رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 17 مايو 2006
العدد 1728

قراءة

وأذكر كيف سرت نسمة حزينة بأشجار الزيتون:

"دُنوّ من مراثي محمد الحارثي"

 

 

سماء عيسى*

 

[1]

 

تجتاز سلالم مظلمة حتى تصل باب الدار، تلك السلالم قليلة العدد مكمن الشاعرية؛ حيث الهدوء والسكينة· الصمت: وهو يوحي إليك باندثارها· ذلك شرط أزليّ للمنزل كسكن، هو بالذات ما هو مضاد للخارج، حيث اللهو بالحياة وكأنها دائمة، حيث القتال أفراداً وجماعات· إلى أين يتجه الشاعر؟ فالسلالم المظلمة الموحية بهجير المكان وطفولته، ما إن تنتهي وتفتح الباب حتى تجد نفسك في الضوء، حتى والبيت مهجور من ساكنيه إلاّ أنه يمتلئ بالحياة والفرح والأمل·

ألذلك ذهبت تجربة الشاعر إلى المُنير دائماً في الأرض، الفضاءات الرحبة، الترحال، الأصدقاء، الوطن؟·· فيما تركت عتمات النفس جانباً لزمن آخر من عمر تجربته· قد يكون ذلك صحيحاً، فالدخول في العتمات يقضي توافر أدوات فنية يمتلكها الشاعر مستقبلاً، مع نضج تجربته· هذه تجربة تتطور فيها الأدوات الفنية مع تطور التجربة، وهي تعطي قدراتها تدريجاً حتى اكتمال الثمرة ونضجها، فالوصول إلى الجرح الغائر في الوجدان يتطلب قطع مراحل يذهب فيها الشاعر إلى فضاءات الضوء الرحب·

هي فضاءات الشرق المفتوحة على مدى الرمال الرحب، لا تنغلق الجبال عليكَ هناك، أنت أمام رمال حتى انتهاء الأرض، هي إذن قادرة على دفعك باتجاه الضوء، ولن تعود بذلك ثانية إلى العتمة إلا وأنت حطام·

ضوء الشرق كان محط أنظار العُمانيين منذ أبد بعيد، الهاربين إليه من عتمات الجبال والأودية، وما تثيره من انكفاء في النفس إلى دواخلها، واتجاه إلى الاحتماء بها، حتى أطلق العُمانيون على رمال الشرق: البحر· لا ينتهي الرمل ولا البحر، لا ينتهي الضوء لكن الحياة هي ما ينتهي، لأنها قصيرة وعابرة· مع ذلك فالحديث عن العتمة ومضادها الأزلي: النور· والبحث في أعماق العتمة يسير بحثاً عن نور دفين، وأنت تسكن في وجود النقيضين وتعايش المتضادات، الحياة ومقابلها الأزلي؛ أي شرط بقائها الدائم: الموت·

"الغرقى ظلوا

في عتمة الزجاجات

والقمرُ مضى

في حال سبيله··

لأنهم انتظروا طويلاً

حتى ماتوا"·

 

[2]

 

"هذه حكاية تركتها على العشب، على العشب تركتها تحت الشجرة، وعدت أحملُ على ظهري - لا أدري - ذنوبها أم ذنوبي"·

في "قبيل بلوغ الحتف"، الحكاية هي محور القصيدة: نفترض أنها حياة الشاعر الماضية، الشاعر كتب قصيدته في لحظة تأمل لما مضى من حياته، ثم إنه عندما تركها تحت الشجرة ورحل عنها، أدرك جيداً استحالة ذلك، وأن حكاية عمره ما زالت على ظهره، وأنه لا مناص له في التخلص منها بالرحيل أو النسيان· هي إذن الحكاية أو القصيدة، مثلما يقدمها الشاعر مرثية لحياته، دون أن يكون بمقدوره الخروج من ثقل ذنوبها·

الإحساس بالخطيئة كامن بعُمق وثراء في القصيدة، وهو ما أدى إلى حضور رموز دينية وميثولوجية: الشجرة، الموت، الألم، الذنب· كامن في سر الشجرة وعلاقتها بالخطيئة، الشجرة كانت ذات يوم مصدر إغواء للإنسان الأول، وهو يعيش دون إدراك لسر خطيئة وجوده· وهنا إذ لا يقدمها الشاعر كرمز للخطيئة، لا يقدمها أيضاً كرمز قدسي، بل يضعها في موقف الشاهد على ما حدث· تحضر سلباً كمرادف للعشب ولمكان وقوع خطيئة ما: هي الحكاية المريرة، حياة الشاعر، وهو يحاول نسيها أو تركها متناسياً في لحظة ندم مريرة·

القصيدة مكثفة ولا تحتمل المزيد من الإفصاح، ولا المزيد من القول، جمالها يتحقق في الاكتفاء بهذه الجُمل القليلة المنغلقة على نفسها في هدوء تام، تخفي أكثر مما تفصح، توحي ولا تشرح لنا حكاية ما، قابلة للتأويل المتعدد، للقراءة المختلفة· فإذا كنا كقراء نبتعد بها عن ذكرى خاصة حملتها، أي تجربة محدودة عاشها الشاعر في زمن ومكان محددين، إلاّ أن المقطع الثاني منها وهو لبّها الجمالي المكتنز بشعر فريد وإيحائي نادر، هو ما يحدثنا عن ذكرى محددة؛ كان الشاعر طرفاً فيها وكان الوقت ليلاً· ويبدو أن هناك من توارى - ربما كان طرفاً في الحكاية - خاصة أن الشاعر يتحدث عن انسحاب مفاجئ من صراع داخلي حاد نشب في أعماقه:

"عدت لا أدري، فتركتها هناك على العشب

ساحباً تلك الليلة من حلكتها، ساحباً تلك الليلة

نحو الموجة التي ابيضت (من الألم ربما)··

وربما من اللذة قبيل بلوغ الحتف"·

ذلك سبب توهج الثنائيات المتضادة في القصيدة، ثنائية اللذة/الحتف، الليلة المظلمة/الموجة البيضاء· الشاعر انسحب إلى البياض، وليس ثمة من تعاطف حتى مع ابيضاض الموج، إذ الموج الزاخر بالحياة ابيضّ من الألم، قبيل بلوغ الحتف الذي لم يصل الشاعر ذروته·

تتردد الكلمات إياها كرموز دالة، وذلك ما أفاد عدم انفتاح دلالاتها في فضاء عام· الكلمات القليلة المتكررة، أغلقت علينا طرق تفسير بائس للقصيدة، مؤكدة على إيحاء الشعر، قوة إيحائه ودلالاته الصامتة الكامنة في لبّه وجماله الغامض·

 

[3]

 

"نسينا حُبك للطيور···"، مرثية هادئة تبتعد عن مراثي النواح الفجائعي، حميمية في الهدوء الذي نعرف به صوت الشاعر وتميزه عن الأصوات الشعرية الأخرى· وهي قصيدة تبدأ بالنسيان، النسيان أثناء حياة صالح الحارثي وليس بعد حياته· كأن ذلك النسيان هو مصدر فجائعية الشاعر وخطئه المباح، ذلك أنه ورفقته مارسوا خطأ أثناء نسيانهم لطائر يعيش معهم، اعتقدوا دائماً أنه إنسيٌّ مثلهم وعاملوه كإنسيّ· في ذلك يكمن الخطأ، مرقد حزن الشاعر وتأنيب ضميره، ولكن بعد فوات الأوان:

"كنتَ طائراً منذ البداية··

وككُلّ الطيور، داعبت خيالك الحُرّ

أفكارٌ صغيرة كفراشة حياتك"·

ولأنه كان طائراً حقاً، يلتفت الشاعر إلى ما هو نقيض حرية الطير وحياته القصيرة، يلتفت إلى تفصيلات حياته العابرة، حياته التي ما عادت بعده إلا ذكريات صغيرة مُرة تندى لها القلوب:

"لا الفتاة، ولا الأحلام

لا المستقبل الماضي كخنجرك المعلق

على الحائط في انتظار الأعياد···

ولا عربة الماضي التي خانها الحصان

قبل الوصول"·

كُلُّ شيء، إذن، يشير إلى الماضي، الماضي الذي هو كل شيء، سواء كان ذلك في قصيدة الشجرة أو في "نسينا حبك للطيور···"· فالشاعر يدرك أهمية الماضي خالق الحاضر والمستقبل، فأنت تبدأ منه ومنه تبدأ الخطيئة التي تحمل لاحقاً وزرها وتبعاتها إلى مستقبل لا أمل له ولا أحلام، إلاّ انهيارات الأيام وخياناتها·

تقترب هذه المرثية الدافئة لغوياً - وما هو متعلق بتوظيف مفردات الحياة القصيرة وتفصيلاتها - من مرثية لوركا لصديقه اخناثيو سانشيز ميخياس، مصارع الثيران· هنا أيضاً كل جماليات الحياة الصغيرة الدافئة صارت غريبة عنه، ومعرفته بها أضحت مجهولة كالقدر الذي ابتدأنا منه ونتجه إليه:

"لا الثور يعرفك ولا شجرة التين

لا الخيول ولا النمل في بيتك

لا الطفل يعرفك ولا المساء

لأنك مُتّ إلى الأبد·

لا ظهر الحجر يعرفك

ولا الحرير الأسود الذي هويت فيه

لا يعرفك التذكر الصامت فيكَ

لأنك مُتّ إلى الأبد"·

 

[4]

 

"الصائد"، تعود إلى جذور مضت في رثاء حميمي: "إلى روح محمد بن سعيد، شهيداً بلا جسد"، إذ مع رحيله نفقد هذه الأرواح التي لا ندرك أهميتها إلا بعد رحيلها، الأرواح التي تمرّ هادئة على الأرض دونما ضجيج وصراخ، لكنها تنير الوجود كقناديل معتمة في صحراء بعيدة· لذلك فإن العلاقات الروحية البسيطة تفتقد بعد الرحيل، كالعلاقة بالحجر والمكتبة والبحر:

"أعرف أنك لم تعد تبتسم

لحجر يخفي الشمس في الأعراس

ولم تعد تتلو القرآن في المكتبة··

لم تعد طائرة ورقية

يذرفها الأهلون

كما لم يعد بحرُ العرب

حصيرة بيضاء

لخطواتي"·

ولأن الأحلام طفولية وبريئة؛ فهي غامضة غموض الأسرار والأساطير في أرض بعيدة لم تطأها إلاّ النسور:

"نافورة صغيرة

من الأسرار

في ساحل بعيد

جفت في حوضه

دموعُ النسر"·

 

إشارات:

 

وأذكر كيف سرت نسمة حزينة بأشجار الزيتون: لوركا في مرثية مصارع الثيران·

 *قصائد محمد الحارثي المدرجة مقاطع منها: (الصائد)، من ديوان "كل ليلة وضحاها، كولونيا 1994"· (بيادق الرمل)، من "أبعد من زنجبار، القاهرة 1997"· (قبيل بلوغ الحتف) و(نسينا حبك للطيور)، من "لعبة لا تملّ، كولونيا 2005"·

 

شاعر وكاتب من عُمان

samapoetry@hotmail.com

عن موقع "كيكا"

وبموافقة من الكاتب

على نشرها في "الطليعة"

طباعة  

محاضرة
 
وتد
 
بيان
 
قضية
 
المرصد الثقافي