رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 26 أبريل 2006
العدد 1725

فرانسيس فوكوياما.. صاحب نهاية التاريخ:
كنت من المحافظين الجدد.. وكنت على خطأ!

                                                                                   

 

حاورته سارة باكستر:*

حين كان فرانسيس فوكوياما في الثلاثينات من عمره، وخلال عمله في الإدارة الحكومية في واشنطن خرج بنظرية وعبارة شاعت حولته الى مثقف نجم يماثل في نجوميته مطربي موسيقى الروك حين كتب مقالاً نبوئيا مميزاً يدعى "نهاية التاريخ" نشر في صحيفة قليلة الانتشار وصعق عالم الأكاديميات·

في هذا المقال كتب بجرأة "أن ما نشهده ليس مجرد نهاية الحرب الباردة، أو مرور مرحلة معينة من مراحل تاريخ  ما بعد الحرب، بل نهاية التاريخ ذاته، أي نقطة نهاية تطور البشرية الإيديدلوجي وتحول الديمقراطية الليبرالية الغربية إلى ظاهرة كونية بوصفها الشكل الأخير للحكومة الإنسانية"·

كان هذا في صيف العام 1989 وجدار برلين على وشك السقوط، وبعد وقت قصير جاءت ثورات أوروبا الشرقية المخملية متتابعة، وسار الاتحاد السوفياتي في طريق الانهيار، وأخذ "فوكوياما"·· فرصته السخية لتحويل تأملاته إلى كتاب أصبح من أفضل الكتب  مبيعا في العالم· لقد كان "فوكوياما" بخليفته الأمريكية - اليابانية ونجاحه على صعيد العالم، هو الأداة  الناقلة المكتملة لنظريته ذاتها، وقيل إن مرغريت تاتشر قالت "هل هذه نهاية للتاريخ أم بداية للهراء؟" ولكن كان من المبهج رؤية أن الصغائر لم تمنعه من شق طريقه·

لقد كانت هذه هي الرؤية التي ظل الرئيس بوش يقولها تقريباً  للمعاندين العراقيين، ولكن رغم عدد  من الانتخابات الموحية لم يسيروا وفق البرنامج بعد، ولا سار فوكوياما الذي أصبح يؤمن أن حرب العراق كانت خطأ فادحاً·

بعد شهر من إسقاط تمثال صدام في العام 2003 تناول فوكوياما الغداء مع صديق تفاخر بأن الأحداث في العراق كانت تسير سيراً ممتازاً· يقول "فوكوياما" راهنته على أن الأشياء في ظرف خمس سنوات ستتحول إلى فوضى وتوقعت أن أكسب الرهان·"

لقد كان المرء يتوقع أن ينضم "فوكوياما" إلى فرقة إنشاد بوش المتفائلة والمؤيدة للديمقراطية لأنه طيلة سنوات جعل من نفسه جزءاً من الفرقة المترابطة ترابطاً وثيقاً، للأخوة الذين يشكلون مجموعة محافظي أمريكا الجدد، وهي مجموعة المثقفين المقاتلين من أجل تغيير النظام في العراق·

وكان "فوكوياما" قبل وقت طويل من انتباه غالبية الأمريكيين لهذا الموضوع، قد وقع على رسالة إلى الرئيس "كلينتون" في العام 1998 باسم مشروع المحافظين  الجدد للقرن الأمريكي الجديد تحرض على الإطاحة بصدام حسين، وكان بين الموقعين "دونالد رامسفيلد" و"بول فولفويتز" اللذين صعدا إلى البنتاغون لجعل الغزو يحدث في عهد بوش·

ووقع "فوكوياما" على رسالة مماثلة بعد هجمات 11 سبتمبر 2001· وحين اقتحمت الدبابات بغداد، كتب مقالة في "الوول ستريت جورنال" يلاحظ فيها أن "الاحتفاء" بسقوط صدام له ما يبرره، وبدا حتى هذا التاريخ أنه يسير على خط واحد مع أصدقائه·

الآن يقول: "من ذلك الذي لن يرى الاحتفاء بحدث مثل هذا مبرراً وعادلاً" ومع ذلك فقد ظل طوال الوقت مرتاباً بالغزو، وهو ما انفجر الآن وخرج إلى العلن·

يقول لي "فوكوياما" وهو يعني كل كلمة يقولها: "أنا مرتد" فقد انشق علناً عن المحافظين الجدد لأنه يعتقد أن الحرب في العراق خطأ من ناحية نظرية وعملية، وهم لا يرون هذا رغم كل التراجعات، إنهم كما يقول يكذبون على أنفسهم لأنهم يدركون أن ما دافعوا عنه لم ينجح إطلاقاً، وهم يأملون مجرد أمل بأن يحدث شيء ما يقلب الأمور لصالحهم·

 

صدمة في لندن

 

"فوكوياما" حين تبادله لحديث هامس الصوت إلى درجة أنني لا أكاد أسمعه ولكن في كلماته المطبوعة تبدو آراؤه مرتفعة الصوت واضحة· في كتابه الجديد الذي صدر قبل أسابيع "ما بعد المحافظين الجدد" يكتب بلهجة قوية: "لقد توصلت إلى أن النزعة المحافظة الجديدة" كرمز وكمؤسسة فكر، تحولت إلى شيء لم أعد قادرا على مساندته"·

لقد التقيت به أخيراً بعد مراجعة الكثير من المواعيد في مكتبه الصغير المكتظ بالكتب في جامعة جونز هو بكنز في واشنطن حيث يعلّم الاقتصاد السياسي الدولي، إذ ليس من السهل اصطياده كواحد من المفكرين كثيري الأسفار، في مقر إقامته·

لم تبدأ شكوكه حول مشروع المحافظين الجدد بالتبلور إلا في بريطانيا قبل نحو عامين، حين صدمه كما يقول الشعور بمشاعر غير سعيدة تجاه الولايات المتحدة الأمريكية: "إن أحد الأخطاء التي ارتكبها الأمريكيون هو إساءة الحكم على هذا الشعور· من السهل تجاوزه بوصفه عداء عادياً للأمركة ولكنني كنت أسمع التعبير من أناس كانوا أصدقاء لأمريكا"·

وقلت لفوكوياما ربما كان لكتاب نهاية التاريخ تأثير على توني بلير الذي تنفسه مع تنفسه لروح العصر حتى إن لم يكن قد قرأه بالفعل أبداً، إن لدينا بالإضافة إلى هذا بعض من المؤمنين أكثر لمعاناً من رئيس وزرائنا بالتطبيق الشامل للديمقراطية الليبرالية، ومع أن الكثير من المعلقين خلال حدوث أهوال التطهير العرقي في يوغوسلافيا السابقة في التسعينات سخروا من تعبير "نهاية التاريخ" إلا أنهم امتدحوا في نهاية المطاف تحت ديمقراطية بلير التي وصلت إلى بلغراد إنجاز العسكرية الأمريكية والبريطانية، ولكن تلك كانت "حربا جديدة" بلا غموض أما حرب العراق فهي في نظر "فوكوياما" حرب سيئة· ولم يهتم بقولي إن له يداً غير مباشرة ربما في التدخل البريطاني· إنه يعتقد أن "بلير" أصبح عضو شرف في جماعة المحافظين الجدد يضلل نفسه بفكرة أن الديمقراطية يمكن أن تفرض بالسرعة نفسها التي يحدد فيها المرء هدفاً بفوهة بندقية·

وليس هذا على الإطلاق ما عناه بكتابه نهاية التاريخ الذي يأخذ بوجهة نظر تتضمن فوارق لونية تجاه الكثير من المطبات على طريق مصير الإنسان النهائي·

 

ضد الاستباق

 

يقول "فوكوياما" مع بلير إجد من الصعب معرفة ما يؤمن به فعلا مقابل ما يجده لمصلحته وفق حساباته· فمن الواضح أنه يريد الحفاظ على العلاقة الخاصة بالولايات المتحدة الأمريكية ثم يغرق نفسه في التفكير بأن الحرب كانت ضرورية من ناحية تاريخية· وقد حدث الأمر نفسه مع بوش· فحين تقدم للرئاسة تحدث عن امتلاك سياسة خارجية متواضعة وهاجم فكرة بناء أمة ومنذ ذلك الحين وهو يغرق نفسه في الإيمان بها·

ويشعر "فوكوياما" شخصيا بأن تحول الأحداث قد خلفه وراءه "لقد أعطيت صوتي لبوش في العام 2000 لأنني اعتقدت تحديداً أنه لو تم انتخابه فسيدير الكثير من أصدقائي وزارة الخارجية وسيقومون بعمل أفضل مما قامت به إدارة كلينتون وهذا هو السبب، الذي جعل كل شيء مخيباً للأمل إلى هذه الدرجة، لقد انقلبت الأمور إلى ضدها تماماً·

إنه ضد مفهوم "الحرب الاستباقية" جملة وتفصيلاً "إنها كما قال "بسمارك" تشبه انتحاراً بسبب الخشية من الموت" إلا أنه ارتجف أيضا حين حدثت، فمن الفظاظة أن تلوم أصدقاءك في وقت الهزيمة: "لست مصدوماً فقط، بل مرتاع كلياً من مستوى انعدام الكفاءة المهول، فإذا أردت أن تصبح مسيطراً في سبيل الخير "في إشارة الى مكانه أمريكا كقوة عظمى وحيدة" فمن الأفضل لك أن تكون جيداً في أداء هذه المهمة·

ويقول "فوكوياما" إن زوجه "لورا هولمجرين" خريجة قسم الدارسات السوفياتية وربة البيت ذات الثلاثة أطفال وقفت ضد الحرب بشدة منذ البداية "بدأت حياتها كجمهورية محافظة لامعة وانتهت إلى بغض بوش" ويقول إنه "معجب حقا" بالطريقة التي كانت فيها قادرة على رؤية ولاءاتها الاعتيادية الماضية، ويعتقد أيضا انها كانت المبادرة الى التذمر من المحافظين الجدد، في الوقت الذي كان فيه هو مشدوداً بإحكام الى أفكارهم، "كان الأمر في جزء منه رد فعل شخصي، فقد اختلطت اجتماعيا بالكثير من الناس الذين يفضلون الحرب، ورأت أنهم يبالغون في الثقة بأنفسهم وبطرقهم"·

كيف تسنى لفتى باحث الوقوع على صحبة حمقاء مثل هذه؟ لقد نشأ "فوكوياما" (هو الآن في الثالثة والخمسين من عمره) في نيويورك حيث كان والده قسيساً بروتستانتيا وناشطا في مجال الحقوق المدنية ذا ضمير اجتماعي، وأظهر الابن أنه أكثر تزمتا يقول "فوكوياما" كانت لدينا خلافات عديدة حول الأمور السياسية" ويصف نفسه بأنه "ولد أكاديميا" وربما ورث عاطفته تجاه البحث والدراسة من جده مؤسس قسم الاقتصاد في جامعة كيوتو في اليابان، وقد هاجرت أمه إلى أمريكا في العام 1949 وعملت في مجال الخدمة الاجتماعية في نيويورك·

قرأ "فوكوياما" ودرس للآداب الكلاسيكية في جامعة كورنيل حيث سمع الشخصية الاسطورية "الان بلوم" تلميذ الفيلسوف "ليو ستراوس" يحاضر في موضوع جمهورية أفلاطون· وللعديد من المحافظين الجدد الجذور الفكرية نفسها المستمدة من "ستراوس" بما في ذلك "فولفويتز" الذي تعرف على "فوكوياما" في كورنيل، ووفر له عملاً كمتدرب معه في السنوات الاولى لحكومة ريغان هما الآن لا يتحدث أحدهما إلى الآخر، ويعتقد "فوكوياما" إن "فولفويتز" ربما يشعر بالغيظ من موقفه·

ودرس "فوكوياما" أيضا في هارفارد بعد التخرج حيث صادق هناك "وليم كرستول" الذي سيصبح في ما بعد القوة المحركة وراء "مشروع من أجل القرن الأمريكي الجديد" ورئيس تحرير مجلة المحافظين الجدد ذات النفوذ الواسع "ويكلي ستاندارد" (وتملكها نيوز كوربوريشن التي تملك أيضا الصنداي تايمز) ووصل "فوكوياما" إلى أن يرث عن كرستول شقته في الجامعة حيث كان من الصعب الحصول على شقق جيدة كما يقول·

"إيرفنج" والد كرستول هو مؤسس النزعة المحافظة الجديدة، وهو واحد من المجموعة الفريدة لمثقفي الطبقة العاملة الشهيرة في نيويورك في الثلاثينات والذي انجذب إلى التروتسكية وكره ستالين، ثم أصبح مناوئاً للشيوعيين في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية·

 

محافظون·· ولينينيون

 

و "لفوكوياما" قنوات مباشرة أخرى تصله بالمحافظين الجدد، وكان أحد أساتذته الآخرين "البرت فوستر" من محاربي الحرب الباردة في مؤسسة راند الذي يعد من بين رعاته "ولفويتز" و"ريتشارد بيرل" مستشار البتاغون السابق، وزلماي خليل زاده (السفير الامريكي في العراق)·

المحافظون الجدد كما يقول التعريف بهم هم "ليبراليون يسخر منهم الواقع، ولهذا فإن ما يحير "فوكوياما" هو لماذا عادوا الى نظرة "لينينية" الى التاريخ·

ويتساءل، إذا كانوا لا يثقون بجهود الاتحاد السوفياتي في هندسة المجتمع، بل ينفرون حتى من ما رشح منه إلى الغرب من جوانب مثل دولة الرعاية الاجتماعية، فكيف أمكنهم ان يتخيلوا أن مجتمعا معقداً مثل العراق يمكن أن يعاد بناؤه من الأعلى الى الأدنى كمجتمع ديمقراطي؟ ربما كان هذا أحد أكثر استبصارات الكتاب إيلاماً·

قبل أن نلتقي، ذهبت لسماع "فوكوياما" وهو يرأس مناقشة في واشنطن مع كرستول و برنارد هنري ليفي الفيلسوف الفرنسي النجم، وكانت المناقشة في غاية الأدب واللطف ولكن كان جليا أن "كرستول" الدمث اغتاظ غيظاً حاداً حين وصف بأنه "لينيني" وقد قرر منذ ذلك الوقت قبول هذه الصفة· ومضى "كرستول" في "ويكلي ستاندارد" إلى قلب الطاولات على صديقه القديم وكتب متسائلاً: هل نحن لينينيون" وأجاب "لا··" وأضاف هل يعني هذا أننا نؤمن كما يعرف "فوكوياما" اللينينية بأن  التاريخ يمكن أن يدفع إلى الأمام بالاستخدام السليم للقوة والإرادة؟·· نعم·

وأضاف "كرستول"، سيكون أمراَ لطيفاً لو أننا عشنا في عالم بلا جهاديين حيث لسنا بحاجة إلى أن نأخذ أعداء الديمقراطية الليبرالية مأخذاً جاداً: "فإن تحكم فمعنى هذا أن عليك أن تختار وأن تقبل  المسؤولية عن خياراتك، أن تحكم ليس معناه أن تنتظر نهاية التاريخ التي ترغب بها"·

"فوكوياما" يأخذ بوجهة نظر أقل قلقاً تجاه قوة الجهاديين ويميل إلى اعتبار هجمات 11 سبتمبر ضربة حظ معينة·

ويقول متشككا من الممكن أن يحصل الإرهابيون على سلاح نووي ولكن هذا السيناريو الوحيد أدخل قدراً كبيراً من الخوف· إنه يفضل رؤية تعددية جماعية، كما يسميها تلحق بعمل الأمم المتحدة في تخفيف التوتر الدولي·

ومن الغريب إلى حد ما أنه يعتبر نفسه ماركسياً "بمعنى إيماني بعملية تحديث اجتماعي واقتصادي عامة· أنت يمكنك تسيير الأشياء وتسريعها فقط على هوامش المجتمع"·

وبالنسبة لإنسان ذي نظرة للتاريخ حتمية مثل هذه ألا يلغي فرص النجاح في العراق مبكراً جداً؟ وبخاصة أنه ما زال يؤمن بأن البشر مخلوقون من أجل الديمقراطية الليبرالية·

إنه يعترف بأن الوقت ما زال مبكراً جداً للتنبؤ بكيف ستنتهي الأمور، فليس من الواضح أن الحكم الأخير سيكون سلبياً، ومن الممكن إجمالاً أن يصبح العراق بلداً ديمقراطياً ولكن السببية ستكون مشوشة إلى حد بعيد·

بكلمات أخرى، إذا كان مآل الأمور في العراق حسنا، فلربما يسجل التاريخ أن ذلك سيكون على الرغم من (أو بسبب) أفضل ما لدى بوش وبلير من جهود، ويبدو هذا قاسيا بالنسبة لي، ولكن "فوكوياما" عنيد، فسواء خسرا أو فازا في مقامرة التاريخ، فهو مؤمن بأن أبطال الحرب يجب أن يلاموا على أنهم أطلقوها·

 

الصنداي تايمز، 18 مارس 2006

طباعة  

صدام فلسفات.. وليس صدام حضارات!
 
الفن.. والحقيقة.. والسياسة