رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 3 يوليو 2006
العدد 1735

في تطور المعنى
للكائنات الإنسانية مهادها الثقافي ومعناها

                                                                                  

 

ألاستير ماك ايتوش

في تعليقه على كتاب "روح وتراب" للمفكر الاسكتلندي "ألا ستير ماك ايتوش"، قال الأستاذ "جورج مونبيوت" من جامعة أكسفورد، إنه يبرهن علي صحة مقولة "الشعر يمكن أن ينقذ العالم" ولم يتوقف أستاذ أكسفورد عند هذا الحد، بل مضى الى القول إن هذا الكتاب لا مثيل له في أهميته، وأنه يغيّر إدراكنا لأنفسنا وتاريخنا ومحيطنا، إنه خطوة أولى نحو تحرير الروح، ويعني بذلك تلك العملية التخيلية الجوهرية التي يجب أن نتبعها إن كان لنا أن نحمي العالم من الكوارث السياسية والبيئوية التي تهدده· في هذا المقال يبسط "ألاستير ماك ايتوش" جانبا من جوانب فلسفته في تحرير الروح واكتشاف ما يسميه المهاد الثقافي الذي ينير فكرتنا عن التطور·

من عمل منا في البلدان الأجنبية تعرّف على التربية الثقافية النمطية التي تؤكد غالبا على أن التطور هو نتاج حساسية معينة· مالم نسأله في الماضي هو إلى أي مدى كان ما اعتبرناه تطورا هو في الحقيقة سيطرة من الداخل لثقافة واحدة منفردة أوروبية - أمريكية·

إن مشروع الثقافة هذا، باستغلاله للوقت وتحويله عمل الناس وهبات الطبيعة الى سلع للبيع والشراء، يمكن أن يضعف ويخلخل الهياكل التي منحت حياة الناس معنى في الماضي، ولهذا ليس مفاجئا أنه حتى الثقافة ذاتها تم اجتثات جذورها وتحويلها إلى سلعة يتغذى عليها من يستطيع تقديمها، ولهذا حين نتحدث عن "عقبات ثقافية" يكون هذا تعبيرا ملائما اينما آمنا أن الثقافة هي موسيقى وفن من الماضي· ولكن تصفح معجم واحد من المعاجم يكشف عن أن مثل هذا الفهم للثقافة هو مجرد تعريف واحد من عدة تعريفات، على سبيل المثال، يضع معجم "كولنز" الإنجليزي المختصر قائمة تضم أربعة تعريفات للثقافة لاغير، بوصفها "المساعي الفنية والاجتماعية والتعابير والأذواق التي يقدرها المجتمع أو الطبقة الاجتماعية"· وأول التعريفات هو أن الثقافة "هي جملة الأفكار والمعتقدات والقيم والمعرفة المتوارثة التي تشكل قاعدة الفعل الاجتماعي المشتركة"· ولكن مؤتمر "فانكوفر" لمجلس الكنائس العالمي في العام 1983، نفى هذا بالتأكيد على أن ""الثقافة هي ما يحفظ للمجتمع تماسكه بتقديمها لإطار مشترك للمعنى" كل هذه التعريفات بعيد بعدا تاما عن النظرة الضيقة الى  الثقافة، تلك التي تنظر اليها بوصفها زهرة متفتحة لحضارة· الثقافة بالمعنى الأعمق ليست زهرة، وليست جذورا حتى، بل هي شيء ذو علاق بمهاد وجودنا، ذلك الذي يحوّل المعنى الكامل الى حياة·

"ماري دالي" دعت في نقدها للثقافة الأبوية، ثقافة رب العائلة الذكر، الى الاعتراف بمهاد أخلاقي، كطريقة حياة ربما تستطيع النساء بوساطتها تعلم التعرف على هويتهن المشتركة بالتبادل بين بعضهن البعض، ومع أن استثنائها للرجال كما يبدو من هذه الوحدة أمر موسف، إلا أن مفهومها للمهاد الأخلاقي كنمط حدسي من أنماط الأخلاق أكثر عمقا، مفهوم ذو قيمة كبيرة، وأعتقد أنه يمكن إحداث تصفية متماثلة ستكون ذات عون كبير بين مصطلح "ثقافة" في أقل استخداماته ثقلا وبين "المهاد الثقافي"، فالمهاد يعني التعالي أو الذهاب الى ما وراء الأشياء، وسأعرفه بكونه الأساس الثقافي المتسامي للثقافة، تلك الثقافة التي ستمنح معنى، ليس لمجرد أن لدينا لغة معينة وأعراف واقتصاد ودين ومهاد متعال، بل لسبب أعمق، وهو أننا كائنات إنسانية تشبه جزرا في بحر واحد· وقد تبدو هذه الثقافة غير متصلة بتلك الثقافة حين ننظر إليها من السطح عبر المياه، إلا أنها واحدة في الواقع على مستوى الأساس، أي عبر المهاد الصخري للثقافة·

 

أصوات الثقافات

 

وأتذكر هنا تجربة مهاد ثقافية ملموسة، فذات ظهيرة وأنا جالس في بيتنا في "بورت مورسباي"، اقتحم عليّ الفضاء صوت موسيقى مرقص صاخب تديره عصابة متشردين محلية، عاطلين عن العمل، مقتحمون ثقافيا واجتماعيا نتيجة إضعاف التطور بسبب مادعاها "آلفن توفلر" "صدمة المستقبل"، حين يكون التغير أسرع من قدرة ثقافة على هضمه·

حاولت إغلاق أذنيّ، إلا أنني انتبهتُ في ما بعد تلك الظهيرة الى شيء جعلني أصغي بانتباه· ماذا كنت أسمع؟ هل هذه موسيقى سلتية، صوت بحار "البردين" في طفولتي حين كنت أصطاد السمك مع العجوز "فنلي"؟ غادرتُ البيت، وعبرت الشارع، وسألت إن كانت بإمكاني الجلوس والاستماع الى موسيقاهم معهم، كان العزف عزفا لموسيقى أغان من غينيا الجديدة متوارثة، وكان اسم المنطقة التي جذبت سمعي هو "سارول"· واللازمة المتكررة مشتقة من مقاطعة إيرلندا الجديدة، ومع ذلك فهذه الموسيقى تنطق باللغة الثقافية ذاتها، كما أنها تلائم الطحالب البحرية الطافية على أراضي المستنقعات في المحيط، أراضي الثقافة السلتية·

كان هنا وجه جلي للمهاد الثقافي، وقد يكتشف الإنسان أيضا في ثقافة إثنية مثل ثقافة جبال "الإنديز"، أغاني الحرية في جنوب إفريقيا وراجات الهند· إن الكثير مما نعتبره موسيقى غربية معاصرة هو في الحقيقة تركيب ثقافي من عدة عناصر· وينطبق الأمر نفسه على الفن "السلتي" في "هولشتات"، فهو يظهر رمزية شاملة تنسجم مع ما كتب عنه عالم النفس "كارل يونج" في بحثه عن تقاطع الثقافات في "المانديلات" (رسوم دينية من التبت تستخدم للتأمل) وعن المنظور الشرقي، وكان الباحث البوذي "أناندا كومارا سوامي" قد لا حظ في مراسلاته مع "جورج بين" (1951) كيف يظهر الفن السلتي والفن السنسكريتي المبدأ الخالد ذاته: التواصلية، ويمكن أن يقال الأمر نفسه عن فنون القبائل رغم أنه لا ينطبق على معظم فن مجتمعنا المعاصر·

المهاد الثقافي إذن أكثر بكثير من مجرد كونه أعرافا وطرقا لصناعة الأشياء والفنون، إنه ليس أقل من مستوى الوجود حيث ترقص الروح مع دم الخلق الحي، ويعني الإحساس بهذا الروح الجماعية والتضامن والتجذر والحب الأعمق، كما قال معلم الطاو "لاوتسو" في القرن الرابع ق·م:

اللا مسمى كان بدء السماء والأرض

المسمى كان أم حشود الكائنات

ومنه ظهرت حشود الكائنات،

إلا أنه لا يدعي سلطة عليها

إنه يمنحها الحياة ولا يدعي ملكيتها

إنه ينعم عليها، ولا يطلب منّةً

إنه يتم مهمته، ولا يطلب امتيازا

ولأنه لا يطالب بشيء

تكون له كل الامتيازات

كل حشود الكائنات ظهرت سوية

إنني أراقب عودتها

العودة الى جذر الواحدتسمى الثبات

هذا هو معنى العودة الى مصير الواحد

 

أعظم التحديات

 

كيف تضيء هذا الفهم للمهاد الثقافي فكرتنا عن التطور؟ أخذنا في الماضي بالفصل بين "التطور" كتطور للممكنات الإنسانية والروحية، و"التطور" كإشباع للحاجات الأساسية وغير الأساسية، ويجب أن تنتهي هذه الثنائىة، ومهمتنا الأولى كناشطين في مضمار التطور، وهو ما يمكن أن نكونه جميعا، هي فهم كيفية شفاء معنى الحياة واستعادته، ولا يمكننا التحرك نحو هدف التطور الحقيقي إلا إذا تبينا أين نحن، وأين أصيبت ثقافتنا بالجراح·

لقد تصور "كارل يونج"، الذي هو ربما أعظم أطباء النفس في القرن العشرين أن "بحث الإنسان المعاصر عن الرورح هو أعظم تحد بين تحديات عصرنا"، وكتب "دير بوست": "بسبب هذا التنكر لجانب الطابع البدئي بالتحديد، وبسبب التنكر لأهميته السامية للحب (في عالم روما المهووس بالقوة) رأى "يونج" تاريخ العالم أرضا خربة، هذا التنكر هو الذي جعل الإنسان المعاصر مريضا يتزايد مرضه العقلي والروحي، والنبذ هو نتاج ضخامة خسارة الإحساس بفقدان الاتجاه· إنها تماثل ما يدعوه الأفارقة "خسارة الروح"، ويخشون هذه الخسارة ويمقتونها بوصفها الأعظم بين الكوارث التي يمكن أن تصيب الكائن الإنساني· إن روح الإنسان دينية قبل كل شيء، ودينية بشكل طبيعي، ومن الواضح أن فقدانها يسبب للإنسان جوعا أعظم من الجوع الجسدي، وإذا لم يشبع هذا الجوع، فاما أن يذبل الناس مع مجتمعاتهم، أو يفنوا في كارثة تحيق بهم وهم لا يشعرون، لقد كان "يونج"، أينما نظر، يرى عالما مريضا بسبب فقدان الروح، عالما يتفاقم مرضه بسبب خسارة الروح، وهذه الخسارة تحرم العالم المعاصر من معناه·

 

الحمر والبيض

 

حين ننظر الى ما أصيبت به الثقافة  أو النظام البيئوي في مختلف أرجاء العالم قد يدفعنا الشعور بالذنب الى الأسى والشلل، ومع ذلك، يوجد مفكرون وحكماء من حولنا يمن أن يساعدونا في العثور على طرق للتقدم جديدة· على سبيل المثال، يكتب "باولو فريه" من البرازيل في كتاب "تربية المقموعين" (1972) عن الخراب الذي أنزله الغزو الثقافي بالفقراء، ويقترح في ظل هذا الوضع هدفا للتربية والتعليم يقوم على أساس "غرس الضمير الشخصي" أو إحياء الضمير الشخصي (Conscientisation) بحيث يتمكن أولئك المعرضون لظروف حياة قمعية من إعادة اكتشاف أنفسهم كشخصيات قادرة على تغيير الواقع بأعمالها الخلاقة·

إن ما يدعوا اليه "باولو" هو "ثورة ثقافية" بوساطة "توليف ثقافي" يجعل أولئك القادمين من "عالم آخر" كغزاة للناس، يأتون ليتعلموا ويشاركوا ويحبوا·

وتبدو مثل هذه الأفكار القادمة من البرازيل ذات علاقة، وبخاصة مع الوضع الثقافي والتطوري والمؤسساتي في شمالي بريطانيا اليوم، ومع ذلك فإن قبول ما يعنيه هذا النوع من التضامن حقا ليس هينا، وبخاصة، ونحن على أرضية روحية، إن بعض المسيحيين قد يتبنى القضية إذا دعوناه الى نبذ الاحتكار الروحي·

أحد الذين عبروا عن الأمل في أن المزيد من المسيحيين قد يتوافقون مع مشروعية الطرق الروحية الأخرى، كان "سياتل" أحد زعماء القبائل الأمريكية الأصلية، ومازالت دعوته التي جاءت في العام 1845 صالحة حتى اليوم، للمسيحيين وغيرهم، قال "سياتل": "نحن نعرف شيئا واحدا ربما يكتشفه الرجل الأبيض ذات يوم، وهو أن ربنا هو الرب نفسه، ربما تعتقدون اليوم أنكم تمتلكون هذا الرب مثلما تريدون امتلاك أرضنا، ولكنكم لن تستطيعوا، فهو رب الإنسان، ورحمته تتسع للجميع، البيض والحمر على حد سواء"، وأضاف "سياتل" كأنما ليعتذر: "أنا متوحش، ولا أفهم أية طريقة أخرى"·

الجدير بالملاحظة أن لفظة "متوحش" (في الإنجليزية) مشتقة من الكلمة اللاتينية التي تعني "المنتمي الى الغابات"

وحين تدعم حياة العالم القائمة نظما تهدده بقطع الغابات في سبيل التطور، وتنظر المجتمعات التي تعيش في ما تبقى الى الجديد بحثا عن ما يمكن أن تتعلمه عن السعادة والبقاء، تبدو المفارقة جلية· فأية مملكة مقلوبة هذه! لا تجيء الموسيقى الإفريقية لتجد لها مأوى في الوطن فقط، بل وتجيء أيضا فلسفة "المتوحش" لتجد لها سكنا·

عن موقع

www.alastairmcintosh.com

طباعة  

عن كتابات أبناء الأرض
أمريكا اللاتينية انتصرت روائيا قبل أن تنتصر انتخابيا!

 
تجديد لغة النقد والانتحال الثقافي