قرّرت الانتماء إلى ذلك الحزب البائس والهذياني، ظانّا أني بذلك قد أسوّي علاقتي المضطربة دائماً مع السلطة الأبوية التي مارسها والدي، من دون أن يشعر ومن دون أن يقرّر·

انتميت إلى ذلك الحزب بألوانه السوداء والبيضاء والحمراء، وبدأت أشارك في انتهاك المدرسة الأرمنية التي احتلّها في التسعينات وسمّاها، وفقاً لعاداته "الانتفاخية" المرضية في التسميات: "الثكنة"!·· فتدّفأنا، مضرمين النار بمصنّفات المكتبة وبكراسي المسرح الخشبية، عابثين مخرّبين المختبرات العلمية ومحتوياتها، واختلطنا بعناصر "المخابرات" بغية هدايتهم إلى صراطنا المستقيم الهادف إلى توحيد أمة الخرافة وكتبنا التقارير، وأجرينا المسوح المعلوماتية لأحيائنا ولجيراننا (أعتذر منهم فرداً فرداً وأنا خجل من نفسي)، فرصدنا علاقاتهم وزوّارهم وتحرّكاتهم ورفعنا ذلك في رسائل الى رؤسائنا، الذين سمعت منهم آنذاك، ولأول مرة، باسم الضابط الذي ذكره النائب وليد جنبلاط قبل أسبوعين، جامع جامع·

في ذلك الحزب، واستنادا إلى تاريخه العريق في الاغتيال السياسي، الذي لفرط عراقته، وانتفاخه كان يمارسه على نفسه وعلى عناصره باستمرار ليفرّغ شحناته المضطرمة منه، فكّرت في الاغتيال والخطف والانتقام لأول مرة في حياتي· وقد فكرت بذلك كامتداد مطمئن لمناقبيّتي الحزبية· وكرهت لبنان، ذلك الذي يسمّونه في حزب الهذيان والهتافات الصاخبة الرعناء، "الخطأ التاريخي"· ورحت أبحث بيأس شديد عن كل شذرة من كلام وعن كل جملة، ولو ناقصة في كتاب، تنفي وجوده وتحمقه ككيان تاريخي اجتماعي وسياسي مستقل· ورحت أبشّر في صفوف الحزب كمن يهذي، محوّلا "الأشبال" (أطفال الحزب) إلى أشباه جنود، ورحت أتشدّد في أورثوذكسيتي الـ "سعادية"، مراجعا النظام المسلكي الحزبي المتزمّت الجنوني، مطالباً الرفقاء في الوحدة الحزبية التي انتميت إليها بتطبيقه، بدءا بالاجتماع الدوري الأسبوعي وطريقة الجلوس فيه التي تقتضي من الرفيق الجلوس مشدوداً مستقيم الظهر واضعاً يديه براحتيهما المفتوحتين على ركبتيه، ووصولاً إلى علاقات الرفقاء العادية في الحياة اليومية التي ينطبق عليها التسلسل الهرمي الإداري الحزبي الذي يقول إن على الرفيق العضو إن شاهد مدير وحدته الحزبية صدفة على الطريق مثلاً، أن يتجمّد في أرضه بعد إيعاز عسكري يصدره لنفسه، ويقوم بأداء التحية للمدير خابطاً قدمه مزلزلة في الأرض·

قصّتي في ذلك الحزب تطول وتطول وأشعر بثقل كبير للفظها من صدري استفراغها والتخلّص منها بلا أسف أو أي إحساس بالعاطفة والحنين· لكنني اليوم أشعر أيضا بمقدار كبير من الحزن والندم والحاجة إلى الاعتذار· إذ إنني أشعر بمسؤولية معذّبة تجاه ما يتعرّض له لبنان ولدور هذا الحزب الذي كنت عضواً فيه، بذلك· فأودّ أن أتحمّل مسؤوليتي تلك كاملة، مادامت الأمور قد وصلت إلى نقطة اللاعودة واللاخوف واللاتردّد باغتيال الرئيس رفيق الحريري، كمحاولة لصدع لبنان وإحباطه وابتلاعه وضمّه إلى جمهورية الخوف والكوابيس وإلى أمه الخرافة، وإبقائه ساحة مفتوحة للاحرب واللاسلم والمناورات الأمنية التي تعتاش أنظمة البؤس التوتاليتارية منها·

إنني أعتذر من لبنان، ذلك الذي تغدو علاقتي به أشبه بعلاقة شخصية بين صديقين تتخطّى المعنى التقليدي والرتيب والخرافي للأوطان وللعلاقات بها· وأقول للبنان، الذي كنا نشتمه حباً وعشقاً أنا والصديق فادي أبو خليل في نزهاتنا اليومية الليلية في السيارة بين الجبال والضواحي وشواطىء البحر، أن لا يصدق أي حزبية خسيسة اقترفتها استجابة لعقد نفسية بائسة ومنحطة كانت تعتمر في نفسي· وإنني سوف أعالج نفسي تلك، من الآن فصاعداً، إذا ما اعتراها ضعف أو إحباط أو قلق، بتنشق هواء وادي قاديشا أو مرج الخيام أو كورنيش عين المريسة، عميقاً عميقاً، حتى أثمل وأبرأ·

أنت عاطفة وحياة يا لبنان ولست فكرة· أنت حقيقة ولست مبدأ ولا طقوساً، فكرتك الاجتماعية هي فكرة أصدقاء· أنت بلاد الأصدقاء، الذين لا يحظى بهم المرء إلا فيك· "الموزاييك" الذي يراهن أولئك على تفككه وتصدعه واقتتاله، هو ذهبك الساطع في أوقات السلم والخطر· ذهبك الذي لا يخبو والذي سيخذل الوزير ورفيقه ذاك الخارج من "حمام الهنا" والآتي لتوّه إلى محطة الـ "بي بي سي" في لندن، ليضطرب ويهذي ويرتبك ويرتجف ويفقد أعصابه وتماسكه وأسنانه ويتماوج بكرشه وسمنته، كلما ذكر اسمك على مسمعه، فكان لا ينطق بكوابيسه وبكوابيس مخابراته ومكائدها وسواطيرها التي تحاول غرسها في خاصرة الجبل أو فؤاده·

إنني أعتذر منك يا لبنان على ما اقترفته يوما في حقك· وهذا الاعتذار يلح ويلح عليّ هنا وأنا في مدينة الجليد المسطحة الموحشة، حالما بشمس بيروت وهوائها وصخبها وجنونها وجمالها وسحرها وحيويتها وحركتها التي لا تهدأ، وتألقها الإنساني الشاعري، و"لؤمها" المديني الذي لا تبطنه أو تخفيه تحت طبقات الادعاء والزيف· وأقول للبنان، صديقي ورفيقي الأبدي السرمدي، إن حزبيتي السابقة التافهة، في الحزب الذي لا يوجد بند استقالة في بنود نظامه الداخلي، لم تكن أكثر من هراء نفسي مراهق، كان الأجدر بي أن أحله بادعاء أقل وبتلقائية عاطفية طبيعية بين ابن ووالده·

كما أتوجه بالاعتذار أيضا إلى عائلتي التي أقلقتها وأرقتها يوماً بتهوري الحزبي وانجرافي بآخر موجات الحروب المتلبننة، وبأكثر فصولها بؤسا، وأعتذر من جيران "وحدتي" الحزبية السابقة لما اقترفته بحقهم من أعمال تجسس أمنية كنت أظنها واحدة من أساليب النضال الحزبي الفعالة والنخبوية· وأقول للمستمرين في ذلك الحزب، تحت وهم عقائدي مزعوم، أن لا يرتضوا بالتحوّل إلى عناصر مخابرات وأدوات رخيصة لشق الرأي العام اللبناني، الذي يتبلور ويعبّر عن نفسه بالوسائل السلمية المشروعة والديمقراطية ضد واحدة من أكبر الجرائم التي ارتكبت بحق الكيان· وأن يتخلوا عن الانتفاخ الأجوف والادعاء، وأن يعوا فعلا ما يمثله حزبهم من إرادة شعبية، وذلك بسؤال أبناء أحيائهم التي يعيشون فيها عن آرائهم الحقيقية تجاه حزبهم المنحسر والخابي والمتخشب والضحل، المؤتمر بأوامر مخبرين ومتحذلقين و"زحفطونيين" (زاحفون على البطون، على حد تعبير الأديب سعيد تقي الدين)·

أما هؤلاء فليس عليهم إلا الرحيل، الحديقة في الرملة نريدها حديقة لا بؤرة للرماية وللتلف والركام· والفنادق نريدها فنادق لا أقبية تعذيب وتجسس ومكر وسواطير·

فليحزموا أمتعتهم ويرحلوا· وليأخذوا الأدوات والأبواب والألواح الخشبية ودواليب الكاتشوك وطاسات السيارات ومراياها وجور المراحيض المقتلعة والآذان والألسنة، فنحن لا نريدها، وليرحلوا بلا أسف أو حقد، إذ إننا لا نشعر سوى بالقرف والغثيان·

عن "المستقبل"

طباعة  

عبدالله خلف "كلاكيت" ثالث مرة!
الحداد والقحطاني.. هل يكسران دائرة الصمت في "الرابطة"؟!

 
أصداء(2-2)
 
وتد
 
أخبار ثقافية
 
"قيامة ناريمان" في "البيان"
 
المرصد