رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 3 يوليو 2006
العدد 1735

عن كتابات أبناء الأرض
أمريكا اللاتينية انتصرت روائيا قبل أن تنتصر انتخابيا!

                                                      

 

محمد الأسعد

حين أصدر الروائي "ماريو فارغاس يوسا" من "ألبيرو" روايته "الحياة الحقيقية لاليخاندرو مايثا"، تباينت وجهات النظر حولها· فقد وصفها "سلمان رشدي" في الجارديان (10 أكتوبر 1986) بأنها من نمط يمكن تسميته "الشجار مع العالم"، وأنها عمل مهم فنيا، بينما اعتبرها عدد من النقاد دعاية صرفة للاتجاهات اليمينية في أمريكا اللاتينية·

مثل هذا التناول أشار منذ زمن طويل الى أن ثمة تيارات في أدب أمريكا اللاتينية الذي شاع في اللغة العربية ومع ذلك لم يحسن مترجموه وناقلوه الى العربية الكشف عن طبيعة هذه التيارات، أو السياق الاجتماعي - الاقتصادي الذي ظهر فيه هذا الفن الروائي· كانوا مذهولين باكتشافه، عبر المنظور الغربي وبوساطة السياق الثقافي الغربي، كمن يكتشفون أعجوبة مدهشة، فيسارعون الى تناقل أخبارها من دون بذل جهد للذهاب الى المنبع·

كانت هنالك حاجة آنذاك للتمييز والقراءة الدقيقة لإعطاء هذا الأدب الذي دخل الحياة الأدبية العربية اليومية كامل المعنى، أي فلسفته الشاملة، والسياقات التي جاء منها، تاريخا وسياسة واقتصادا واجتماعا· صحيح أن بعض الترجمات ظهرت في العربية لدراسات بأقلام باحثين في أدب وثقافة أمريكا اللاتينية في السبعينات والثمانينات، إلا أنها كانت قليلة جدا، وغير وافية، ومعظمها من صناعة أجهزة إعلام رسمية معنية بالدعاية أكثر من عنايتها باستكشاف أغوار قارة تعج بملايين من البشر تسعى للتحرر من شتى أشكال التهميش والعبودية والتشويه وتواصل طريقها نحو ما يوصف الآن بأنه انتصار "البوليفارية" اي انتصار شعوب القارة على التجزئة والانحطاط والتعاسة·

وصف الكاتب "مورتن وايت" إقبال الألمان في القرن التاسع عشر على الأدب الفرنسي وصفا مثيرا للانتباه، فقد اتهم الألمان بالشراهة والبلاهة على حد سواء، لأن ما استفاده الألمان من هذا الأدب هو النظر إليه كقيمة أدبية خالصة ومجردة بعد أن أغفلوا خلفيته الاجتماعية، فكانت النتيجة أن هذا الأدب فقد مدلوله في الثقافة الألمانية· وهذا هو ما عبرنا عن الخشية منه قبل عقدين من الزمن (القبس، 23/10/1986)، الخشية أن يكون تناول أدب أمريكا اللاتينية تناولا شرها وأبلها، أي أخذه من دون مدلوله الحقيقي· وكان لهذا التخوف أسبابه، فالقراءة العربية النقدية كانت، وما زالت في الحقيقة، أسيرة الجاهز والمعطى، لا تغامر ولا تجرب بقدر ما تردد ما قيل ويقال حول هذا الأدب، وإن حدث خلاف في وجهات النظر، جاء خلافا من الدرجة الثانية، أو خلافا "مستعملا" حتى من دون إعادة صياغة، ظهر بين النقاد الغربيين· وليس نادرا حتى هذه اللحظة أن نجد النقاد العرب في اختلافاتهم يستخدمون حجج المختلفين في الثقافة الغربية، كأن يرفع أحدهم حجة ضد "جاك ديريدا" صاحبه، يستمدها من صاحبه "رايموند ويليامز"· وما زلت أتذكر حتى الآن كيف كان النقاد العرب المشاركون في باب "قرأت العدد الماضي" "من الآداب" البيروتية يأخذون مجدهم أمام النصوص العربية، ويتوقفون ويستخذون أمام النصوص الأجنبية المترجمة، ويعتذرون عن مراجعتها أو يتجاهلون وجودها· لم أكن أستسيغ هذه الظاهرة، ولا كنت أستسيغ ذلك التقليد الذي ظل شائعا زمنا طويلا، ولا أظنه انتهى، حين كان الباحث أو الناقد العربي يبدأ بحثه أو مقالته بعرض جملة مما قاله "سارتر" أو "كامو" أو "اليوت" ··· إلخ في الموضوع الذي يتناوله، ويظل سادرا في اقتطاف هذه المقولة أو تلك، محوما حول موضوع دراسته حتى النهاية· ولم يتغير هذا النهج في هذه الأيام، بل تغيرت أسماء المراجع الكبار هؤلاء، وبدأت تتصدر المقالات أسماء "فوكو" و"ايكو" و"فوكوياما" و"باختين"·

 

هل فشل التاريخ؟

 

ما طرحته رواية "فارغاس" التي أشرنا إليها، شأنها في ذلك شأن روايته "العمة جوليا وكاتب المخطوطات" و"حرب نهاية العالم"، و"الحكواتي" يمكن اختصاره بهذه العبارة "إنه يشكك في حقيقية الحياة"· ويمضي عبر أسلوب تركيب رواياته نحو إعطاء هذا الشك بعدا راسخا، حين يبعثر الأحداث والشخصيات على امتداد زمني ملتبس، أي لا هو بالماضي، ولا هو بالحاضر، ولا هو بالمستقبل، فيوحي بذلك بشيئين، الأول، هو أن ما حدث كان سيحدث، والثاني أن لا شيء يتغير في المتاهة لأن كل طريق فيها يفضي الى الآخر·

وهكذا يرتبك القارئ مثلما هي مرتبكة الشخصيات، فالكاتب لا يعرف أفضل مما تعرف أنت أو أي قارئ· بعض النقاد يقول ممتدحا هذا الأسلوب: "هذا أفضل أسلوب لمنح القارئ فرصة معرفة كيف هي الحياة في البيرو"· ولكنه ينسى أن يضيف: "··· من وجهة نظر كاتب محدد هو ماريو فارغاس نفسه"·

نعم هي وجهة نظر كاتب، ومجال الإقناع في هذا الخصوص يظل ساحة للجدل· فكما هو متنوع هذا الواقع الخاص، تتنوع طرائق ووجهات نظر الكتاب، وليس من الملائم إصدار الأحكام المطلقة العجيبة مثل تلك التي تحفل بها اللغة العربية، فتأخذ بوجهة وطريقة كاتب أو شاعر وتجعل منها تعبيرا عن مزاج شعب أو أمة، فيسهل بذلك الطريق نحو تنصيب جنرالات مستبدين في شتى النواحي الثقافية، ينفرد كل منهم بإصدار الأحكام والتعليمات، وتهمش عشرات بل مئات الأصوات· إن أتعس ما يمكن أن تبتلى به ثقافة هو تنصيب "شاعرها" الفرد إماما، أو "راويتها" الفرد مرجعا، وتجعل التنوع جحودا وهرطقة·

يلفت نظرنا ما يقوله د· ب· غالغر عن الاتجاه الغالب على روايات أمريكا اللاتينية، وهو أن تاريخ أمريكا اللاتينية قد أخفق، أي فشل في أن يكون تاريخا حيا وحقيقيا كما هو تاريخ الأمم الحية، ويفسر هذا بذلك الضباب السحري أو الغرائبية التي تغلف عوالم الرواية هناك، وهذا التركيب المبالغ فيه لدى بعضهم مثل "بورخيس"، للمضي باللامعنى الى حدوده القصوى، ورؤيتهم يغض أحدهم من قيمة الآخر بشراسة بالغة، كما هو الأمر بالنسبة لفارغاس حين وصف "ماركيز" بأنه "مجرد محظية من محظيات كاسترو"!

ولكن ليس هذا أيضا إلا وجهة نظر كاتب، وعلينا أن نتعلم من الآداب الأجنبية أشياء كثيرة، على رأسها عدم تكرار المحفوظات والأقاويل "المستعملة" وإعادة استخدامها في سياق اللغة العربية استغفالا لقراء يجهلون اللغات الأجنبية، والانطلاق من مبدأ التنوع الثري الذي يميز أدب هذه القارة وأي قارة أخرى، وتنوع اتجاهاته ومعانيه، من دون الوقوف عند هذا التيار أو ذاك، ومن دون الوقوف عند رؤية ساكنة تفرضها القوى المحافظة على الواقع العميق، واقع التغير الذي لا يتوقف· وفي كل هذا نظل بحاجة الى أدلة تقودنا في متاهات كتابات أمريكا اللاتينية، مثلما كنا بحاجة الى أدلة تقودنا في متاهات "فوكنر" و"جيمس جويس" و"مارسيل بروست"، وصولا الى كتاب الزمن الراهن، وهي أدلة لم نجدها إلا لماماً، لأنها تقع خارج اهتمامات النقد التقليدي الأبله الذي يتمحور حول العمل "الفني" بما هو كذلك، لا في قلب اهتمامات النقد الثقافي الذي ينظر الى النصوص بوصفها نتاج شبكة علائقية، تنتسج من التداخل الموجي بين الأنا والآخر، والفرد والمجتمع، والمجتمع والثقافة، والثقافة ومؤسساتها الوسيطة، وبين المجتمعات ذات الهوية المتميزة والهوية المشتركة مع غيرها من مجتمعات على حد سواء·

 

الرواية مجاز شعري

 

إن ما نتعلمه من قراءة الآداب الأجنبية، وبخاصة الأمريكية اللاتينية هو أن التاريخ لا يفشل ولا يخفق إلا حين يكون الناظر ملتصقا بزاويته الخاصة، أو برغبته في "إنهاء التاريخ" عند مرحلة معينة، أو مرتبطا بشبكة مصالح ضيقة· ونتعلم أيضا أن هؤلاء الكتاب، بعيدا عن حبنا لهم أو نفورنا منهم، هم من النوع الذي يحب أسماءه ولا يحاول التخلص منها، كما يحب عالمه الذي يحيا فيه، وليس أبلها الى درجة أن يدير ظهره عن يوميات شعبه، حتى إن أخذوه الى منصة أو مهرجان باذخ، وناولوه هذه الجائزة أو تلك·

وهم أيضا مدركون إدراكا واعيا بأن مصائر عالمهم - الثالث - هي مصائر أمم، وليست مصائر أفراد· وبقدر ما يكون مصير الفرد دالا على مصير المجموع، يكون حجمه في الآداب· ولأن هذه المصائر قد وسمتها هيمنة وفظاظة الشركات المتعددة الجنسيات بالتراجيدية، اتخذت الحالات لديهم أقصى حدتها، ودفعت الى وضعية من التطرف أصبح معها المصير كونيا·

لا يقترب هذا الأدب من الخرافة، ولا ينساق الى التصوف إلا في حالات خاصة هي الحالات التي تكون فيها الخرافة ويكون التصوف فيها بعداً معاشاً، وهو في أجمله مجاز شعري مدفوع الى الأقصى· وكأنه يحقق "الشعرية" بإنشاء تقاليد روائية، تتحول فيها الرواية الى مجاز شعري·

وهو بعد كل شيء·· وقبل كل شيء ناطق عن وجهة نظر شاملة في الكون والإنسان، أو هو يطمح الى احتياز هذه الرؤية، وليس أدب النظرات الموضعية الساذجة· أنه ينطق بالمناخ الكامل ولا يعلق مصيره بظاهرة مناخية جزئية أو عابرة·

وينعكس مثل هذا في التركيب الروائي، وإن تباين المغزى· فروائي مثل (فارغاس) يقيم روايته "حياة اليخاندرو" على حادث حرب تقوم في البيرو· ولكن الروائي يأخذه منطلقا للبحث في حياة شخصية من شخصيات الحرب، ويغوص عميقا في الزمن، ليخلص الى نتيجة بأن من المستحيل الوصول الى الحياة الحقيقية· البحث أو التنقيب بعد أن يكون قد حدث ما حدث، مصمم بمهارة للوصول الى هذه النتيجة·

وليس الأمر كذلك مع روائي بحجم (استورياس) فهو لا يحقق في الماضي، بل ينشئ الحاضر، فكل شيء في روايته "السيد الرئيس" مثلا يحدث الآن، ويسير، كما تسير الأحداث التي يصعب التنبؤ بقرارها النهائي·

مثل آخر على أسلوب التحقيق، ذلك الذي تحققه رواية ماركيز "الحب في زمن الكوليرا" (1985) فالرواية تبدأ بعد أن يكون قد حدث كل شيء الماضي كله في ما عدا فصل واحد لم يحدث بعد· هنالك عاشق ظل ينتظر نصف قرن·· ليتقدم من حبيبته وهما على حافة الموت ليذكرها بقسمه الأول على الحب الأبدي· والرواية مصممة لحكاية تفاصيل نصف القرن هذا، واختتامها بالنهاية الطريفة·

إن بحث ماركيز يختلف عن بحث فارغاس، لأنه أكثر إحساسا بمعنى كل هذه التفاصيل·

على أن الأكثر جذبا في روايات المعلمين هؤلاء، هو أن ما يسمى (واقعيتهم) تكاد تكون واقعية ساخرة، وطريفة في الوقت نفسه، فأحلام الناس العاديين - وهم أبطالهم حقا - ترفعهم واقعيتهم الى مستويات عليا من الوجود تجعل منهم (قديسين) و(مباركين) و(عظماء)·· بينما يهبط وجود الناس غير العاديين، مثل بطريرك ماركيز ورئيس استورياس الى مستوى الكائنات الفاقدة للروح والحلم·

إنه نشيد متواصل بغنائية حادة لتأسيس سلم قيم جديد·· ومن ذلك الذي لا يجد صدى في نفسه لمثل هذه البشارة؟

إن الناس الذين يكتبهم كتاب أمريكا اللاتينية مختلطون أعراقا وجنسيات ومذاهب، ولكنهم موحدون في هذا النشيد عند نقطة أساسية، بشريتهم، ولكونهم من أبناء الأرض·· بل أكثر أبنائها تعبيرا عنها، وعن غناها الحي·

طباعة  

تجديد لغة النقد والانتحال الثقافي
 
في تطور المعنى
للكائنات الإنسانية مهادها الثقافي ومعناها