رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 4 ربيع الأول 1427هـ - 5 أبريل 2006
العدد 1722

شاعر الخمس دقائق في "هواء قديم"!
محمد سليمان... ممرّض لغة أثقلت جسدها الشيخوخة

                                                          

 

كتب نشمي مهنا:

محمد سليمان في إصداره الشعري الأخير "هواء قديم" يبدو كممرض لجسد مجروح بالشيخوخة· وإن أبدلنا اللغة بالجسد جاز لنا أيضا تشبيهه بجرّاح ماهر يستأصل من اللغة ما يثقلها، وما يتورم في العبارات والصور·

خفيفاً في مجموعته "هواء قديم"، هكذا بدا، ومستغنياً في عباراته الشعرية عن الأثر "الكلامي" الواضح/ الثقيل، وتراكم الصور، ومراهناً فقط على الخفة والسلاسة في ترك الأثر في ذهن القارىء، كأصعب الرهانات الكتابية·

يبدأ سليمان المجموعة بثلاثة نصوص طويلة مقارنة بالنصوص الأخرى، ففي "عادة في الشتاء" و"دهاليز 1994 - 1995" و"البعيدة اسمها مليج" تنويع على محاورة الماضي، سواء ذكرى امرأة، أو مكابدات حياتية، أو بلدة تحتضن الاثنتين: الأنثى غير اليقينية "هالة"، وطفولته· وفي النصوص الثلاثة نفَس لا ينقطع يملأ صدر الشاعر وذاكرته بـ"هواء قديم"·

هو الماضي، وحده، لا يفارق الشاعر، حيث هو المبتدأ والخبر ومنتهاه:

إنه البرد

فدعْ لي ثوبي

أيها الماضي

صورة أخرى يخترعها سليمان ليشير ببساطة إلى الماضي، إلى مكانه، ناسه، أحلامه المزروعة فيه، وبعد أن يدلنا عليه يقول إنه لم يكن يعني ذلك تماما، بل كان يريد أن يقنع جسده بمتع الشيخوخة، ويضع أمام روحه البيضاء مرآة بحجم السنوات المتفلتة وبكثافة الأحلام الضائعة:

مثلنا

سيكتشفون فجأة أنهم كبروا

قبل أن يصعدوا

وقبل أن يعبروا البحور كلها

الذين يركضون الآن في الشوارع

والذين يظنوننا جثثا

والذين أيضا

يشبهوننا

صورة ثالثة للماضي لكنها هذه المرة لماض سيحدث و "متوقع" - إن جاز التشبيه - يرسمها سليمان، ليقول إنه الآن يعيش ماضيا!

في المستقبل

حين أصير عجوزا في السبعين

وحين تصير الحاجّة هالة·

في المستقبل

حين يفرّ الشارع من أرجلنا

وتصير الصور بدائل في الألبوم

وحين يظن صبيٌّ أني

كنت عجوزا طول الوقت

····················

سوف أكون حكيما جدا

وصريحا مثل الريح

····················

سأذكر هالة أحيانا بالبحر

وأيضا

سوف أمد يدي

لأداعب سمكا·

 

بوح صريح لتضميد الألم

 

يقول كل ذلك لمن؟!

هو بوح للنفس أولا، وديالوج لتهدئة الرعب من النهايات، يحسن إدارته سليمان، ويؤلف له حيلا باستعادات بعض ما فات مرة، وبحبكة نبوءات للقادم أحيانا أخرى· وفي الحالتين هو لا يختار الأجمل، فمن سلة الماضي قد يخرج جندي مهزوم، أو أحلام مضاعة، ومن القادم قد يطل شبح:

أخشى أن تتسع خروم شباكي

فأعود بقصص المغلوبين فقط

وبقايا سفن

هذا ما حدث، ثقوب كبيرة في شبكة الذاكرة، تسرِّب في الغالب أحلاما وتستبقي على هياكلها الحديدية في القاع· لم تشغل باله الحكمة وحدها، أو ما تتظاهر به "الشيخوخات" عادة· إنما هناك الهفوات، والجروح القديمة، والنزق، والرغبات المعمرة، لأنه مثلما لا يجمّل لغته و"يمكيجها" هو لا يجمل الماضي والحياة، و"صريح مثل الريح" كما يقول·

يخيّل لقارىء "هواء قديم" أن الشاعر كتبه دفعة واحدة، وبنفس واحد، فبعد أن تجمعت أطراف النص في مخيلته أفرغها في خمس دقائق· يؤكد ذلك خيط نفَس متصل بين بداية كل نص ونهايته، وبين مفتتح المجموعة وخاتمة نصوص المجموعة· وهنا، وبمثل هذه المخيلة التي ظلت منشغلة بلملمة الأفكار والصور، ومنمنات الحياة والشارع والذكرى والمرأة والموت، ثم أملت عليه نصا جاهزا نظن أن محمد سليمان لا يحترف التعديل أو التنقيح أو كتابة المسودات·

 

لغة منعشة وانحرافات يقظة

 

نصوص سليمان في مجموعته الشعرية - ومجموعات سابقة - كأنها تعمل على خداع القارىء بفكرة أن اللغة مرمية على قارعة الطريق، متوافرة أمام أعين المارة ولم ينتبه لها أحد· وأن كل ما هنالك أنه وضبها ونفض عنها الغبار في مواقع، وتركه في مواقع أخرى لتأكيد أصالة العادي المغبرّ ومدلولاته في إقناعنا بالواقعية السحرية!

كل ذلك غير صحيح بالتأكيد، وقلب عبارة الجاحظ من أن الأفكار هي التي على قارعة الطريق، ليس بهذا اليسر ولا بتلك السهولة، إلا لمن يتنفس اللغة كهواء منعش ويحاول إيهامنا بقِدمة·

 ومحمد سليمان كذلك·

يقول في نص "ورق أصفر"، كمثال:

ببراميل مملوءة باليود

وكراتين محشوة بالقطن

أقف مستعدا

حتى يعرف الذاهبون إلى الحرب

أنهم·· ذاهبون إلى الحرب

ويكف المسالمون عن ارتداء

ملابس الجنود·

دلالة اللون واضحة هنا، والأدوات ومناسباتها واضحة أيضا، لكن ما يعتمده الشاعر شيئا آخرا يتجاوز اللغة أو الصورة المتوقعة أو المعنى البارد، فهو من كل العادي يفاجئنا بانحرافات يقظة لخاتمة المعنى، وقبل ذلك يحقن جسد النص بكيمياء سرية تمده بالنضارة والحيوية، وتدفعه إلى أماكن غائرة لم يكن يتوقعها القارىء المستسلم لسلاسته الظاهرة·

ولئن قلنا إن نص محمد سليمان كتب بنفَس متصل (أو يشبه جسدا) فلا يصح مع هذا القول اقتطاع أجزاء منه كمحاولة لعمل قراءة تتناسب والقراءات الصحافية المختصرة· كما لا يمكن الخروج عن الشكل المعتاد لمثل هذه الكتابات بإيراد النصوص بأكملها·

 إذن، لابد من اقتراح قراءة المجموعة كاملة كي يتنفس القارىء الهواء كما هو في فضائه·

طباعة  

شعراء بلا أقنعة
 
قصائد
 
خبر ثقافي
 
إصدارات ثقافية
 
"الكويت": الكراهية تسكن "فندق رواندا"