رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الاربعاء 19 ذوالقعده 1426 هـ . 21 ديسمبر 2005
العدد 1708

للحديث أكثر من دلالة

حصه لوتاه

كنت أستمع في إحدى المرات إلى واحدة من إذاعاتنا المحلية وكانت المذيعة فيها تتحدث عن بعض العادات والمعتقدات لدى  شعب من الشعوب من إحدى الدول الإفريقية، وقد علقت المذيعة في ختام  حديثها  باستهجان على تلك العادات واعتبرتها ليست أكثر من "خرابيط"· اتصلت بأحد المسؤولين الذين كنت أعرفهم وقتها في تلك الإذاعة وأبديت له ملاحظتي على ما سمعت، معتبرة أن تعليق تلك المذيعة يتجاوز أخلاقيات المهنة، وبخاصة في مجال احترام الآخرين واحترام معتقداتهم وعاداتهم· وذكرت له أن سلوكا كهذا في مجال الإعلام لا يعتبر فقط سلوكا  غير مسؤول ولكنه سلوك قد يتسبب في خلق شيء من التوتر  بين الدول، وذلك في حال لو أن الدولة المعنية بالتعليق كان من بين رعاياها أو موظفي سفاراتها من كان يستمع إلى تلك الإذاعة في تلك الفترة وسمع أن تقاليد وعادات بلده كانت عرضة للتهكم من قبل إحدى مذيعاتها، ثم سألته حول ماذا لو كانت معتقداتنا هي التي كانت عرضة  لعبارات الاستهجان حولها من إحدى الإذاعات، ترى كيف يكون موقفنا أو ردة فعلنا؟! الشخص الذي تحدثت معه وقتها كان رجلا إعلاميا يتمتع بالفهم ويدرك مسؤوليات الإعلاميين ودورهم في المحافظة على أخلاقيات المهنة، وبالتالي اتخذ ردة الفعل المطلوبة تجاه مثل هذا الموقف، بالمقابل يتوقع الإنسان أن شخصا يتحدت من خلال وسائل  الإعلام يصبح على دراية بأن موضوع حديثه له محددات والتزامات حيث إن للكلمة المكتوبة أو تلك المذاعة تأثيرا أكبر من حدود الحديث العادي الذي يجري بين الأشخاص في مجالسهم العادية· الحديث في الإعلام لا يعتبر فقط وثيقة ثابته قد تدين الشخص الذي يستعملها، ولكنه يتجاوز ذلك إلى التأثير في المتلقي· أي إن الرأي الذي يبديه شخص عبر وسائل الإعلام هو رأي أهم بكثير من ذلك الذي يتم تداوله بين أفراد قلائل أوفي دوائر مغلقة· من هنا تأتي أهمية أن يدرك الشخص المتعاطي مع وسائل الإعلام خطورة أي عبارة يوصلها للجمهور المتلقي ونوعية التأثير الذي ستحدثه تلك العبارة·

من الأمثلة البسيطة  التي أوردها هنا عبارة وردت من قبل أحد المحررين الصحافيين ضمن تغطيته الإعلامية لزيارة لأحد مسؤولينا الكبار لإحدى الدول ذكر فيها ذلك الصحافي أن المسئول "أبدى دهشته وإعجابه" لما رآه في تلك الدولة من تراث ومن تاريخ· والذي يتعامل  مع هذه الكلمات بشيء من التمعن سيرى أن المرافق الصحافي لاشك أساء لذلك المسؤول، وإن من حيث لا يدري، حين وصفه بأنه أبدى دهشته وإعجابه لما رآه في ذلك البلد· ذلك لأن الكلمة الأولى وهي "الدهشة" تعني أن الشيء الذي رآه الشخص المسؤول هو شيء لم يكن يعلم بوجوده من قبل، مما أثار دهشته· وإن عرفنا أن ما كان مقصودا بالكلام هو شيء من السمات الرئيسة في ذلك البلد الذي كان يزوره ذلك المسؤول، فما الرسالة التي أراد أو أوصلها المرافق الصحافي لجمهور المتلقين حول تلك الزيارة؟

التأثير في وسائل الإعلام يتجاوز أحيانا التأثير اللفظي أو المنطوق إلى التأثير غير اللفظي، أي ذاك المرتبط بحركة الجسد وتعبيراته الإيمائية أو الدلالية· فمثل الكلام المنطوق تعتبر لغة الجسد من اللغات المهمة التي ينقل الإنسان رسائله عبرها إلى الأشخاص الذين يتعامل معهم، ومن خلالها يوصل ما يدور في نفسه من دون استخدام لغة الكلام، وللغة الجسد حدودها هي أيضا من حيث إنها قد لا تكون في بعض الأحيان ذات طابع عالمي، بل ربما تكون مرتبطة بنمط ثقافي معين يحدد معانيها ولا يكون لها المعنى الدلالي نفسه في الثقافات الأخرى· وهنا أتذكر حادثة تسببت  فيها حركة الجسد في خلق توتر بين دولتين· ففي خطاب له في التلفزيون أبدى الرئيس الأمريكي  لندون جونسون مرة حركة أثناء حديثه حول زيارة له لإحدى دول أمريكا اللاتينية تسببت  في خلق توتر في العلاقات بين الولايات المتحدة وتلك الدولة ودام حوالي ستة أشهر· وقد  بذلت الولايات المتحدة خلال تلك الفترة جهدا غير عادي من العمل الدبلوماسي حتى تعيد الأمور على ما كانت عليه وتنقذ صفقة مهمة كانت قد أبرمتها مع تلك الدولة في أثناء زيارة الرئيس لندون جونسون لها· لقد كانت الحركة في عرف المجتمع الأمريكي حركة عادية، أما في تقاليد الدولة الأخرى فكانت تلك الحركة ذات دلالة مختلفة وفهمت بمعنى آخر، معنى يحمل شيئا من الإساءة·  وكان للإعلام بطبيعة الحال، كونه كان الناقل لتك الرسالة،  الدور الأكبر في خلق تلك المشكلة·

للبعد الذي ذكرناه في هذا المقال شقان، الأول والمهم أن هناك مسؤولية كبيرة تقع على الشخص المتحدث عبر وسائل  الإعلام من حيث تحمله للمسؤولية تجاه ما يرد في حديثه من عبارات· أما الشق الثاني، وهو الأهم، فهو ذاك المتعلق بحساسية الشخص المتحدث تجاه الآخرين حين يتعرض لهم بالحديث، وبخاصة إذا كان التناول مرتبطا بأشخاص أو بلدان أخرى،  فهنا تكون المسؤولية ذات بعدين، أولهما أننا حين نعطي لأنفسنا الحق أن نتحدث عن أشخاص غيرنا فيجب أن يتسم هذا الحديث قبل كل شيء باحترام الآخر واحترام ثقافته· وثانيا، حين نتحدث عن دول وأنظمة أخرى يجب أن نعرف أن احترام تلك الأنظمة هو من احترامنا لأنفسنا وأننا حين نتحدث عنهم إنما نحن نتحدث بدافع الرؤية الشمولية التي تنظر للعالم كأجزاء ترتبط ببعضها البعض من حيث التأثير والتأثر وأننا ننطلق من الشعور بالمسؤولية العامة·

وهنا أقول بأنه  لنا الحق أن نعتز بأنفسنا وبتجاربنا، لكن ليس لنا الحق أن نعتقد أننا نمتلك عقولا وتجارب ليس لدى العالم مثلها أو أفضل منها· إن التجربة الإنسانية في العالم ثرية وتستحق أن نوليها اهتمامنا واحترامنا، وهذا هو ما يجعلنا محل احترام، وليس عكسه·

طباعة  

يقيمها "المنبر" الاثنين المقبل
ندوة الإصلاح السياسي في ديوانية النيباري

 
سكرتارية النواب
 
ديرة بطيخ
 
درايش