رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 3 يوليو 2006
العدد 1735

تجديد لغة النقد والانتحال الثقافي

في ثلاثة أجزاء من القطع الكبير، وعلى امتداد ما يقارب 1300 صفحة يكرس الأستاذ التونسي محمد لطفي اليوسفي دراسة نقدية موسعة للمنتج العربي المعاصر نقدا وإبداعا، ويمكن أن يعد الكتاب في جزء منه نقدا للنقد، ويمكن أن يعد في الوقت نفسه نقدا للنص الإبداعي ذاته·

يبدأ الجزء الأول، وعنوانه الفرعي "الكتابة ونداء الأقاصي" بمقدمة منهجية عن تجديد أسئلة النقد وشروط هذا التجديد، في ضوء الانشغال الراهن بالتجديد والمغايرة، وتأتي هذه المقدمة بمثابة وضع علامات على طريق كتابه، لا يأخذ فيها فقط بضرورة أن يكون السؤال النقدي محيطا بإشكاليات الإبداع، بل وبضرورة تناول كيفية تجديد لغة النقد· وفي هذا السياق يلاحظ تيارين منهجيين، الأول التيار الذي يتبنى المصطلحات والمفاهيم العربية القديمة التي أنتجتها نظرية النقد لدى العرب القدامى والتيار الذي يستقدم مصطلحات ومفاهيم الثقافة الغربية التي أصبحت مرجعية وحيدة لدى المحدثين·

وفي كلا الحالين لا ينكر اليوسفي إمكانية أن يتجدد المفهوم وينتعش المصطلح، أو ينتقل من دلالة الى دلالة أخرى، إلا أنه يعتقد أن عملية استقدامه، سواء من الماضي العربي أو الحاضر الغربي، واستخدامه في الإجراء النقدي مشروط بمدى القدرة على تحويله، والتحويل من جانبه يشرطه ما ينشأ من حوار وتفاعل بين المصطلحات والمفاهيم والثقافة التي تستقدمها·

من جانب آخر، يعتقد اليوسفي أن تأصيل الفكر النقدي لا يتم بإعادة إنتاج الأسئلة القديمة، بل بتمثلها ومفارقتها، على الضد من التبسيط الشائع، الذي يختزل التأصيل في الحرص على الانشداد الى الماضي وإعادة إنتاج مقولات السلف· إن تأصيلا تبسيطيا من هذا النوع هو الوجه الآخر للعملة نفسها، حين يبسط التجديد في مقولات مثل "تجاوز القديم" أو "هدم القديم" أو "البدء من جديد"، وهو ما يشيع في خطاب الحداثة· النتيجة كما يقول اليوسفي هو وضع التفكير النقدي في مآزق تحول دون تقدمه وتجعله عاجزا عن الكشف عن القيم الجمالية المحتجبة في صميم النتاج الإبداعي سواء كان قديما أو معاصرا·

يكرس اليوسفي كتابه الأول لعدد من الموضوعات، تبدأ بموضوع مصطلح "الانحطاط"، ثم "المدينة ومطاردة جند ابليس"، و"دروب الانشقاق" و"دروب الهوان" و"ثارات الشعر"، وتحت كل هذه العناوين يعيد اليوسفي تقييم وتحليل طاقة الشعر والشعرية في التراث العربي، وأطروحته الأساسية هي أن الشاعر بعد العصر الجاهلي تعرضت وظيفته كأمير للكلام الى التهميش، والى القمع بالأحرى في ظل ظهور المجتمع الجديد، ومن هنا جاءت انشقاقات الشاعر، أو سلوكه مغتربا يرسخ مقولة المؤلف عن فتنة المتخيل· والقصد منها أن الخيال الأدبي والفني خطاب جمالي يتقاطع مع الخطابات الأخرى من دينية وأخلاقية، إلا أنه ليس من صنفها· وفي وضعية التهميش التي حولت الشاعر الى متكسب لا غير في عصور متأخرة بدأ الشاعر يسقط في العتمة، وترحيل الطاقة الخلاقة الى فنون في القول أخرى· ومن هنا يرفض اليوسفي مقولة الانحطاط بالمعنى الشائع، أي بمعنى الظروف السياسية والاجتماعية، ويبحث في بنية الشعر ذاته وأغراضه التي قادته الى الهوان مع كل ما حفل به التاريخ من صراع وتوتر بين الخطاب الجمالي والأخلاقي والديني، ومن هنا نجده يدعو الى قراءة للأدب القديم مع وعي بحدود "النظرية" الأدبية التي أضاءت جوانب منه وسكتت عن جوانب، أي قولبته في إطار الآمن والمأمون لا الجامح والعنيف والمعنوي·

في الجزء الثاني من الكتاب يبسط اليوسفي أثر الصورة المتخيلة التي قدمها الاستشراق منذ القرن التاسع عشر في الذهنية النقدية والإبداعية العربية، سواء أتمثل هذا في اعتبار "التمثل الاستشراقي" وصوره التمثيلية عن نفسه وعن الشرق هو المرجع أم تمثل في النظر الى المتون العربية القديمة من هذا المنظار· يقول اليوسفي ملخصا أن "تلبيس المتون العربية منجزات الأبحاث الغربية الحديثة ومقررات النظرية البلاغية القديمة يمثل نوعا من التحايل على أسئلة الراهن الثقافي"· ويلاحظ أن الخطابات الحداثية استنادا الى أخلاط من الألسنية والأسلوبية والسيميائية الغربية المنتزعة من منابتها قسرا استمدت سطوتها في الراهن الثقافي العربي، وفي ذهن المتلقي الذي تنشد إبهاره في أنها تقف في المقدمة تشارك الآخر الغربي منجزاته، ولكن تشكلها على هذا النحو، أي بوصفها انتزاعا لمقولات وخطابات من سياق ثقافة أخرى، يشير الى أنها جاءت تكرس الانتحال الثقافي، في حين تواجه أسئلة الراهن الثقافي بالتحايل والمغالطة·

وللوصول الى هذا يقرأ اليوسفي تاريخ ما يسميه "اليتم" العربي ومكائد الاستشراق ويستشهد بنصوص منشورة لأسماء معروفة ومشهورة في المشهد الثقافي العربي، تكرس كلا أو جزءا تمثلات الاستشراق وتعيد إنتاجها بطريقتين: الأولى، استبطان صورة الغرب كصورة نورانية مطلقة، والثانية، تبني صورة الشرق التي اخترعها الغرب وكرسها الاستشراق، وهي صورة قاتمة أصبحت "جوهرا" لا يتغير لهذا الشرق، مع أنها قائمة على تخيلات وتوهمات·

هنا ينتقل اليوسفي الى دراسة معمقة لخطاب المؤلف العربي، كاتب السيرة الذاتية والشاعر والروائي، ليكشف عن أن العلاقة بين منتج الخطاب ومتلقيه مأهولة بالمراوغة والزيف والعنف، ولكن على رغم كل هذا، يظل الخطاب حين يقرأ بمنهجية واعية، مهما ادعى الحياد يفصح عن الصورة الحاصلة لمنتجه عن نفسه·

وفي الكتاب الثالث والأخير، يحلل اليوسفي كيف تنعكس ذات الكاتب في نصه، فيتناول السير الذاتية والتصريحات أو "الادعاءات" التي يطلقها الكتاب على أنفسهم وعلى من حولهم، ويزيح الستار عن الأوهام الفردية التي تمنح للمؤلف سطوة على المتلقي، أو عن آليات هذه السطوة وكيف تتحقق بشواهد ملموسة·

كتاب اليوسفي شبه دراسة ميدانية لا يشير تلخيصه إلا الى أفكاره الرئيسية، أما طرائق الاستدلال والتحليل فتظل أوسع من أن يحيط بها عرض مثل هذا، فهي تحتشد بشواهد كثيرة، ومناقشات مطولة أحيانا، بل ومكررة، وخصوصا حين يعيد اليوسفي تأكيد منطلق من منطلقاته النظرية، والكتاب بعد كل هذا في أجزائه الثلاثة، مزود بمراجع وهوامش إيضاحية، وبأسماء للإعلام تجعل منه عملا متكاملا بالمفهوم الأكاديمي، على رغم أنه بعيد عن الروح الأكاديمية الى حد بعيد، سواء في أطروحته أو في كيفية تناولها، وأخيرا في جدته الجدة التي تفتقد في الأكاديميات العربية عادة·

طباعة  

عن كتابات أبناء الأرض
أمريكا اللاتينية انتصرت روائيا قبل أن تنتصر انتخابيا!

 
في تطور المعنى
للكائنات الإنسانية مهادها الثقافي ومعناها