رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 19 يوليو 2006
العدد 1737

بعد 27 عاما على عاصفة "الاستشراق"

                                                                                 

 

محمد الأسعد:

حين صدر كتاب "الاستشراق" للدكتور الراحل إدوارد سعيد قبل 27 عاما لم يكن كتابا عاديا، ومازال كذلك حتى الآن، وبعد أن تحول الى جملة كتب مختلفة، فقد أثار هذا الكتاب نقاشات أبعد مما كان يفكر فيه مؤلفه، وفتح مجالات بحث جديدة لم يكن من المتصور وجودها، انطلاقا من المثال الذي ضربه بتفكيك نظام من أنظمة الهيمنة، واستثارة إحساس أكثر حدة بدور المثقف في تحديد سياق معين وفي تبديله·

صدرت الطبعة الإنجليزية من هذا الكتاب في العام  1979 كدراسة تتناول تراثا من السلطة، والعمل العلمي والمخيلة ساد أوروبا وأمريكا ما يقارب مائتي عام، هو تراث ما يطلق عليه "الاستشراق" الذي سيقوم إدوارد سعيد بتعديد مفاهيمه وأطره واستهدافاته، بل وطريقة عمله، وكشف آلياته بطريقة علمية مبتكرة ذات طابع نقدي غير مسبوق من ناحية المنهج، وإطار تجميع المادة اللازمة للبحث·

قبل هذا الكتاب كانت هناك محاولات متناثرة لتسليط الضوء على "الاستشراق" بوصفه علما غربيا بالشرق بعامة، والشرق العربي والإسلامي بخاصة،  اتخذت طابع الهجوم على حركة الاستشراق والتعليق على بعض أطروحاتها، وقيادة سجالات مدوّية ضد عدد من إعلامها، وأشهر هذه السجالات في القرن الماضي كانت ردود أفعال جمال الدين الأفغاني وعدد من المفكرين الإسلاميين على محاضرات الفرنسي أرنست رينان في جامعة السوربون المعنونة "الإسلام والعلم" (1883)·

وكان رد الفعل واسعاً شارك فيه روس مسلمون من أمثال "عطا الله بايزيدوف" الذي نشر كراسا تحت عنوان "موقف الإسلام من العلم وغير المسلمين" في سان بطرسبرغ "1887"·

وفي سياق العلاقات الجديدة التي نشأت بين العالم العربي والغرب في أعقاب الحرب العالمية الأولى (علاقات طابعها الهيمنة والتسلط) تصدى عدد من الكتاب العرب لأطروحات معينة للمستشرقين، وبخاصة ما تناول منها التاريخ العربي الديني والاجتماعي والسياسي، بينما أخذ آخرون  على عاتقهم مهمة التمييز في حقل الاستشراق بين الاتجاهات العلمية البحتة، والاتجاهات المختلطة بالدوافع السياسية والمصالح الاستعمارية، بل واستفاد بعض العرب من أمثال د· طه حسين من بحوث المستشرقين، وتابعوهم في طرائق بحثهم في الأدب العربي، بينما اتخذهم بعض آخر أئمة ومراجع في شؤون تاريخية عدة·

وفي كل هذا لم يكن ثمة بحث منظم في إطار فكري أوسع من ردود الأفعال بين مؤيد ومعارض في سياق الدفاع عن العرب أو عن الإسلام ضد ما يظن أنه هجمات مغرضة تستهدف تقويض المسلمات والبديهيات العربية والإسلامية، ويصدق على هذه الحالة وصف المفكر الجزائري "مالك بن نبي" الذي رأى فيها سجالات مدوية طابعها دفاعي وسمت النهضة العربية بميسم جدالي بعيد عن تلمس شروط النهضة·

 

تفكيك خطاب

 

كتاب "الاستشراق" يختلف عن كل هذا، ولا يمكن حتى وضعه في السياق ذاته، رغم أنه ينطلق من مقدمة واضحة ومشتركة بين العديد من منتقدي الاستشراق، وهي تلازم المعرفة فيه والسلطة مع الحركة الاستعمارية، بل إن صاحبه في مراجعة مهمة لكتابه نشرها بعد سنوات، اعتبر أن فهم كتابه كدفاع منهجي عن الإسلام والعرب لا يعدم كونه فهما خاطئا، لأنه لا يزعم امتلاك القدرة على إظهار الماهية الحقيقية لكل من الشرق والإسلام، ولم يكن هذا هو موضوع كتابه·

إضافة الى أن المؤلف ينطلق من عداء صريح للنزعة التي تؤمن بوجود جوهر ثابت للأشياء، وتنبع حججه النقدية ضد الاستشراق من هذا، ومن التشكيك الجذري في جميع التعريفات التي تقدم كمقولات من نوع "الشرق"، و"الغرب" إنه لا يناقش لا الشرق ولا الإسلام، وإنما يناقش التمثيلات الغربية التي صنعها الاستشراق للشرق والإسلام، على أرضية نقد داخلي يقوم على تفكيك هذا الخطاب ونقده، ليس على أساس أنه دراسة آثارية، عتيقة، للغات ومجتمعات الشعوب الشرقية، بل على أساس أنه كنظام فكري يقارب واقعا إنسانيا متغاير الخواص ومركبا وديناميكيا، من منطلق الإيمان بثبات الماهية وهو ما يوحي بوجود واقع شرقي دائم وجوهر غربي مقابل يراقب الشرق من بعيد أو من عل، وإقامة مثل هذا التضاد الزائف يخفي التغير التاريخي ومصالح المستشرق، وهي الأكثر أهمية في الموضوع·

ويعد هذا المنطلق أحد المستندات الأساسية في نقد د· سعيد لعدد من المستشرقين، وبخاصة "برنارد لويس" الذي أخذ نصيبا لابأس به من صفحات الاستشراق، وكان رد فعله إصدار سلسلة من المقالات جمع بعضها في كتاب "الإسلام والغرب" (1994) وخصص أحد أجزائه الرئيسية للهجوم على د· سعيد·

"برنارد لويس"، في رد فعله وحججه قام بتوسيع حجج الاستشراق المطروحة في القرن التاسع عشر لتغطي مجموعة كاملة لا تعد ولا تحصى من وقائع أواخر القرن العشرين، إنه مستشرق نمطي على حد تعبير د· سعيد، ينسب الى العرب والمسلمين بعض الصفات الجوهرية الثابتة، وتقوم براهينه على انتقائية مبالغ فيها كما يذهب الى ذلك باحثون غربيون من أمثال المؤرخ البريطاني فراسس روبنسون أيضا·

على أن "لويس" ليس هو الوحيد في دفاعه اليائس عن هذا العقل الذي تمت إعادة النظر فيه واتسعت المعرفة بارتباطاته ومؤسساته وآليات هيمنته، بل والكشف تهافته في أكثر من مجال سياسي وتاريخي وآثاري (مثال كتاب "كيث وابتلام" عن اختراع إسرائيل قديمة"،، فهناك مستشرقون أصغر سنا يضعون معرفتهم في خدمة مصالح الهيمنة والسيطرة الغربية بشكل مكشوف، مثل "دانيل فايبس" صاحب كتاب "دروب الله: الإسلام والسلطة السياسية" (1983)، وهو كتاب يقول عنه د· سعيد، إنه شهادة على مطاطية الاستشراق الفريدة، وعلى عزلته عن التطورات الفكرية في جميع ميادين الثقافة الأخرى، وعلى غطرسته العتيقة البائدة فيما يتصل بالأطروحات الجازمة القطعية التي لا تأخذ المنطق والحجة في الاعتبار إلا على نحو ضعيف، وإذا "لويس" تبلغ به الوقاحة حد فصل الاستشراق عن قرنين من التشارك مع النزعة التوسعية الغربية، وحصره في فقه اللغة ودراسة الثقافة اليونانية القديمة، فإن "فايبس" وصغار المستشرقين الجدد مازالوا يتمسكون بأكثر موضوعات الاستشراق شيوعا، وهي أن الشرقيين عاجزون عن تمثيل أنفسهم، ويتوجب بالتالي تمثليهم من قبل الغرب، ولا تحمل هذه الأطروحات مجرد غياب نزعة الحوار وتبادل وجهات النظر مع الآخرين، بل وتحمل تأكيدا ضحلا على المقدرة التي يمتلكها صانع السياسة الغربية أو خادمه الأمين بفضل كونه أبيض وغير مسلم·

ويجري كل هذا فكرا وممارسة في ظل ما تشهده من تقدم عدة حقول معرفية: النظرية النقدية والعلوم الاجتماعية وفلسفة التأويل، ومن دون أن يبذل هؤلاء أقل جهد للتعرف على الأدبيات التي ينتجها العالم الإسلامي·

 

كتاب ينتج كتبا

 

ترجم كتاب "الاستشراق" الى العديد من اللغات منذ صدوره وحتى الآن، يصل عددها الى ما يقارب ست عشرة لغة، وأثار اهتماما واسعا كان بعضه بالغ العداء، كما هو متوقع وبعضه غير متفهم، إلا أن غالبية الاهتمامات كانت إيجابية ومتحمسة، وارتبط النهج الذي فتحه الكتاب بأنشطة عديدة على مستويات عدة، تسودها نظم هيمنة مماثلة لهيمنة الاستشراق، مثال ذلك دراسة "ساندرا جلبرت" عن المرأة الفيكتورية المقموعة، وشدة تأثير الإيديولوجيا التوسعية الأوروبية على مخيلة الذكر في القرن التاسع عشر، عبر دراستها لرواية "رايدرهاغارد" المعنونة "هي" (1983)· ودراسة عبدالرحمن محمد عن "علم الجمال الثنائي" (1983) في روايات السود والبيض عن مكان واحد هو إفريقيا، كاشفا عن وجود نظام إيديولوجي متحجر فاعل تحت سطح الحرية الظاهرة، ونشر "بيتر غران" دراسة عن الجذور الإسلامية للرأسمالية، مكتوبة من وجهة نظر تاريخية مناهضة للتوسع الأوروبي والاستشراق، وهناك تحليلات مماثلة ومشروعات فكرية ترتكز على الدوافع نفسها التي تقف وراء التحليل النقدي المناهض للاستشراق·

يضاف الى ذلك استشكاف الباحثين من مختلف الجنسيات لموضوعات معرفية جديدة، تقدم شواهد تطبيقية على نشاط في حقل الدراسات الإنسانية، ونماذج نظرية تغير الصيغ المتعارف عليها جذريا، وفي هذا السياق قدمت "ليندا نوكلين" استكشافاً للإيديولوجيا الاستشراقية في القرن التاسع عشر حول الفن، وقدم "حنا بطاطو" إعادة هيكلة الميدان الذي يتجلى فيه سلوك الدولة العربية المعاصرة السياسي (1948)·

وقام "رايموند وليمز" الذي ترجم له المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في دولة الكويت أخيرا كتاب "طرائق الحداثة" بتقديم دراسة مدققة في بنى الإحساس وجماعات المعرفة والثقافات البديلة وأنساق الفكر الجغرافي، كما جاءت في هذا السياق إعادة فحص الثقافات الهندية واليابانية والصينية من قبل باحثين من أمثال "ماسا وميوثي" و"إقبال؟؟؟" و "طارق علي"·

 

تصور مقيد

 

كان الشرق تقريبا اختراعا غربيا، بهذه الجملة يبدأ نقد الاستشراق، والمعني بذلك ليس أن الغرب اخترع أكذوبة أو مجرد فكرة، من دون وجود واقع مطابق لها، فهناك أمم وثقافات تستوطن الشرق، وتعد حياتها وتواريخها وقائع صلبة، لكن المعني هنا هو أن الاستشراق خطاب استطاعت الثقافة الغربية عن طريقه تدبر الشرق، وأن تنتجه سياسيا وعسكريا واجتماعيا وعقائديا وعلميا في مرحلة ما بعد عصر التنوير، إن تصور الشرق وقائع ونظما وتواريخ، هو تصور وضع حدود معوقة أمام العمل والفكر أمام كل من يريد أن يكتب عن الشرق أو يفكر فيه، صحيح أن هناك إنجازات  علمية وإنسانية على هذا الصعيد، وأن د· سعيد ركز على الاتجاهات العنصرية والعداء في معظم الكتابات الاستشراقية كما يقول د· البيرو حوراني، إلا أن هذا الاعتراض لا يتعارض مع أطروحة كتاب "الاستشراق" الذي يلح على الموقف الهيمنة في حقل الاستشراق، والتي لا يمكن استبعادها أو غض النظر عنها، ما ينتقده د· سعيد هو مجمع جهاز المستشرقين ذو التاريخ النوعي في التواطؤ مع السلطة التوسعية، أي أن البنية الغالبة هي التي تستدعي اهتمامه، ومن هنا ربما تبعث القوة المحررة للكتاب، أو فتحه في مضمار الدراسات الإنسانية، حيث شكل خطأ فاصلا في العديد من الدراسات التي صدرت بعده، واستهدف تحرير المثقفين من إغلال هيمنة أنظمة مثل نظام الاستشراق، حدث ذلك في عدة مناطق، في أوروبا وأمريكا وأستراليا وشبه القارة الهندية والكاريبي وإيرلندا وأمريكا اللاتينية وأجزاء من إفريقيا، ولعب كتاب الاستشراق، أو إعادة النظر، دورا في تحليلات جديدة تعيد تجسيد مراحل ما بعد الاستعمار، في الإنتروبولوجيا والعلوم السياسية وتاريخ الفن والنقد الأدبي والموسيقى، إضافة الى التطورات الكبيرة التي اتسقت معه في خطاب الحركات النسائية وحركات الأقليات·

طباعة  

كلمة أمام الدورة الخاصة لمجلس حقوق الإنسان
لأول مرة تفرض عقوبات على شعب تحت الاحتلال