رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 4 ربيع الأول 1427هـ - 5 أبريل 2006
العدد 1722

شعراء بلا أقنعة

                                                                                   

 

ياسين عدنان – مراكش

1- يعاني النقاش حول الشعر في بلادنا من عائق كبير، وهو اختزال الجميع له في سؤال الشكل: هل أنت عمودي؟ تفعيلي؟ أم من "ميليشيات" قصيدة النثر؟ وهو السؤال الذي كثيراً ما ضيَّعنا وجعلنا ننسى الأهم· أقصد حساسية الشاعر ومزاجه الشخصي· هذان العنصران اللذان تُؤثِّر فيهما التحولات العميقة لكل من المجتمع والناس، وعبر الانتباه لهما يمكننا أن نحس أهمية وخطورة المَهبَّات التي انفتحت عليها قصيدتُنا وفتحت القراء عليها· لكنَّ الكثيرين مازالوا يصرون على قراءة الشعر الجديد في كنانيش قديمة وبنظارات قدامة بن جعفر، وهؤلاء طبعاً سيكون من الصعب الحديث معهم عن الشعر، هذا الهواء الذي نتنفسه ولا نخجل من أنفسنا حتى ونحن نختنق به·

حينما نشرتُ مجموعتي الشعرية الأولى (مانيكان)، تحفَّظ العديدون على القسوة التي كتبتُ بها عن المرأة· بل هناك مِن رفيقات الزمن الطلابي من قاطعنني· لقد خيبْتُ أفق انتظارهن· وخذلتُ حزمة الشعارات اليانعة التي رفعناها معاً في ردهات الحرم الجامعي وساحاته الملتهبة· كانت قصائد (مانيكان) غير مهذبة في الواقع، ولا تليق· لكن، لا تليقُ بِمَن؟ أما أنا فلم أكن قادراً على التغني بالمرأة على طريقة الآخرين· المرأة / الحلم· المرأة / البهاء· المرأة / المُطلق· أيْنَها؟ ليست هذه المرأة / المثال سوى جوكاندا عتيقة تستحيل استعادتُها اليوم في هذا الزمن الواقعي، حيث النساء شقائق الرجال حقاً لا مجازاً، وخروجهن إلى فضاءات المجتمع حيث يمارسن حقوق مواطنتهن كاملة أفقدهن الكثير من السحر· المرأة التي في الخِدْر، تلك التي تسترق النظر من شق الباب، وتغمز من وراء النافذة، أو تلك التي يصِلُكَ صوتُها من وراء حجاب كانت ساحرة فعلاً· والشعراء تغنوا طويلا بهذا السحر منذ امرئ القيس حتى نزار قباني· أما أنا فالنساء اللواتي عرفتُ كنَّ أقل غموضاً· إنهن عاديات، سافرات، واقعيات، وأحياناً غير مكتملات· ثم إننا لا نبحث عنهن في وجه القمر· فهن معنا في الشارع والمقهى، وأحياناً في الحانات· فلماذا نبحث عنهن في قصائد القدماء؟ ولماذا يُطلَبُ مني اليوم أن أتغزل بليلى العامرية رغم أنني لستُ قيس، ورغم أن هذه الأخيرة لا تشبه النساء اللواتي أسكن إليهن؟ ثم هل من الضروري أن أحب؟ أنا لا أريد أن أحب أصلاً· أفضل أن أختبر الكره قليلاً، فأكره العالم والناس والشعر والشعراء· أين المشكلة إذن؟

2- كتبتُ منذ ثلاث سنوات مقالة في (الحياة) اللندنية أتضامن فيها مع الشاعر المغربي عبد السلام المُساوي الذي كاد البعض أن يتهمه بالخيانة العظمى فقط لأنه عاد من دمشق ولم يرافق وفد الدروع البشرية المغربية إلى العراق· لم أكن مقتنعاً حينها بفكرة إرسال دروع بشرية يوماً واحداً قبل الحرب· فلمبدأ إرسال الدروع البشرية عمق رمزي تضامني يجب استثماره نفسيا وإعلامياً· وإلا فلا معنى لإرسال نخبة مغربية فقط لتموت· إن موتاً سهلا وغبيا كهذا لا يُشرِّفُ أحداً بالتأكيد· عاد المُساوي، ممثل اتحاد كتاب المغرب في هذا الوفد، لأن زوجته تعرضت لإجهاض خوفا على زوجها "الغادي إلى الهَيْجَا بغير حُسام"· ولقد فضل الشاعر حينها أن يعود إلى بلده ليكون درعا بشريا واقيا لزوجته في محنتها الصحية والنفسية· لكن الرجل سيتعرض للكثير من الانتقادات في الصحافة الوطنية وأغلبها كانت تركز على صفته ك "شاعر" رغم أن المُساوي ناقد وكاتب سُرودٍ أيضاً· لكن كونه شاعراً كان بالنسبة للجميع أكثر إيلاماً· كان واضحاً أن الشاعر قد خذل جمهوره وهو ما لن يُغفَرَ له بسهولة· لقد اكتشفوا مع الأسف أنه ليس كعنترة بن شداد الذي لم يخذل قبيلته ساعة الحرب· كان بإمكان المساوي أن يصبر قليلا، ويخترق الحدود السورية العراقية في سيارة اللاندروفر التي حملت دروعنا الوطنية إلى العراق ليبيت معهم مختبئاً في بناية المولد الكهربائي مثلما باتوا ويعود معهم في اليوم الموالي إلى دمشق وقد أصبح بطلا يطلق التصريحات النارية في المطار· لكن يبدو أن هشاشة الشاعر انتصرت، وهشاشة الإنسان أيضاً· مادام الشعر يعرضك على أن تكون أنت· إنساناً قبل أي شيء· ثُمَّ يكفي الجنين الذي راح، هكذا فكَّر المساوي وهو يعود تاركاً خلفه دور البطولة الذي لا يُجيدُه· الشعراء ليسوا أبطالاً· أو على الأقل لم يعودوا كذلك· وقصيدتهم الجديدة الخالية من أناشيد الحماسة واضحة في هذا الشأن· لقد انتهى عهد الشعراء الفرسان، والشعراء الأنبياء، والشعراء المبشرين· الشعراء ليسوا أكثر من كائنات هشة، مرتبكة، مهزومة أحياناً· فقط على القراء أن يقرؤوا الدواوين الصادرة حديثاً ليكتشفوا هشاشتهم وضعفهم فلا يظنوا بهم بعد ذلك الظنون·

3- (الحب مهزلة القرون) كان هذا عنوان أحد أشهر دواوين الشاعر المغربي محمد عنيبة الحمري الصادر في ستينات القرن الماضي· وهو الديوان الذي كتبه هذا الأخير نكاية ببعض مُجايليه الذين تنكروا للوطن وتبعوا نزار قباني· ومنذ ديوان الحمري الذي وجَّه لموضوعة "الحب" الضربة القاضية صار الشعراء المغاربة يفضلون الوطن على النساء في قصائدهم· لكنَّ هذا "الوطن الجميل" الذي تغنى به شعراء الستينات والسبعينات لم يعد مُدلَّلا كما في السابق من طرف الشعراء· الشعراء الجدد يفتقرون إلى روح الانتماء، هكذا يفكر النقاد "الوطنيون"· أما أنا فلا أملك رداً، فقط أفكر بِعمَّار مرياش· كان الموتُ وحظرُ التجول يحومان كبُومتين في الشارع الجزائري صيف 1993· وكان عمار، أحد الشعراء الأكثر تألقاً في المشهد الشعري الجزائري أيامها، يعيش حالة سأم سوداء حينما طلبتُ منه أن يُعِدَّ لي ورقةً حول مستقبل الجزائر كما يحدسه كشاعر: "فين هو المستقبل يرحم باباك؟ لقد ضحَّت الجزائر بالآلاف من أبنائها لكيلا نبقى فرنسيين· واليوم أغلب الشباب مستعدون لإرسال أقرب الناس إليهم إلى الجحيم من أجل جوازات سفر فرنسية مزورة·" هكذا أجابني الشاعر بانكسار، وبغضب أيضاً· وبعدها بشهور ضحَّى عمار بعمله في الإذاعة الجزائرية، وبالمرأة التي أحبته، وغادر إلى باريس· لكن ليس قبل أن يُودِعَ القصيدة سأمَهُ الأخير:

" أمقُتُ العالَمِين / ولا شأن لي ببلادي / ذراعاي مبتورتان / وذاكرتي أمة فاجرةْ· / كلُّ هذا الخرابِ / وما زلتُ لم أشهدِ الآخرةْ ؟ / سوف لا شك أنِّي توفيتُ / منذ قديم الزمان / وها أنذا أتنقَّلُ يومَ القيامةِ / بين السعير وبين الوطن·"

هل كانت تلك ردة فعل متشنجة لشاعر مرهف على واقع الحرب الأهلية؟ لا أعتقد· فحتى الشعراء المغاربة من الجيل الجديد لم يترددوا في مخاصمة وطنهم بشكل جماعي دون أن يكونوا في حاجة إلى ذريعة كهذه· فكلمة "وطن" لم تعد مُدلَّلَة كما في السابق في القصيدة المغربية الجديدة· فهذا الشاعر عبد الدين حمروش يعتبرُ الوطنَ "راية قديمة تُرفَع في الصباح لتُطوى في المساء"· أما بالنسبة لسعد سرحان، ف "الوطن كلمة وَلُود أنجبَتْ قاموساً من الكلمات الشزراء"· إنه "بُستانيٌ حاذقٌ يُشذِّبُ المواطنين واحدا واحداً حتّى لا تستطيل أحلامهم·" وهو "امتحانٌ مُلتبِسٌ أيضاً، ترسبُ فيه إذا نجحتَ ولا تنجح إذا رسبت·" أما بالنسبة لرشيد نيني، فالوطن سروالٌ واسع كلٌّ يريده على مقاسه: "الجنود يفضلونه محاصَراً عن آخره ليستعملوا بنادقهم بطلاقة أكبر· الأثرياء يفضلونه خارجاً لتوِّهِ من حرب· الفقراء ينامون على رصيفه· السياسيون يعترفون له بالحب· أما الأمهات فلا يفهمن لماذا هو قاسٍ هكذا؟"

القراء أيضا لا يفهمون لماذا توقف الشعراء عن حب الوطن؟ ربما لأنهم كلما أتوا على ذكره تذكروا أولئك الأنانيين الذين سجلوه باسمهم في المحافظات العقارية والمصارف· الشعراء لا يكرهون الوطن كما يظنُّ النقاد العموديون ويزعمُ المخبرون، لكنهم يكرهون البؤس الذي يحاصره من الداخل· ثم إن الشعراء اليوم صاروا يكتبون قصائدهم بمزاج عكر وسخرية مرة، بلغة عنيفة وأقلام طافحة بالحياة· وسيكون من الصعب أن نطلب منهم مجاملة الوطن بقصائد موزونة مقفاة يسهُلُ تلقينها للأطفال في المدارس الابتدائية·

4- هل انحرف الشعر؟ ربما· لكن المؤكد أن شعراً جديدا فعلاً ومختلفا حقا صار يُكتَبُ اليوم· شعر يستفيد من مناخ حرية غير مسبوق في ظل التهميش الجديد الذي صار يعيشه الشاعر· تهميش الشاعر حريتُه· ما أجمل الكتابة في الهامش· إنها تمنح الشاعر حرية لا تُصدَّق· الشعر في بلادنا يعيش ازدهاراً حقيقياً ببساطة لأن الحُكَّام والسياسيين والمناضلين الحزبيين بدؤوا يفقدون الثقة فيه بعدما اكتشفوا أن المراهنة عليه لم تعد ذات جدوى· هكذا بدأنا نُضيِّع بالتدريج تلك السمعة الخانقة التي كان يمنحها لقبُ "الشاعر"· لكن ما هَمَّ الشعراء إن هم ضيَّعوا النياشين ماداموا يربحون أصواتهم وقصائدهم التي في لون الحياة·

طباعة  

شاعر الخمس دقائق في "هواء قديم"!
محمد سليمان... ممرّض لغة أثقلت جسدها الشيخوخة

 
قصائد
 
خبر ثقافي
 
إصدارات ثقافية
 
"الكويت": الكراهية تسكن "فندق رواندا"