رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 16 محرم 1427هـ - 15 فبراير 2006
العدد 1715

قصة

وللندم حكاياه

 

                                                                                  

 

بقلم: نسرين طرابلسي

لم تكن محبتي للغة العربية ثمرة ما غرسته أمي فيَّ منذ الصغر، أناشيد وأشعارا وقواعد· بل كانت استمراراً طبيعياً لسلسلة من عشاق اللغة العربية في العائلة· وكنت برعماً صغيراً على فرع من جذع ضخم وجذور تتشبث بالأرض كجذور السنديان·

كان عمي أكرم مفتشاً أول للغة العربية في وزارة التربية، ومؤلفاً لكتب اللغة العربية للمرحلتين الإعدادية والثانوية· أما عمي الدكتور أمجد فكان وزيراً للتربية أيام الوحدة، وأول من دعا للتشديد على تعليم العربية في كل المستويات وتعريب المصطلحات العلمية· والدي، رحمه الله، كان صاحب أشهر مرافعات القضاء وأكثرها تأثيراً·· ولكن لن أتكلم عن أمجاد أعمامي، فالمجد الأدبي لا يعد مجداً ما لم يقترن برقم ذي عدة أصفار، بل لأقل كانوا مخلصين للغة الضّاد·

مازلت أذكر الجلسات العائلية المملّة التي لم يكن يضفي عليها المرح سوى مباريات الإعراب، من الشعر تارة، ومن آيات القرآن الكريم تارة أخرى·

حتى أسماؤنا اختيرت كلُّها من المعجم· فبعد ندى وهدى كان أيمن ورزان ثم نسرين· أما عن كتاباتنا فلم تكن دفاتر أحدنا تخلو من بعض الخواطر أو الشعر وكان أشطرنا هو أيمن، إلا أنني كنت الأصغر··

كانت موضوعات الإنشاء التي أكتبها عن عيد العمال وعيد الأم وفصل الربيع وبقية الأعياد، تحوز إعجاب أساتذتي ومدرسي، حتى صارت هاجسي وحلمي وهوايتي ومادتي المفضلة·

عندما وصلت لسن المراهقة توسعت موضوعاتي، وأصبحت أطلق العنان لخيالي وألهث وراءَه في موضوعات شتى، حتى صارت كتابتي تشكل خطراً على اتجاه تفكيري، فحكمت عليها أمي بالإعدام الجماعي حرقاً على الطريقة الهندية، في مدفأة حمام الحطب·

كل هذه المقدمة ولم أصل بعد إلى قصتي، فكلما مرت ذكراها على خاطري غلى دمي خجلاً وتجمّع في رأسي ووجنتي، وكأن العالم كله في تلك اللحظة يذكر فعلتي ويمد إصبعه الكبير مشيراً إليّ ويطلق ضحكة شماتةٍ كبيرة· وبعد مرور سبع سنين ونيّف على الحادثة وجدت أن الحل الأمثل للتخلص من عقدة الذنب هذه، هو أن أنشر قصتي·

نعم، سأنشر قصتي لكل الناس، سأواجهها· فمرور سبع سنين مدة كافية لنسيان عزيز قد مات أو حبيب قد هجر، إلا أنا، فقد فرد العنكبوت خيوطه الدقيقة في ذاكرتي ونام في سبات شتوي·

كانت (مدام أمل) مدرسة اللغة العربية في الصف الثاني الثانوي· وماذا أحكي لكم عن مدام أمل؟ ليس وجهها شديد البياض وشعرها القصير الذهبي وأناقتها الغربية فقط ما جعلني أحبها، بل شعرت أننا صديقتان· كانت تحبني كما أحبها وتنظر إليّ عندما تعطي الدرس كما أنظر لها، وتعجب بأسئلتي وأجوبتي كما أعجب بإلقائها وشرحها·

كان من عادتها أن تجلس على أول مقعد في الصف وتضع رجليها على الكرسي حتى تراها كل الطالبات· فكنت أغير مكاني وأجلس في المقعد المقابل لمجلسها· أخالها توجه كلامها لي وحدي· أطير وأرتفع وهي تحكي عن أدب الرواية والقصة والمسرح، وتشرح الشعر الجاهلي وأدب المهجر· عشقت طريقتها وعشقت ساعة دنو حصة اللغة العربية، وعشقت وجهها الأبيض وشعرها الأشقر ونظارتها القديمة· بالمقابل أولتني اهتماماً أثار حسد صديقاتي المتفوقات·

ودنت الامتحانات التجريبية التي تجريها المدرسة قبل الامتحان العام· وبدأ الاستعداد للامتحان يجري على قدم وساق وكانت تلك الليلة المشؤومة··

درست ودرست، وحفظت وسمّعت كتابة، واستذكرت شفهياً· عربت وأتقنت الإعراب، وقطعت بحور الشعر وأجدت التقطيع، وحفظت نماذج من شعر امرئ القيس والنابغة والجاحظ وابن الرومي وأبي نواس وأحمد شوقي وميخائيل نعيمة ونزار قباني· حفظت مقاطع من أدب جبران ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس وسعد الله ونوس وغادة السمان·· حتى امتلأ رأسي، وبدأت الآلام تنتابني والدموع تنهمر من عيوني· واجتاحني خوف ورعب وكابوس لن أنساه ما حييت، صار يطرق جمجمتي بيد من حديد· ماذا لو نسيت؟!! يا إلهي؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم·

كانت ساعة الحائط الكبيرة تدق أربع دقات وبقي على موعد الامتحان خمس ساعات· ما هذه الفكرة الجنونية المزعجة؟؟

توضأت وصليت الفجر وعدت إلى مكاني· كان برد الفجر قد اشتد كثيراً فأحضرت حراماً صوفياً ولففت به نفسي· اشتد البرد أكثر، فتجمد أنفي وتحجرت أصابع قدمي· حاولت القراءة مجدداً، فأخذ الشيطان يلعب لعبة نط الحبل على أعصابي، ويوسوس·· يوسوس، ويهمس في أذني وخلف أذني ويدغدغ رقبتي ونقرتي، ثم فرد جناحية الأسودين على ذاكرتي· وأخذت أصابعه الطويلة تعبث بتلافيف دماغي· كان صوته يكرر كالفحيح: ستنسين·· ستنسين·· ستنسين· ولسان حالي يقول: لن أنسى·· لن أنسى· وقررت النوم·

ذهبت إلى غرفة النوم أطفأت النور واندسست أمام أختي في الفراش· كان الفراش دافئاً، وما إن أغمضت عيني حتى بدأت أختي ترفس الجسم الدخيل الذي سرق دفء الفراش وجزءاً من الغطاء· أشعلت النور، وبدأت أكتب على ورقة صغيرة اقتطعتها من كراستي أبيات الشعر بخط متناه في الصغر ··

قفانبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

···

وللحرية الحمراء باب

بكل يد مضرجة يدق

كنت أحفظ جميع الأبيات عن ظهر قلب، كتبتها كلَّها دون النظر إلى الكتاب، لكني كتبت (الراشيتة) للاحتياط، فلربما نسيت بيتا أو كلمة· سأتذكر أول حرف منها فقط وأكمل من عندي، ولن يلاحظني أحد· هكذا زين لي الشيطان فعلتي، فبدت في غاية البساطة·

ذهبت إلى الامتحان وأنا أضع يدي بين الحين والآخر في جيب سترتي لأطمئن إلى أن كلَّ شيء على ما يرام·

جلسنا في مقاعد متباعدة كالعادة في الامتحانات، ووقفت المعلمة المراقبة وبين عينيها عقدة الجدية والحزم، ووزعت أوراق الأسئلة· حُددَ الوقت وبدأ الامتحان··

أمسكت القلم وقلبت ورقة الأسئلة، وبدأت أكتب· وبدأت الورقة الصغيرة المطوية بعناية في جيبي تكبر··

يا إلهي!! إنها تكبر وتكبر!! أحسستها صارت بحجم البرتقالة نظرت إلى جيبي كان كل شيء على حاله··

خاطبت نفسي: أرجوكِ يا عزيزتي ركّزي في الأسئلة، وتناسي الورقة إنكِ مستعدةٌ للامتحان، وليس هناك ما يخيف·

أعدت ناظري للورقة وقرأت: السؤال الأول اختياري:

- اختر شاعراً من شعراء المهجر وتحدث عن أسلوبه مستشهداً بنماذج من شعره·

- قارن بين شعراء العصر الأموي وعصر الانحطاط واستشهد بنماذج من الشعر·

يا للسعادة، أنا أحفظ كل أبيات الشعر، وسأكتب موضوعاً وسيكون الأفضل ولن أنسى أي بيت، فمعي ما يساعدني في جيبي·

وبدأت أكتب·· كانت البداية جيدةً جداً إلى أن وصلت للشواهد الشعرية·· وكأنها طيرٌ فرّ من القفص·

يا إلهي!! أين أبيات الشعر؟

نفضت ذاكرتي ولكن·· هيهات·

بدأت الكلمات تسبح فوق الورق الأبيض وتتداخل، وعيناي تدققان في الورقة ومحجراهما يتسعان، وبدآ يدمعان· حزمت أمري، سأفتح الورقة فأنا كتبتها للحظة كهذه وأتى وقت حاجتها·

كانت المعلمة تزرع الممرات بين المقاعد بعينيها وخطواتها·

أخرجت الورقة بسرعة، وضعت يداً تحت المقعد وأسندتُ بالأخرى رأسي كأنني أفكر· كان رأسي في تلك اللحظة خالياً من الأفكار والكلام·

كان فارغاً بدرجة مذهلة مثل صندوقٍ أو ثمرة أكلت الدودة قلبها وتركتها هيكلاً·

أخذت أتصبب عرقاً· صارت يدي لزجة فتحتها فإذا الورقة قد ترطبت·· يجب أن أسرع في إنجاز الأمر·

الوقت يركض كأرنب جبان، والشيطان يتربع فوق ورقة صغيرة مكرمشة دبقة ويقهقه بصوت عالٍ، عالٍ جداً·

أما ورقة امتحاني فكانت فارغة إلا من أجوبة لاتحمل ترابطاً، وتعكس حالة الارتباك التي كنت أعيشها·

فقدت السيطرة على أمري وعلى التشتت الذي ألم بي·

وفي لحظة لا وعيٍ فتحت بها الورقة المشؤومة، كآخر ما يمكن أن أفعله قبل10  دقائق من نهاية هذا الكابوس، كانت أصابع المراقبة قد امتدت لتلقط (الراشيتة) وعلى وجهها نظرة حازمة وجهتها لي، ملؤها التهديد والوعيد· وابتسامةُ رضا وجهتها لنفسها لما قامت به من عمل بطولي، أحبط شروعا في الغش، ستستحق عليه ثناء المديرة·

لم آخذ في حياتي حماماً أشد غلياناً من الذي أخذته ذلك اليوم· فنظرات صديقاتي اللواتي طالما أكل الحسد قلوبهن من تفوقي في اللغة العربية تحولت سياطاً حامية وألسنةَ لهبٍ لفحتني دون رحمة· ألسنتهن التي طالما تلعثمت في إلقاء القصائد، ستنطلق كالشلال قصيدة هجاء عصماء، تكشف حقيقتي· فما كانت شطارتي وعبقريتي السابقة إلا غشاً بدليل حادثة هذا اليوم· حادثة شهدتها أربعون شاهدةَ عيان، بالإضافة إلى الدليل المادي·

وكله يهون، والله كله يهون، من تأنيب الضمير إلى أكثر التعليقات تجريحاً إلا نظراتها·· نظراتُ مدام أمل·

لا أصدق أن هذه الحادثة مضى عليها سبع سنوات·

خرجت من قاعة الامتحان وأسرعت إلى القاعة التي تراقب فيها مدام أمل، وأخبرتها· لا أذكر ما التعابير التي استخدمتها، ولا حرفية الكلام· كل ما أذكره أنها زمت شفتيها بقوة، وعقدت حاجبيها، وأشاحت بوجهها عني· كأنها تشعر ألماً ولا تستطيع التأوه، وعادت إلى صفّها مبتعدة·

ومضت الأيام وتجنبتني· وسّطت بيننا أشخاصاً ورجوتهم:

"كلّموها، دعوها تسمعني، اشرحوا لها موقفي· يكفيني الصفر الذي أخذته في امتحان أحب المواد إلى قلبي، فليشفع لي عندها أحد ما"·

لم تعد أبيات الشعر تُشرَحُ لي وحدي، فتحمل المعاني الرائعة· ولم تعد نظراتها توجّه إلى عيني عندما تحكي عن المسرح فتتوجني ملكة فوق خشبته· ولم تعد تروي القصص القصيرة لي وحدي فأصبح بطلة أحداثها· لقد أصبح المقعد المواجه لمجلسها مشغولاً بالفتاة التي حصلت على العلامة الأعلى·

تحولت حصة مدام أمل من أروع اللحظات التي أقضيها في المدرسة إلى لحظات صعبة أخافها وأتجنبها· تحولت حصة مدام أمل من ساعة أنتظرها وأحضّر لها كأهمّ ما يحدث في أيامي، إلى ساعات حرجة تمرّ عليّ ببطء فتجرحني بسكاكين الندم· ولم يبق لي إلا أن أتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعني، عوضاً عن أجلس مُهملةً في آخر الصف تلوكني ألسنة الشماتة وتلفظني نظرات اللامبالاة·

وكانت الأيام كفيلة أن تضع تلك القصة على رف النسيان· فكم من فتاة غشّت في الامتحان، وكم منهن اجتزنه بتفوق، والكثيرات نجحن تلقائياً بالطريقة نفسها التي درسن بها دون بذل جهودٍ ملحوظة·

وخُطِبَت تلميذتان قبل الامتحان النهائي بأشهرٍ، فشغلتا المدرسة من أولها إلى آخرها بصور خطبتيهما، وبالخاتمين الذهبيين اللذين التمعا في خنصريهما، سالبين ألباب جميع الفتيات، فحلقا متعانقين فوق أكوام الكتب، أعلى من سور المدرسة، فأبحرت وراءهما الآمال في عالم غامض من الأحلام·

أما أنا، فقد انقلبت حياتي رأساً على عقب· أصبحت أمي تكثر من مداهماتها التفتيشية على غرفتي للتأكد من أنني أدرس· وأصبحت فعلتي هي المشجب الذي يعلق أهلي عليه المبررات لسحب ثقتهم من عهدتي·

بالإضافة إلى كابوس اختبأ في كتب اللغة العربية، فصرت أتجنبها خوفاً من انهمار شلال دموعي، الذي أصبح مدراراً، ورغم ذلك لم يغسل أحزاني·

الشيء الغريب الذي لا يُصدّق؛ أن الشيطان اختفى إلى غير رجعة· فلم يعد يوسوس ولم يعد يهمس· ولم يأت حتى ليقول كلمةَ عزاء أو ليسمع عقدة الذنب، بل ذهب دون وداع تاركاً إياي غارقة في مستنقع الاكتئاب واليأس·

وفي أحد الأيام الأخيرة قبل شهر العطلة المخصص لتحضير الامتحانات، وفي حصة اللغة العربية بالذات وفي مجلسي آخر الصف، كنتُ أعرب بيت شعرٍ حددت مدام أمل وقتاً قصيراً لإنجازه· وخصصت عشر علامات لمن تنتهي منه أولاً· وفي سهو مني عما فات، وفي غمرة فرح طفولتي أنستني شعوري بأنني منبوذة، أدرت رأسي سريعاً إلى حيث مدام أمل رافعة إصبعي:"انتهيت قبل الجميع"·

كم كانت فرحتي غامرة حين رأيتها توجه نظراتها نحوي··

أجل كانت تنظر إلي متوقعة أن أنتهي قبل الجميع·

ولن تصدقوا فلقد كان هناك شبح ابتسامةٍ بيضاء، كانت سعيدةً بصدق توقعاتها·

ابتسمتُ ابتسامةً كادت تتحول إلى دمعة من شدة الخجل، وإلى آهٍ من شدة الفرحة··

وحصلت على العلامات العشر·

وحصلت أيضاً على خلوةٍ صغيرة مع مدام أمل بعد انتهاء الدرس، فتأسفت وتكلمت واعتذرت وشرحت، ولم يكن هناك داع لكل ذلك فلقد كانت أمل مستعدةٌ مسبقاً لقبول اعتذاري، ولمعاقبتي بأقسى الكلام و بأكثر العتاب حناناً ومحبة·

بكيت وأحسست براحة بعد طول عذاب··

لن تصدقوا·· لقد طلبت مني أن أعود للمقعد المواجه للمقعد الذي تجلس فوقه واضعة ساقيها فوق الكرسي المجاور·

طباعة  

في رابطة الأدباء "حكاية تترى·· ونبراس للسرد"
الشعراء يؤبنون الأمير الراحل بقصائد "حوامل العرفان"

 
وتد
 
إصدار
 
المرصد الثقافي