رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 26 أبريل 2006
العدد 1725

صدام فلسفات.. وليس صدام حضارات!

                                                                                  

 

أندريه جلوكسمان*:

بدأت الحملة على الرسوم الكاريكاتورية ضد صحيفة، ثم استهدفت الدانمارك التي شددت على حرية الصحافة، وها هي الآن تستهدف أوروبا المتهمة بأنها تستخدم معايير مزدوجة: "ألا يسمح الاتحاد الأوروبي لشخص ما بإهانة النبي بوقاحة، بينما يمنع ويدين "آراء" أخرى مثل النازية وإنكار الهولوكوست؟ لماذا يسمح بالسخرية من النبي محمد ولا يسمح بالسخرية من إبادة اليهود؟"· يتساءل المحتجون وهم يعلنون عن تنظيم مسابقة لرسوم كاريكاتورية ساخرة من معسكر اعتقال أوشفيتز· ما هو جيد بالنسبة للوزة يجب أن يكون كذلك لذكر الوزة: فإما إنه يجب إباحة كل شيء باسم حرية التعبير، أو دعونا نستهجن ما يصدم شخصاً، مثلما نفعل مع ذلك الذي يجعل الآخر عدوانيا·

أمام هذا يشعر الكثير من المدافعين عن الحق في رسم الصور الكاريكاتورية أنهم وقعوا في مصيدة· فهل سينشرون الاستهزاء بغرف الغاز باسم حرية التعبير! أهو إزدراء مقابل الإزدراء؟ وانتهاك مقابل انتهاك؟ هل يجب وضع إنكار وجود معتقل أوشفيتز على مستوى واحد مع انتهاك قدسية النبي محمد؟

ها هنا يقع نزاع لا يهدأ بين فلسفتين، إحداهما تقول نعم، ففي النتيجة كلتا "القضيتين قضية معتقد"، تتساوى إهانة إحداهما بإهانة الأخرى، وليس هناك اختلاف بين قضية تاريخية ومعتقد إيماني معروف ومعلن، أي أن الاعتقاد بأن إبادة حدثت، والاعتقاد بأن النبي نزل عليه الوحي الإلهي، هما من الصنف ذاته· وتقول الأخرى، لا، واقع معسكرات الموت يقع في صنف شهادة حقيقية، ولكن السمات الشخصية المقدسة للأنبياء ليست كذلك، طالما أنها تنتج عن معتقد من يؤمن به·

هناك تمييز مماثل بين الحقيقي والإيماني يقع في أساس التفكير الغربي، وقد فصل أرسطو سلفا الكلام البياني الذي هو عرضة للنقاش وصولا الى تأكيده أو نفيه عن الصلاة· الصلاة تمتنع عن النقاش لأنها لا تعلق على وقائع، إنها تناشد، تعد، تقسم وتقرر، ليس هدفها المعلومات بل الأداء، وحيث يشدد متعصب إسلامي على أن الأوروبيين يدينون "بديانة الهولوكوست" بالطريقة نفسها التي يدين فيها بديانة محمد، فهو يلغي التمييز بين الواقعي والمعتقد الإيماني بالنسبة له لا وجود إلا للمعتقد الإيماني، وتبعا لذلك فإن أوروبا تحابي مجموعة من المؤمنين على حساب مجموعة أخرى·

الخطاب الحضاري، من دون فوارق العرق والدين، يعلل ويحدد الحقائق العلمية، والحقائق التاريخية·

وما تقوله الواقعة المستمدة ليس من الإيمان، بل من المعرفة· وقد تعتبر هذه الأخيرة في مرتبة أدنى وتجديفا·

ومع ذلك حين لا تختلط بالحقائق الدينية· إن كوكبنا ليس تحت رحمة صدام حضارات أو ثقافات، إنه أرضية مرتفعة لمعركة حاسمة بين نمطين من التفكير· فهناك أولئك الذين يقررون أنه لا وجود للوقائع، بل للتأويلات فقط· والتي هي في جانب كبير منها أفعال إيمان· فهم إما أنهم ينزلقون الى التعصب (أنا الحقيقة) أو يسقطون في العدمية (لا شيء حقيقي، ولا شيء زائف)· في الجانب الآخر، هنالك أولئك الذين بالنسبة لهم النقاش الحر مع نظرة تفصل الحقيقي عن الزائف يمتلك معنى مثل نقاشات السياسيين أو العلماء أو مع أحكامنا البسيطة التي قد تقوم على معطيات غير مقدسة مستقلة عن الاعتباطية والآراء القائمة مسبقا·

الفكر الاستبدادي لا يمكن أن يتحمل أن يكون موضع خلاف· إنه يؤكد ويقطع، مثلما يهدد الكتاب الصغير الأحمر أو الأسود أو الأخضر، إنه ظلامي، يمزج السياسة بالدين، على النقيض من هذا الفكر المناوىء للاستبداد، يأخذ الوقائع كوقائع بل ويقر بأكثر الوقائع بشاعة، تلك ذاتها التي أما أنها بسبب ألمها المبرح أو لكونها خارج الاعتبارات العلمية، سيفضل المرء أن تكون غامضة· إخراج "الغولاغ" للضوء سمح بالنقد وبرفض "اشتراكية الواقع"، وتدير جرائم النازية والافتتاح الواقعي لمعسكرات الإعدام حول أوروبا الى الديمقراطية في العام 1945·

بالإضافة الى هذا، فإن إنكار التاريخ وأكثر حقائقه فظاعة، ينذر بعودة فظائعه·

ومن دون أن يكون الأمر إساءة للمتأسلمين، الذين هم أبعد من أن يكونوا ممثلين لكل المسلمين، ليس هناك قياس مشترك بين إنكار الوقائع المبرهن عليها وبين النقد اللفظي أو المرسوم للكثير من المعتقدات التي يمتلك أي أوروبي الحق في السخرية منها واستعمالها·

طيلة قرون، جوبتير أو المسيح، يهوه والله، قيلت فيهم فكاهات ثقيلة علائم عدم الاحترام· وفي هذه اللعبة، اليهود هم أفضل نقاد "يهوه"، بل وجعلوا الأمر تخصصاً·

ولكن هذا لم يمنع المؤمنين الصادقين من أي فريق من الإيمان ومن ترك من لايؤمنون يعيشون كما يعيشون هم· وبهذه الطريقة قام السلام الديني· في الجانب الآخر، السخرية من غرف الغاز، والابتهاج لدى مشهد النساء المغتصبات، والأطفال المنتزعة أحشاؤهم، يبرىء من الخطىئة قطع الرؤوس المتلفزة والقنابل البشرية التي ترسم مستقبلا لا يطاق·

لقد كان استحقاقا منذ زمن طويل للديمقراطيات أن تستعيد حواسها وحكومات القوانين مبادئها، عليها بهدوء وبتضامن أن تتذكر أنه ليس محل سؤال بالنسبة لدين واحد أو اثنين أو ثلاثة، وبالنسبة لأربع أو خمس إيديولوجيات أن تقرر ماذا يحق للمواطنين أن يقولوا أو يفكروا به· الأمر المطروح ليس فقط حرية الصحافة ولكن حرية أن نسمي القطة قطة، وغرفة الغاز واقعة بغيضة مهما كانت معتقداتنا أو عقائدنا· إنها مستمدة من مبدأ للأخلاق كلها: على هذه الأرض، والاحترام حق لكل كائن فرد، مع ملاحقة شاملة ورفض مشترك لأكثر أمثلة انعدام الإنسانية فظاعة·

 

*أندريه جلوكسمان، فيلسوف فرنسي، له كتاب سينشر قريبا تحت عنوان "حنق طفل"!

طباعة  

فرانسيس فوكوياما.. صاحب نهاية التاريخ:
كنت من المحافظين الجدد.. وكنت على خطأ!

 
الفن.. والحقيقة.. والسياسة