رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 13 صفر 1426هـ - 23 مارس 2005
العدد 1670

أوراقي التي تبعثرت ساعة اغتيال الرئيس رفيق الحريري

             

    

 

 

·      الحريري كان  همه الأول انقاذ الاقتصاد والأوضاع المالية في لبنان وما قام به من خطوات أدى إلى ازدهار اقتصادي خصوصا في السياحة

·        كان هو المدافع الأول والأخير عن الديمقراطية اللبنانية وكان يمثل أيضا التوازن في العلاقات بين البلدين

·         الرئيس حافظ الأسد كان يوازي بين السياسة "العليا" والأمن "التحتي"

·         مشروع بشار الأسد "الإصلاحي" اختنق في مهده من قبل الأجهزة الأمنية المسيطرة

·         الأزمة بين لبنان وسورية هي التي أنتجت جريمة اغتيال الحريري لأن المركزية الأمنية السورية هي المسيطرة والحاكمة في لبنان

·         الغزو السوري للبنان باسم العلاقة الأخوية المتميزة كان أكبر طعنة للعلاقات بين بلدين شقيقين

 

بقلم: محمد كشلي

كنت صباح ذلك اليوم المشؤوم أكتب مقالا سياسيا عن العلاقات السورية اللبنانية··· وضعت له العنوان الآتي: "المركزية الأمنية السورية - اللبنانية المتخلفة والمتسلطة تغزو الديمقراطية اللبنانية التقليدية والمتعددة"·

بدأت الكتابة نحو العاشرة والنصف صباحا، وبعد ساعتين تقريبا كنت قد أنجزت "نصف" ما كنت أنوي كتابته - كمسودة أوراق قابلة للتصحيح في اليوم التالي· وبعد استراحة لم تتجاوز ربع ساعة سمعت الانفجار الرهيب الكبير، توقفت عن الكتابة وشعرت بقلق داخلي شديد، كأن أمرا ما قد أصابني في الصميم رغم بعدي عن الانفجار· وبعد ربع ساعة جاء الخبر الحزين، تناثرت أوراقي وأصاب الانفجار كلماتي، وبكيت بكاء مرا لم أبك مثله إلا مرة واحدة في حياتي، بعد وفاة عبدالناصر·· هكذا كانت أوراقي مبعثرة· تركتها كما هي دون تصحيح ولا تدقيق، "مسودة" في ذلك اليوم الأسود· كنت قد تكلمت معه قبل فترة عن عزمي على الكتابة بعد صمت دام أربع سنوات فأجابني بكل مودة وعطف كان يحيطني بهما كلما كنت أحادثه بمثل هذا الأمر، وهل منعتك عن الكتابة يا محمد! قلت له··· ولكنني أنا الذي منعت نفسي عن الكتابة، فقررت الصمت بناء على صمتك بشأن العلاقات السورية - اللبنانية والضغوط الكبيرة التي كنت تتعرض لها منذ أن تسلم العماد إميل لحود رئاسة الجمهورية بناء على "قرار سورى" بتعديل دستوري فرض فرضا·· الى أن جاء التمديد بعد تجربة مريرة لك معه في رئاسة الحكومة بعد الانتخابات التي انتصرت فيها انتصارا ساحقا··· ففرض عليك التمديد فرضا قاسيا وفجا، وشعرت كم أنك تعاني، ولكنك كنت دائما تتحمل وتصبر وتحسب باقتناع - من موقعك ودورك الكبير - أن مصلحة لبنان الوطنية في تلك الظروف السياسية والدولية هي الأساس في قبولك بالأمر الواقع، وأن أي موقف آخر منك قد يعرض لبنان نفسه للخطر، وكنت أدرك أنك كرجل دولة كبير لا تقامر ولا تفرط ولا تغامر، وأنك كسياسي عربي وشخصية دولية كبيرة لا تريد أن تؤذي بلدا عربيا شقيقا وإن أخطأ خطأ كبيرا، فلابد للتجربة والوقت أن يجعلاه يصحح الخطأ·· وعند ذاك يصبح موقفك واضحا ومؤثرا، وفي الوقت المناسب، إلا أن هذا الخطأ السوري الكبير كان أكبر··· كان خطأ قاتلا وصل إليك لأنك أنت قائد وطني لبناني عربي كبير عملت لبناء لبنان من جديد، كائنا من كان قد خطط لجريمة اغتيالك؟!··

وها أنا اليوم ألملم أوراقي المبعثرة أنشرها في سواد تلك الساعة الملعونة حيث اغتالوك يا معلمي وقائدي الذي تعلمت منك الكثير، بعد تجارب سياسية وحزبية دامت نحو خمسين عاما، وها أنا في تجربتي الأخيرة معك وهي أنضج التجارب وأكثرها فائدة لوطني الصغير لبنان ولوطني العربي الكبير، لقد قتلوا تجربتي أنا·· تجربتك أيها الكبير في كل شيء··

 

* * *

 

لملمت أوراقي المبعثرة والنقاط المتناثرة لمشروع مقال عن "غزو الأجهزة الأمنية السورية المتسلطة للديمقراطية اللبنانية التقليدية والمتعددة"··· وكانت فكرة المقال تتركز على هذه المسألة لأنها هي "المسألة المركزية" في الأزمة القائمة بين سورية ولبنان، وهي التي أنتجت برأيي جريمة اغتيال الرئيس الحريري، وليس المقصود بذلك تعزيز الاتهام السياسي السائد في الأوساط السياسية والشعبية، إنما لوضع هذه الجريمة السياسية الكبرى في سياق ما وصلت إليه العلاقات السورية - اللبنانية من شراكة أمنية مركزية تحكم البلدين معا وتجعل "المركزية الأمنية السورية" هي المسيطرة والمتسلطة والحاكمة بعد أن قبضت على الديمقراطية اللبنانية وأحكمت سيطرتها عليها، وكان الرئيس الحريري بأسلوبه السياسي المميز في إدارة هذه العلاقات السورية - اللبنانية وقيادته الوطنية المدافع الأول والأخير عن الديمقراطية اللبنانية ولصد الغزو الأمني عليها، كان العملاق والجبار والسد المنيع أمام هذا الغزو· وكان في الحكم خاصة في عهد الرئيس لحود السد العالي الذي تصطدم به "الغزوة الأمنية" وعندما ترك رئاسة الحكومة بعد التمديد المفروض، وظهرت المعارضة بكل ألوانها وأحزابها وتعدديتها كتيار ديمقراطي واسع غير طائفي، كان الرجل الكبير والقائد الوطني باتساع تجربته السياسية والاقتصادية والتنموية والإصلاحية على مدى الوطن اللبناني كله، كان هذا القائد الوطني بصمته المدوي هو الذي أعطى للديمقراطية اللبنانية وتيارها الواسع حيويتها ومداها الواسع ووحدتها الوطنية وقدرتها على التحدي المباشر للمركزية السورية·· وكان المطلب الأول لها تحرير الديمقراطية اللبنانية وإخراجها من "السجن الأمني الكبير" وإعادة العلاقات السورية - اللبنانية الى طبيعتها و"عروبتها" الحقيقية كبلدين عربيين متجاورين متنافسين ومتعاونين ومتكاملين سياسيا واقتصاديا·· وكان الرئيس الحريري هو الذي يمثل فعلا بالواقع والتجربة وبتوازن دقيق، هذه العلاقات الطبيعية بين البلدين·· هذه العلاقات الديمقراطية، هذه العلاقات الصحيحة·· فكان الاغتيال·

 

الورقة الأولى

 

كانت "الهرمية الأمنية المركزية" موجودة دائما في النظام السوري، ولكن الرئيس السوري حافظ الأسد عكس زميله "العقائدي" في حزب البعث صدام حسين الديكتاتور الفردي الذي استبد بشعب العراق وبحزبه أيضا، كان الرئيس حافظ الأسد يتصف بأسلوب سياسي مميز ومختلف أقرب الى أسلوب الرئيس جمال عبدالناصر تجاه نظامه الأمني وأجهزته الأمنية (ولتلك التجربة الناصرية· حديث طويل آخر للعلاقة بين القيادة الوطنية العليا والزعامة الكبرى والأجهزة الأمنية في نظامه)··· هكذا كان الرئيس حافظ الأسد على رأس نظامه الزمني يتبع أسلوبا سياسيا مميزا كقيادة وطنية لسورية في مراحل مصيرية مختلفة، كانت آخر مرحلة فيها العلاقات السورية - اللبنانية بعد اتفاق الطائف وفي ظروف عربية ودولية مختلفة أتاحت له، بموقفه المعارض لغزو صدام حسين الكويت واشتراك سورية مع القوات الدولية ولو رمزيا، أن ينال موافقة أمريكية ودولية وعربية على الدور السوري في لبنان·

وهكذا كان الرئيس حافظ الأسد يوازن بين السياسة "العليا" والأمن "التحتي" ويغلب "السياسة" على "الأمن" أو يغلب الأسلوب السياسي على الأسلوب الأمني في معالجة المشاكل والصعوبات والتناقضات والمتناقضات في لبنان وفي العلاقات القائمة بين البلدين والدولتين وفي نظامين مختلفين سياسيا واقتصاديا! ولكن هذا لا يعني أن "الأسلوب الأمني" كان يختفي أو يتغلب على "الأسلوب السياسي"، فكان في أحيان كثيرة، يصبح هو الأسلوب المباشر، ثم يعود الى أسلوب غير مباشر حيث الظروف والأحوال والاستثناءات·

بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد واستلام الرئاسة من قبل الرئيس بشار الأسد حاول أن يطرح مشروعا إصلاحيا سياسيا واقتصاديا جديدا داخل سورية، ولكن هذا المشروع الإصلاحي لم يتم إنجازه أو بعبارة أدق لم يبدأ لكي ينجز إنما خنق في مهده من قبل الأجهزة الأمنية المسيطرة التي أخذت تضع العقبات على "الإصلاح" وتسوره وتسجنه في إطار أمني صارم يسيطر فيه الأمن على الاقتصاد كما على السياسة، وانعكس ذلك في لبنان فتغلب "الأسلوب الأمني" على "الأسلوب السياسي"· وأصبح "الأمن" مطلقا وفوق الاقتصاد والسياسة معا، وعندما تعطل الإصلاح في داخل سورية انعكس ذلك على العلاقات السورية - اللبنانية وسيطرت "المركزية الأمنية" السورية على لبنان وهيمنت من خلال "شريكتها" الصغيرة والتابعة في عهد الرئيس لحود· ووصل الأمر الى حد فرض التمديد للرئيس لحود قسريا وبشكل فظ بعدما أحكمت الأجهزة الأمنية قبضتها على بقايا الديمقراطية اللبنانية في البرلمان·· وهكذا تبلور "النظام الأمني اللبناني" بأكثرية نيابية متواضعة، فوصل الأمر بعد تخلي الرئيس الحريري عن تشكيل حكومة جديدة بعد التمديد الى حد تعيين أسماء التشكيلة الحكومية بأسماء محددة من قبل المركزية الأمنية السورية وعلى الهاتف ومن دون مشاورات "ولا يحزنون"!

 

الورقة الثانية

 

لقد خنقت الهيمنة السورية الديمقراطية اللبنانية وإن أبقت عليها حية تتنفس بصعوبة حفاظا عليها، واستعملت الأجهزة الأمنية اللبنانية بكل تشعباتها خاصة بعد مجيء الرئيس لحود كقاعدة أساسية للسلطة في لبنان، ومن خلالها وأحيانا كثيرة من فوقها أو تحتها، تمارس أكثر أنواع التدخل المباشر في تفاصيل الحياة السياسية اللبنانية·· وعندما تشكلت حكومة الرئيس سليم الحص بعد اعتذار الرئيس الحريري امتلأت الوزارات والمؤسسات وأصبحت كلها تحت امرة الأجهزة الأمنية وكانت التعيينات والملفات  التي فتحت كلها هذه "الأمرة" أو حاول الرئيس الحص أن يشق طريقه المستقل وسط هذه الغابة "الأمنية" فكانت "التجربة المرة" التي تحدث عنها في كتابه بأسلوبه الهادىء الذي لا يظهر الوقائع القاسية وغير الديمقراطية في تلك "التجربة المرة"!

هكذا كان عهد الرئيس لحود منذ بدايته ونشوئه بتعديل دستوري لمرة واحدة - 1 - من موقع قيادة الجيش، عهد "النظام الأمني" بامتياز، فنشأت "حكومة أمنية" ظل أو حكومة خفية تبدأ بالقصر الجمهوري وتنتهي عند مختلف الأجهزة الأمنية، وهذه الحكومة - الظل - هي التي كانت تنفذ قرارات ومراسيم وأحكاما قضائية وتحقيقات واعتقالات بعد أن فقد القضاء استقلاليته·

وحتى عندما تسلم الرئيس الحريري رئاسة الحكومة كانت هذه "السلطة الأمنية" تمارس سلطتها الخفية بعيدا عن أنظار رئاسة الحكومة، وكان رئيس الجمهورية يستعين بها سواء فرض ذلك من خلال "أكثريته" في الحكومة أو من خارجها باسم سلطة القضاء المستقلة والأجهزة الأمنية التي تتلقى تعليماتها مباشرة من "غرفة الأوضاع" في القصر الجمهوري أو من "عنجر" مباشرة!··

وعانى الرئيس الحريري من هذه التجربة ما عانى محاولا بكل ثقله السياسي الداخلي والخارجي أن ينقذ الوضع الاقتصادي والمالي من هذه التدخلات والعقبات الإدارية والسياسية والأمنية التي كانت تنصب أمامه، فكان يتحمل ويصبر، همه الأكبر إنقاذ الاقتصاد والأوضاع المالية من التردي، فكان مؤتمرا باريس الأول والثاني، وحقق إنجازا اقتصاديا كبيرا ليحمي اقتصادنا الوطني من "الانهيار"· لم يكن ما قام به الرئيس الحريري على هذا الصعيد مجرد قروض دولية إنما كانت في مضمونها تحمل إصلاحات كثيرة وقف "العهد" كله ونظامه الأمني والمستتر أو المعلن ضدها· ورغم ذلك كله وبفضل ما قام به الرئيس الحريري تحقق ازدهار في الاستثمار وخاصة السياحي، وتحقق نمو اقتصادي لم يتحقق في السابق بفضل السياسات المالية والإصلاحية التي قام بها الرئيس الحريري "وحكومته المصغرة" داخل الحكومة وخاصة في وزارتي المال والاقتصاد من قبل الوزير فؤاد السنيورة والوزير باسل فليحان·

 

الورقة الثالثة

 

لقد وجدت هذه "المركزية الأمنية" المتسلطة بيئة مباشرة لها في الآلية المتخلفة للحياة السياسية اللبنانية والديمقراطية التقليدية، رغم تعدديتها المعروفة وديمقراطيتها النسبية خاصة بعدما أصابها من تشوه وانحرافات بديمقراطيتها التي توقفت عن التطور مع مرور الزمن وتغير العصور والتغيرات العالمية طوال الحرب الأهلية الطويلة التي سبّبت لها جروحا داخلية لم تضمد ولم تشف منها··

جروح غائرة وخدوش شوهت جسد الديمقراطية وغيرت ملامحها وأوقفت إمكان تطورها، وتشكلت هذه الآلية الديمقراطية بفرديتها وحرفيتها "بكسر الحاء" وطائفيتها والمنافسات السياسية على الزعامة والقيادة، وكذلك في تكوينات بعض الأحزاب السياسية خاصة "العقائدية منها" وبقايا أحزاب وتيارات وأشباه أحزاب ومنظمات وفصائل لا تعرف من أين نبتت! شكلت هذه "البىئة الحزبية" كثيرة العدد قليلة الفاعلية والتأثير، الفاشلة في ماضيها وحاضرها القابلية لتوغل "المركزية الأمنية" في نسيجها الداخلي وقياداتها الهامشية والثانوية·· فجمعتها وربطتها وأغرتها بالوصول إلى السلطة وإلى المناصب وإلى النيابة أو الوزارة·· وكلما قل شأن منظمة أو تجمع أو كان لا يملك أي تأثير في الحياة السياسية كان ارتباطه بالأجهزة الأمنية أكثر وثوقا··

وهكذا نشأت قيادات "جديدة" هامشية، وفرضت أسماء لا ثقل سياسيا لها على لوائح الزعماء والكتل النيبابية كمرشحين من قبل هذا الجهاز الأمني المركزي· وخرج من هذه البىئة نواب ووزراء لم يكونوا يحلمون في حياتهم أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه من مراكز، وتعممت طريقة الوصول هذه، فأصبح كل من يطمح للوصول إلى النيابة أو وزارة أو إلى منصب أدنى، يزحف إلى حيث قرار ترشيحه وتزكيته، وعندما يصل كان يتلقى التعليمات مباشرة من مركز القرار، من "عنجر" في أكثر الأحيان، ومن هناك يلقن ما يقول وما يصرح، وإذا كان في كتلة ما أو تجمع سياسي فهو وإن كان مزدوج الولاء، فالولاء الأول والأخير حيث يكون المركز الأمني الأول الحاكم بأمره والمقرر مصير البلاد!

·· وهكذا نشأت، بكل هذه التفاصيل التي ذكرت آلية أمنية خاصة داخل النظام السياسي الديمقراطي فنخرته وأعطبته وسيطرت عليه فسجنت به الحياة السياسية الديمقراطية، وسوّرته بإطار ومساحة أصبحت فيها اللعبة الديمقراطية ضيقة، ولولا قيادة الرئيس الحريري الوطنية الكبيرة داخل الحكم وخارجه، ومعه الذين يقودون المعارضة الآن، لما اتسعت هذه المساحة ولا تجاوزت اللعبة الديمقراطية الأسوار المنصوبة·

 

الورقة الرابعة

 

لقد غزت الأجهزة الأمنية السورية الديمقراطية اللبنانية التقليدية والمتعددة تماما كغزو صدام حسين "الوحدوي" فكانت أكبر طعنة ضد الوحدة العربية، وكانت الجريمة التاريخية الكبرى ضد الوحدة العربية، وإذا كان غزو صدام حسين للكويت عسكريا فإن الغزو المخابراتي السوري للديمقراطية كان تدريجيا ومتغلغلا في المجتمع اللبناني السياسي والاقتصادي والأمني، وكانت هذه الغزوة باسم العلاقة الأخوية المتميزة السورية - اللبنانية، ولكنها في حقيقتها كانت أكبر طعنة للعلاقات الأخوية والطبيعية بين بلدين عربيين شقيقين متجاورين، لقد ولدت الهيمنة الأمنية السورية شرخا في العلاقات بين البلدين الشقيقين ولا ينفع القول إن اللبنانيين منقسمون بين مؤيد ومعارض، فالحقيقة أكبر مما يظهر على السطح، وهي أن هذه العلاقات لكي تكون صحيحة وطبيعية لابد أن تقوم على المساواة والمشاركة السياسية والاقتصادية لا مجال فيها للهيمنة ولا لتبعية الأخ الصغير للأخ الكبير، فلكل شخصيته وخصوصيته ونظامه السياسي والاقتصادي، والتطور الداخلي في كل منهما، هو من مسؤوليته الداخلية ومن شأنه الخاص·· وهذا درس تاريخي من تجربة عبدالناصر أيام الوحدة من داخل تجربة الوحدة نفسها عندما قامت الجمهورية العربية المتحدة، كان جوابه الفوري - بمعناه - اتركوا لبنان وشأنه، فله خصوصيته ووحدته الوطنية وهي أساس العلاقة معه·· وعندما كانت الأجهزة الأمنية السورية بقيادة عبدالحميد السراج تتدخل في لبنان كان الرئيس عبدالناصر يعيدها إلى صوابها أحيانا ويحافظ على اتفاق "الخيمة" بينه وبين الجنرال شهاب الذي كان بدوره يضع حدا لتدخلات المكتب الثاني الشهابي في الحياة السياسية اللبنانية، رغم اعتماده عليها!

وعوة إلى مسألة العلاقة السورية - اللبنانية، إن إنهاء الدور الأمني السوري وهيمنته في لبنان يتيح الفرصة الحقيقية لبناء علاقات أخوية صحيحة ومتساوية بين البلدين العربيين، وترسيخ الوحدة الوطنية اللبنانية وتعميقها وتحقيقها لتشمل الجميع هو أكبر مكسب لسورية نفسها شعبا وحكومة ونظاما، فهو الذي يريحها لتنصرف إلى بناء نفسها من الداخل اقتصاديا وسياسيا وإلى تصحيح أخطائها وتحقيق إصلاحاتها التي تضمن لها أن تعيش في سلام وأمان أمام التطورات المصيرية التي تحيط بها، وأمام الضغوط الدولية التي تتعرض لها·· فهذه "الضغوط" تجد في الأخطاء الكبيرة التي اقترفت في لبنان مبررا لها· ومرة أخرى عندما نتحدث عن الهجمة الأمريكية وعن الاحتلال الأمريكي للعراق فقد كانت "غزوة" نظام صدام حسين الوحدوي واستبداده الداخلي وأخطاؤه الكبيرة هي التي أعطت للتدخل الأمريكي المبررات والأعذار، إن المطالبة بإلغاء الهيمنة الأمنية السورية ليست معاداة لسورية ولا لشعبها ولا للعمال السوريين الذين يعملون في لبنان إنما هي تصحيح للعلاقات لإرسائها على أسس سليمة وصحيحة تتيح التنسيق السياسي والتكامل الاقتصادي·

وعندما تصبح العلاقات على هذا الشكل تتعمق الأخوة والشراكة بين البلدين وتصبح "الأخوة" عامل تقدم وعامل تطور لا عامل تأزم، وإذ ذاك تتحرر سورية نفسها من الأسلوب الأمني الطاغي والمتسلط وتنبثق من داخل الإصلاحات السياسية والاقتصادية· لقد تفاءلنا كثيرا عندما طرح الرئيس بشار الأسد مشروعا إصلاحيا واعتبرنا ذلك لمصلحة لبنان أيضا، فكل تقدم وإصلاح في سورية هو مصلحة للبنان وكذلك فإن كل توحيد وطني وكل نمو وتقدم وإصلاح في لبنان هو لمصلحة سورية أيضا، إننا نريد لهذه العلاقات الأخوية أن ترسو على ذلك كله وعندها نكون قد أرسينا قواعد صحيحة وسليمة وعروبية لبلدين عربيين متجاورين متداخلين جغرافيا وتاريخيا، فاستقلالية لبنان بهذا المعنى هي لمصلحة العروبة·

طباعة