رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 26 أبريل 2006
العدد 1725

الفن.. والحقيقة.. والسياسة

                                                                                   

 

هارولد بنتر:*

في العام 1958 كتبت ما يلي: "ليست هناك فوارق فاصلة بين ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي، ولا بين ما هو صحيح وما هو زائف· الشيء لا يكون بالضرورة إما صحيحاً أو زائفاً، فقد يكون صحيحاً وزائفاً في وقت واحد على حد سواء"·

وأعتقد أن هذه التأكيدات لا تزال ذات معنى، ولا تزال صالحة لاستكشاف الواقع بوساطة الفن· وهكذا فإنني ككاتب أقف مدافعا عنها، ولكنني لا أستطيع هذا بوصفي مواطنا، عليّ كمواطن أن أسأل: ما هو الحقيقي؟ وما هو الزائف؟

الحقيقة في المسرح مراوغة دائما، ولن تجدها أبدا، ولكن البحث عنها أمر لابد منه، ومن الجلي أن البحث هو ما يدفع الى السعي· البحث هو مهمتك· وكثيراً ما تقع على الحقيقة في الظلام، تصطدم بها أو تلمح صورة أو شكلا يبدو متسقاً مع الحقيقة، ويحدث هذا غالباً من دون أن تدرك أنك فعلت هذا، ولكن الحقيقة الفعلية هي أنه لا يوجد شيء مثل حقيقة واحدة عليناأن نجدها في الفن المسرحي· هنالك حقائق كثيرة·

وكل واحدة من هذه الحقائق تتحدى الأخرى، يرتد بعضها في مواجهة بعضها الآخر، تعكس واحدة الأخرى، تتجاهل إحداهما الأخرى، تثيرها، تعمى عنها· وتشعر أحيانا للحظة أن في يدك الحقيقة، ثم تنزلق من بين أصابعك وتضيع·

وكثيرا ما واجهني سؤال عن الكيفية التي تظهر بها مسرحياتي· ولا يسعفني الجواب، لا ولا أستطيع أبدا تلخيص مسرحياتي باستثناء القول إن هذا هو ما يحدث· وذلك هو ما تقوله، وذلك هو ما تفعله·

معظم المسرحيات يخلقها سطر، أو كلمة، أو صورة· وكثيرا ما تجيء كلمة معينة، وبعد وقت قصير تتبعها الصورة مباشرة· وسأضرب مثلا بسطرين جالا في ذهني على نحو غير متوقع، متبوعين بصورة، ثم تابعتهما·

المسرحيتان هما "العودة الى الوطن" و"الأزمان القديمة"· السطر الأول في المسرحية الأولى هو "ماذا فعلت بالمقصين؟" والسطر الثاني في المسرحية الثانية هو "مظلم"· وفي كلا الحالتين لم أكن أمتلك معلومات إضافية·

في الحالة الأولى من الواضح أن أحدهم كان يبحث عن مقصين، وكان يطلب معرفة مكانهما من شخص آخر يعتقد أنه سرقهما ربما· إلا أنني عرفت بطريقة أو بأخرى أن الشخص المخاطب لم يبد أدنى اهتمام بالمقصات أو بالذي يسأل عنهما أيضا في هذه الحالة·

أما سطر "مظلم" فقد أخذته كوصف للون شعر شخص ما، شعر امرأة، وكان جواباً عن سؤال· وفي كلا الحالتين وجدت نفسي مكرها عن متابعة القضية، وحدث هذا بصريا، تلاش بطيء جدا، بوساطة ظل يتحول الى ضوء·

إنني أبدأ أي مسرحية دائما بتسمية الشخصيات بالحروف، أ، ب، ج· وفي المسرحية التي أصبحت "العودة الى الوطن" رأيت رجلا يدخل غرفة معتمة ويوجه سؤاله الى شاب أصغر منه سناً يجلس على طنفسة قبيحة ويقرأ صحيفة من صحف سباقات الخيل، وبطريقة ما، اعتقدت أن (أ) كان أباً، وكان (ب) هو ابنه، ولكن من دون دليل، إلا أن هذا ما تأكد بعد وقت قصير حيث يقول (ب) (الذي سيصبح اسمه ليني) مخاطبا (أ)( (الذي سيصبح اسمه ماكس)·· "أبي·· هل تسمح لي بتغيير الموضوع؟ أود أن أسألك شيئا· ماذا كان اسم الوجبة التي تناولناها من قبل؟ ماذا تسميها؟ لماذا لا تشتري كلباً؟ بصراحة، أنت طباخ كلاب· أنت تعتقد أنك تطبخ من أجل الكثير من الكلاب"· إذن، مادام (ب) يدعو (أ) أباً، فقد بدا لي من المعقول الافتراض أنهما كانا أباً وابنه، ومن الجلي أن (أ) كان طباخاً، ولا يبدو طبخه ذا قيمة كبيرة، هل عنى هذا أنه لم يكن هناك وجود لأم؟ لم أعرف، ولكن، مثلما قلت لنفسي آنذاك، بداياتنا لا تعرف نهاياتنا أبدا·

"مظلم"، نافذة واسعة، سماء مسائىة· (أ) رجل (سيصبح اسمه لاحقا ديلي) وامرأة هي (ب) (سيصبح اسمها لاحقا كيت)، جالسة مع مشروب، ويسأل الرجل: "ممتلئة أم هزيلة؟"· من الذي يتحدثان عنه؟ ولكنني لم ألبث أن رأيت امرأة تقف بجوار النافذة، إنها (ج) (سيصبح اسمها لاحقا آنا) في وضعية أخرى للضوء· تدير ظهرها لهما وشعرها معتم·

إنها لحظة غريبة، لحظة إنشاء الشخصيات التي لم يكن لها وجود حتى تلك اللحظة، وما يتبع هذا، تقطع، انعدام يقين بل هذيان، رغم أن الأمر يمكن أن يكون أحيانا اندفاع كتلة ضخمة لا يمكن إيقافها· إن موقف المؤلف موقف شاذ، وفي أحد المعاني لا ترحب الشخصيات بالمؤلف، إنها تقاومه، وليس من السهل معايشتها، وتحديدها وتعريفها محال،· ومن المؤكد أنك لا تستطيع أن تملي عليها· إنك تلعب معها إلى مدى معين لعبة لا تنتهي أبدا، لعبة القط والفأر، لعبة الاختباء والبحث عن المختبئ· ولكنك تجد بين يديك في النهاية أناسا من لحم ودم، أناسا لديهم إرادة وحساسية فردية مستقلة، مصنوعة من أجزاء متلاحمة لا تستطيع تغييرها أوالتلاعب بها أو تشويهها، وهكذا فإن اللغة في الفن تظل صفقة مبهمة الى درجة كبيرة، رمالا متحركة، منصة بهلوان، بحيرة متجمدة ربما تنهار تحت قدميك، أنت المؤلف، في أي وقت، ولكن، كما قلت، لا يمكن أن يتوقف البحث عن الحقيقة أبدا· لا يمكن تأجيلها، ولا يمكن إرجاءها، يجب أن تواجه هنا تحت الضوء مباشرة·

المسرح السياسي يعرض مجموعة من المشاكل مختلفة كليا، فهنا يجب تجنب الوعظ بأي ثمن· الموضوعية أمر جوهري· ويجب أن يسمح للشخصيات بتنفس هوائها هي، ولا يمكن أن يقيدها المؤلف أو يحصرها، إرضاءً لذوقه هو أو لا نحيازه أو سلطته· يجب أن يكون مهيأ للاقتراب منها من زوايا متنوعة، ومن مجموعة منظورات كاملة غير محظور أحدها دون الآخر، وقد يفاجئها ربما أحيانا، إلا أنه مع ذلك يمنحها حرية أن تسير في طريقها الذي تريده· هذا النهج لا ينجح دائما· ولا تتمسك المسرحية السياسية الساخرة بأي واحدة من هذه القواعد، بل هي تفعل العكس، أي تقوم بوظيفتها المناسبة لها·

اللغة السياسية، كما يستخدمها السياسيون، لا تغامر في أي أراض من هذا النوع، مادامت أغلبية السياسيين، في ضوء ما يتوافر لدينا من براهين، ليست معنية بالحقيقة، بل بالسلطة، والحفاظ على السلطة، وللحفاظ على هذه السلطة من المهم أن يظل الناس في حالة جهل، وأن يعيشوا جاهلين بالحقيقة، حتى حقائق حياتهم·· ومن هنا فإن ما يحيط بنا هو نسيج شاسع من الأكاذيب نتغذى عليه·

 

*من خطاب "هارولد بنتر" أمام لجنة جائزة نوبل بعد فوزه بجائزة نوبل للآداب في ديسمبر  2005·

طباعة  

فرانسيس فوكوياما.. صاحب نهاية التاريخ:
كنت من المحافظين الجدد.. وكنت على خطأ!

 
صدام فلسفات.. وليس صدام حضارات!