رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 2 رمضان 1426هـ - 5 أكتوبر 2005
العدد 1698

شرفات الورق: البحث عن جغرافيا أكثر اتساعاً

محمود ماضي*

أقرأ نصَّ (أربع شرفات منسية) للشاعرة سعدية مفرح، المنشور في موقع جهةِ الشعر، فأندَهِشُ، من حمولَةِ النصِّ، وقبوله تفسيراتٍ مختلفَةٍ متتابعة، رغمَ بنائه المعماريِّ البسيط، أخذني النصّ عبر ظواهِره عميقاً إلى داخلِه، الموجود ضمنَ منطقة التخيل، أو الفَرضْ·

الشرفاتُ الأربع المكوِّنة لبناءِ النصّ، عبارة عن شرفَةٍ واحدَةٍ، تمَّ تهشيم واحدِّيتِها ومركزيتها، ثمَّ توزيعها إلى أربعة مراكزٍ للقولِ· تفتيت وتفكيك المركزيّة والواحديّة يعكسُ قلقَ واضطرابَ اللحظة، في محاولة لتشتيتِ نظرِ المتلقي عن "رغبَةٍ" تجتاحُ الذاتَ الكاتبة، ربما بسببِ "الضرورة الاجتماعيّة" وسطوتها وانحيازِها إلى فَرْضِ قيودٍ، ورقابةٍ على النصِّ المكتوب، وعلى "النصّ المعاش" كذلك·

أقول، إنَّ الشرفةَ المركزيّة في النصّ، هي الشرفة الثالثة (المقطع الثالث)·· ذلكَ أنَّ باقي الشرفات سابِقة للحدث، هي موجودة أولاً، ثمَّ يحدثُ الفعلُ المقترنُ بها (تذهِلُ المارين، أو تحتفي بصباحِها الجديد)· في حينَ أنَّ المقطع الثالِث، يكونُ فيهِ الفاعل سابِقاً لوجودِ للشرفة، بل سابِقاً لفكرةِ وجودِها· الفاعلُ في المقطعِ الثّالث وهو "الصغيرةُ" التي ترسم (أو تخلِقُ، أو تمنحُ الحياة) الشرفةَ· الشرفة إذن تأخذُ حيّزها الوجوديّ بعدما رسمتها الصغيرة، والرسمُ كوسيلَةٍ يتطابِقُ مع الواقِع، حيثُ تحتاجُ الشرفات لتخطيطٍ يسبق وجودها، تخطيطٌ يعتمِدُ المهندِسُ فيه على "الرسم" وعلى القلمِ· وسائل "الصغيرة" المستخدمة نفسها في رسمِ (أو خلق) شرفتِها الخاصة·

 

شرفة الورق:

 

أرى أنَّ "الصغيرة"، الفاعل في النصّ، تبحَثُ عن جغرافيا أكثر اتساعاً تمنحها تحليقاً حرّاً، تبحَثُ وتحتاجُ نافذةً تتوافقُ مع وعيها لتكونَ وسيلةَ اتصالِها بالعالَمِ خارج جغرافيّتها الضيقة، التي تمثِّلُ البيت أو الوطن، مقارنةً بالعالم· الأزمة تصلُ ذروتها إذا تلازمَ العجز والوعي معاً، الجسدُ المقيَّدُ بسياجٍ أسفلَ الشرفة والعجزُ في التواصِل المفتوح والحر مع المارين أسفل الشرفة نفسها ينتِجُ بكاءً مكتوماً، وبالضرورة طاقةً داخليَّةً تحفِّزُ وتستفزُّ للبحثِ عن وسائل تستطيع من خلالِها البدء في أولى خطواتها نحوَ الحريّة·

كانَ القلم، وكانت الشرفة الشّعرية، شرفةُ الورق، الطاقة الوحيدة المتاحة، لكسرِ جمودِ الأسمنتِ وضيقِ جغرافيا الغرف، لتتواصلَ مع السّماءِ برحابتِها، مع المعرفَة بطاقتِها الخلاّقة، مع المارين في الشّارع· مع النباتِ والأصواتِ·· والحياة·

الضيقِ المكاني أولاً، والسعي نحوَ انفتاح الجغرافي، والضيقِ النفسي ثانياً، والسعي نحوَ الحريّة، هو ما يفسّرُ رغبة "الصغيرة" في تلوين "كلِّ شيء" باللونِ الأخضر، الدال الاجتماعي على الحياة·

هنا تحديداً (بعدَ انتهائها من رسم الشرفة وتلوينها) تدخل "الصغيرة" في أحلامٍ قلقةٍ، متراكبة، هدفها التقييم· والتقويم·

الحلم الأول/المقطع الأول·

تحيلُ كلمتا متدلية ويسيلُ إلى فرقٍ رأسيٍّ، ومن الواضحِ أن اتجاه الحركة، هو من الأعلى إلى الأسفل· من الشرفة إلى الشّارع·

الشرفة (أو الغرفة)، هي مكانُ إنتاجِ وتصدير الحياة، رغبةً في عالمٍ خارجيٍّ مختلف، لذلك كانت حركة المقطع الأول من داخل الشرفة (أو الغرفة) إلى خارجها·

الحلم الثاني/ المقطع الثاني·

تتبدَّلُ الوظائفُ وحركةُ النصّ، فكلمتا "صاعدة، ويتسلَّقُ" تحيلانِ إلى الانتقالِ من أسفل إلى أعلى، وبذلكَ يتحوَّلُ الشّارع بتنظيره وحراكِه الاجتماعي، وفضولِه وربما عبثِه، إلى مكان تصدير الحركة، لتصبحَ الشرفة (أو الغرفة) مكان الاستيراد والاستقبال··

هذا الانعكاس في مصادر الحركة، ربما مفاده التباين والارتباك الشخصي في تحديد مصدر المعرفة، وتحديد دور الآخرين في مساعدتنا لفهمِ الكون·

 

الحراكُ الداخلي:

 

أقترح قراءة المقطعين، وتفسير الحركة الداخليَّة، اعتماداً على زمنِ الفعل· لأنَّ الفعلَ داخِلَ بنيَةِ النصِّ، يجعلُ جزيئات النصّ ومكوِّناتِه في حراكٍ مستَمرٍ، توحي بحيويَّتِه وسعيِه من نقطَةٍ نحو أخرى، بهدَفِ إظهار وتوضيحِ محمولِه المعرفي، توضيح دلالاتٍ يرغبُ الشّاعرُ إيصالها· منظومَة الأفعالِ داخِلَ النصِّ تُبنى وفقَ تراتبيَّةٍ منطِقيَّةٍ، كذلكَ فالأفعال يمِكنُ تقسيمها إلى فعلٍ مركزيٍّ أساسيٍّ وأخرى مساعدةٍ·

 

المقطع الأول:

 

(يسيلُ) الفعل المضارِع الآني، الذي يوحي باستمرارِ الحدثِ وتواصِله، يجعلُ فعل الماضي (أذهلتْ) غير متناسِق مع الآنية والاستمرار، وكذلك غير متوافق مع توالي الحدث الذي يدلُّ عليه التركيب (كلَّ ليل)·

يمكن رصد الحركة من خلالِ المشهدِ التالي: (نبتة تتدلى، كلام يسيل، الشرفة أذهلت المارين(.. الذهول والدهشة، إحساس نفسيّ غير قائم بذاتِه، بل يحتاجُ إلى مسبِّبٍ خارجيٍّ يعلِّلُ منطِقيّاً الذهول أو الدهشة· وفي المقطعِ الأوَّل يكونُ ذهول المارين (النتيجة) هو هدف حركة النبتة والكلام إلى أسفل (السبب)·

وسؤالي: كيفَ يمكن أن تحدثَ النتيجة، قبل السبب؟

كيفَ يمكن أن يندهشَ المارون (في الماضي) ثمَّ يأتي سببَ الإدهاش فيما بعد، أو في المضارع (الآني)؟

وإذا كانَ من اقتراح لمعالجة التباين الزمني، فيكون المقطع هكذا:

 (1) بنبتتها المتدلية

وكلام أخضر (سائل) على جدرانها

شرفة أذهلت المارين

كل ليل!

ذلكَ بإحلالِ اسم الفاعل (سائل) محلّ الفعل المضارع المربك (يسيلُ)··· هذا الاقتراح يجعلُ من الحدثِ المستمر يُفسَّر بناءً على الفعل الوحيد في المقطع· أي أنَّ الحركة من أعلى لأسفل تستمرُّ في (ماضي الماضي) وتقفُ فقط عندَما يذهلُ المارون· ثمَّ يأتي السطر الأخير (كلَّ ليلة) ليعيد بعثِ الحركة وإنعاشِها· وبذلك تستمر الحركة، ويستمرُّ رفد الشّارع بأسبابِ حياة مختلفة، وهذا يذهل المارين·· صورة متواصلة·

 

المقطع الثاني:

 

يتطابق الحديث عن وجودِ فعلينِ مختلفين زماناً (أذهلت) النتيجة الواقعة في الماضي و(يتسلق) الحادِثُ الآن· وهذا، كما سبق، يكسِرُ تراتبيَّة الأفعال داخل منظومة النصِّ، وأقترحُ استبدال الفعل (يتسلّق) باسم الفاعل (متسلِّق)·

 (2)شرفة أخرى أذهلت المارين

بالنبتة الصاعدة إليها

وكلام أخضر (متسلِّقٌ) جدرانها

كل ليل!

صورةٌ متواصلة أخرى، ينتِجها النصّ، لكنَّها متناقضة مع الصورةِ الأولى·

هذا التفاعل بين الداخلَ والخارج، واللا تحديد لمصدر الحركة، يعكسُ توتّراً كبيراً داخلَ النصِّ المكتوب، ويحيلُ القارئ كذلكَ إلى ارتباكٍ أكثر، فالمتلقي، لا يستطيع أن يقرّرَ الجهة التي سينحازُ إليها، الشرفة وداخلها، وبما تحمِله من رمزيَّةٍ إلى الإنسانِ وداخلِه وآرائه وقناعاتِه، أو إلى (خارج الشرفة) أو الشّارع بما يحملُ من آراء ومعتقدات وتنظيرات مختلفة· ويعكِسُ المقطعان بما يحملانِ من صورتين مستمرتين ومتناقضتين، إلى حدٍّ ما، صراعاً داخليّاً بين الإنسانِ الخليجي، والمجتمع (الخليجي) المتحفِّظ·

لذلك، وبسبب التناقضَ الحادِثَ في المقطعين الأولَيْن، والارتباك في تقرير أيِّ الحدثين هو الذي سيتواصل على حسابِ الآخر، لأنَّ كليهما يحدث في اللحظة نفسها (كلَّ ليلة) وفي تواصلٍ وانسيابٍ كما أوضحتُ سابقاً· لذلكَ تقرِّرُ صاحبة المشروع أو صاحبة الشرفات، التي تحلم بفضاءٍ أوسع أن تهدمَ مشروعها ونصّها·· بواسِطة "الصغيرة" التي··

"مزقت الورقة

قبل أن تكمل أغنيتها الخضراء"

الآن أستطيع الانحياز إلى فرضيّتي، حيثُ اعتبرتُ المقطع الثالث هو مركز النصّ· هذا الفرضَ سأهدِمه لأقول، إن قرار "الصغيرة" رسم شرفة تستطيعُ من خلالِها الانطلاق إلى جغرافيا أكثر اتساعاً، وأفكار تتفاعل مع الآخر دون قيود ودون حواجزٍ، ثمَّ ظهور ارتباكِ قدرتِها على تحمّلِ هذه "الصدمة الثقافيّة" جعلها تهدمُ فكرة الرسم، ثمَّ تمزِّقُ الورقة· هدم الفكرة وتطبيقاتِها الفيزيائيَّة، مردّه إلى المقطع الرابع، الحامِل لجوهرِ النصِّ، وللتناقضِ بينَ الداخل والخارج على الصعيد الفردي، أو بين الداخل والخارج على الصعيد المجتمعي·

يمكن ملاحظة "السياج" الفاصِل بينَ المارين وأوَّلِ ممارسَةٍ حقيقيَّةٍ للتواصلِ معهم· الشرفة لأوَّلِ مرة تقوم بفعْلٍ مباشرٍ مع الآخر· عبرَ لفظَةٍ لها إيحاء أيروتكي، أقصد غمزتها لهم، في جهد واضحٍ لبناء علاقةٍ بينها وبينَ المارين أسفلَ سياجِها المانِع للتواصل·

ما العلاقة بين التي "غمزت للمارين" وبين الصغيرة التي رسمت الشرفة الثالثة؟

أعتقدُ أنَّ "الصغيرة" في المقطع الثالث، قد استفادت من فشل الشرفة (الفاعل الإنساني المضمر) في المقطع الرابع، وقررت خوضَ مغامرَةٍ كتابيَّةٍ لتفرِّغِ عجزها عن الوصول إلى علاقَةٍ متكاملةٍ لا سياج ولا حدودَ لها· ويستطيع فيها العطر أخذ مكانه الصحيح في الذاكرة لا أن يظلَّ منسيّاً، ويتحوَّلُ القهر والبكاء المكتوم إلى فرصَةٍ للتغيير، وإيجاد مكانٍ أكثرَ أريحيَّة، ومنفتِح أكثر على الرغباتِ الدفينة·

"الصغيرة" في المقطع الثالث، ليسَت صغيرة عمراً، ربما صغيرة حجماً، فالواضح أنها كبيرة وعياً، ولديها رغبات لا يصلُ لها إلا الناضجون والمتفاعلون مع الحياة·

بقي أن أضيفَ أنَّ دَوال الزمن مختلفة وكثيفة، في المقطع الرابع··

ليلاً، حيثُ (الغمزة، الأغنية القديمة غير المكتملة، الكثير من البكاء) صباحاً، (الاحتفاء بيومٍ جديد)

ظهراً، حيثُ (صهدَ الظهيرة يغلقُ زجاجَ النافذِة)

المقطع يتكوَّنُ من سبعة أسطر شعريّة، وبمهارَةٍ ملفِتة، يتمّ رصد حالات نفسيّة متباينة، وأزمنة مختلفة·· هذه المهارة "تختارُ" بخبرَةٍ لحظةَ انتهاءِ بنيان النصِّ، عند إغلاقِ الزجاج بفعلِ الحرارة غير الممكنِ تحمِّلها· لتحيل إلى عنوان النصِّ وشرفاتِه المنسيّة، وبالضرورة إلى تلكَ "الصغيرة المنسيّة" التي تجلِسُ في غرفتِها أمامَ دفتر الرسم، وتبحَثُ عن شكْلٍ تجريبيٍّ يمنحها حريةً غيرَ مشروطة·

 

(عن موقع جهة الشعر)

*كاتب من فلسطين(1)

 

* * *

 

أربع شرفات منسية

 

                                                                                  

 

سعدية مفرح

بنبتتها المتدلية

وكلام أخضر يسيل على جدرانها

شرفة أذهلت المارين

كل ليل !

 

(2)

 

شرفة أخرى أذهلت المارين

بالنبتة الصاعدة إليها

وكلام أخضر يتسلق جدرانها

كل ليل !

 

(3)

 

شرفة ثالثة

رسمتها الصغيرة في كراسة الرسم

ولونت سياجها وستائرها وبلاط أرضيتها بالأخضر

لكنها مزقت الورقة

قبل أن تكمل أغنيتها الخضراء

 

(4)

 

شرفة رابعة احتفت بصباحها الجديد

غمزت للمارين تحت سياجها بعطر منسي من ليل البارحة

وبقايا أغنية قديمة

وكثير من البكاء المكتوم

قبل أن يغلق زجاجها المشرع صهد الظهيرة القائظ·

طباعة  

قراءة في عدد
"العربي" سفيرنا الثقافي إلى كل بيت.. ماذا بعد أن تُلحق بالمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب؟!

 
وتد
 
خبر ثقافي