رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 26 يوليو 2006
العدد 1738

حكمة إفريقيا

                                                                                 

 

ماليدوما سومي

هذا المقال ملخص لخطاب قدمه "ماليدوما سومي"، أحد شيوخ قبيلة "داجارا" من وسط غرب إفريقيا، الحاصل على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة السوربون، وشهادة دكتوراه أخرى في الأدب الإنجليزي من جامعة برانديزي، ومؤلف لعدة لكتب عدة منها "عن الماء والروح" و"حكمة إفريقيا الشافية"·

تقسم قبيلة "داجارا" من وسط غرب إفريقيا الناس تقسيماً ناجحاً الى خمس فئات مختلفة: النار والماء والمعدن والتراب والطبيعة· وتظهر هذه الفئات الخمس على شكل العجلة الإفريقيا بألوان خمسة لكل فئة، ويؤدي كل نمط من أنماط الناس الخمسة دورا محددا، فكل شخص يولد في هذا العالم يجيء من واحدة من هذه الفئات تلبية لوظيفة من الوظائف التي يفترض أن يؤديها للحفاظ على تماسك الجماعة·

هناك أناس معينون تنسب إليهم صفة "النار"، وهؤلاء هم الذين لهم صلة بعنصر النار، ومن المفترض أن هؤلاء الناس رمزيا هم صلة الوصل بين القرية وعالم الأسلاف· ويفترض أن هؤلاء يقومون بوظيفتهم كموصلات تمرّ خلالها طاقة الأسلاف الى القرية· ومن هنا فإن نوع الإدراك الذي يرتبطون به في أغلب الحالات هو عملية الحلم، وعالم أحلامهم عالم بالغ الثراء· وما يدعى "حدسهم" ثري أيضا، وكذلك قواهم الإدراكية·

وليس من الصعب معرفة إذا كان المرء يمتلك طاقة النار أم لا،  فإذا كنت ممن يحلمون فكن على حذر أيضا، لأن شىئا ما يحدث في كلا الحالتين، والأمر المهم أن يكون المرء في غاية الانتباه الى الصور التي تصله بتفاصيلها (في الأحلام)، وهذا هو السبب الذي يجعلنا بحاجة الى أناس النار ليساعدوا الناس الآخرين الذين تواجههم هذه الصور على كيفية التعامل معها، إن أحد أفراد "داجارا" لا يواجه تجربة حلم غريب، ثم يستيقظ ويتصرف كما لو أنه شاهد عرضاً أو فيلما سينمائىا، بل يقوم بعمل، فإذا كنت لا تعرف ما يجب اتخاذه من عمل، عليك أن تذهب عندئذ وتجد شخصاً يمكن أن يساعدك على معرفة أي عمل عليك القيام به·

إنه سلوك مشترك، وفي أحيان كثيرة عندما تكون لا تعرف ما يجب عليك القيام به، فستقدم لك نصيحة بأن تخبر الروح أنك تود عمل شيء ما، ولكنك لا تعرف ما تفعل، ويعد هذا نوعا من الفعل، ولكن ليس كنوع من وجهة نظر ممتعة، ولا يفترض أن يكون الأمر للمتعة، بل أن يكون فعّالاً ويجيء بنتيجة، ومن المفترض أن يكون شيئا واقعيا·

ولدينا أيضا أناس نسميهم أناس "الماء"، ويعتبر هؤلاء عادة صانعو سلام، إنهم أولئك الذين لديهم  القدرة على حل الخلافات، الخلافات بين الإنسان ونفسه، والخلافات بين واحد وآخر على حد سواء· ولهذا، حين يكون هناك نزاع، يقال "طيب·· هل هناك شخص مائي قريب؟"· ولا يعني هذا أن الرجل المائي سيأتي ويرش الناس بالماء، ولكن لأن هناك فهما عاما بأنه في حالة حدوث نزاع بينك وبين شخص، وحضر شخص مائي، فعليك أن تضع حضوره في اعتبارك· عليك أن تؤجل المناوشات الحامية· وهكذا يمكن أن يشار الى الشخص المائي بوصفه مصلحاً، شخصا يعيد السلام، وشخصا يساعد أيضا على الحفاظ على طبيعة حياة القرية الهادئة·

لهاتين الفئتين عليك أن تضيف ما يسمى أناس "التراب" الذين هم انعكاس مباشر لطاقة التراب، ووظيفتهم هو شد عزائم الناس، تغذيتها، وجعلهم يشعرون أنهم في بلدهم·

إن أحد تحديات الوجود هو امتلاك طريقة امتلاكا دائما لقول إننا موضع ترحيب· والتحدي الآخر أن نكون قادرين على أن نهتدي الى طريقة حياتنا، فإذا كان العالم من حولنا يرانا حقا، فلدينا فرصة لبناء أمل، وإلا اتجهنا الى بناء دائرة حولنا، ومن هنا فمن المتوقع من أناس "التراب" أن يكونوا أولئك الذين يخرجون من الإنسان أفضل ما فيه، ويمنحونه إحساسا بالانتماء، وإحساسا بالمكان·

ونضيف الى هذه الفئات الثلاثة فئة أخرى يشار إليها بالإنسان "المعدني" والمعدني هو ما أعنيه أساسا حين أتحدث عن الذاكرة الموجودة في العظم، هؤلاء الأشخاص هم الذين تطلق عليهم تسمية "رواة القصص الواقعية"· وفي الثقافات الشفاهية يمتلك هؤلاء الناس ذاكرة مدهشة ذاكرة قوية، فلديهم الحكايات كلها، ليس مجرد قصص الأنساب السهلة والأسطورية، ولكن أيضا قصصا من ذلك النوع الذي يتناول قضية الخلق والنشوء· إن هناك أشياء، معينة في داخلنا تمتلك القوة على شفائنا حين نتذكرها، تماما مثل أنواع معينة من الأمراض التي لا لا يمكن أن تنمو في داخلنا إلا إذا أحطناها بالصمت· وبالطريقة نفسها، فإن قدرة تذكر شيء تحوله الى شكل من أشكال الطاقة قادر على إحداث فرق كبير في حياتنا، وهذا هو ما يفعله أناس "المعادن" وذلك ما تستطيع أن تفعله طاقة معدنية من هذا النوع في الأفراد·

الفئة الأخيرة ندعوها "الطبيعة"، أناس "الطبيعة يشار إليهم أيضا بوصفهم "سحرة"· وأعرف أن عالم الغرب لا يحب كلمة سحرة، وقد قتلوا عددا منهم على مرّ الأزمان (وربما يميلون إلى قتل المزيد)، ولكن القضية هي أن وجود ساحر هو أمر عظيم، لأن هذا هو ما ندعوه طاقة الطبيعة في أصفى أشكالها· في قريتي مثلا، الشجرة التي نشاهدها ليست شيئا ثابتا قائمة هناك منذ مئات السنين، إن الشجرة ربما تكون أكثر حالة وعي متنقلة يمكن أن نتصل بها، لا وجود لطريقة جلية لإيضاح السبب، سبب أن الشجرة أكثر الأشياء تنقلا، ولكن صدق أو لا تصدق، فهذا هو حالها، إن أفراد قبيلة "داجارا" يؤمنون بوجود تراتبا معينا للوعي، المرتبة العليا هي وعي عالم النبات، وعالم الطبيعة، الشجرة· والثانية هي مرتبة عالم الحيوان، والثالث هو وعينا· وهكذا فإننا نقع في المرتبة الثالثة·

لهذا السبب يعتبر وجود إنسان الطبيعة مهماً جدا، فهذا الإنسان يعرف كتاب الطبيعة بطريقة يمكنه معها امتلاك مفتاح الى تطور وعينا· إن الغاية ذاتها هي كتاب ألغاز قابلة للحل·

وحين تنظر الى الطبيعة تبدو وكأنها فوضى، ولكن يمكنك إدراك أنماط في الفوضى، فإذا لم تر سوى الفوضى في الطبيعة فما ذلك سوى انعكاس للفوضى في داخلك· هنالك نظام كامل التمام في الطبيعة، وفهم هذا النوع من النظم هو فهم للظواهر الكونية، وهذا هو السبب الذي يجعل السكان المحليين دائما يريدون الحفاظ على نظام الطبيعة كما هو· وتعديله يمحو فرصة حل لغز صوره الرمزية· وربما كان هذا السبب هو الذي يجعل العالم المعاصر ينظر الى السكان المحليين كأناس لم يتطوروا، أناس بدائيين، وفي هذا السياق تبدو كلمة "بدائي" اختزالا لا يعبر عن الواقع كما هو عليه·

الطبيعة ذاتها، والذين يرتبطون بها، يفترض أنها وحدة من أجل إنتاج أفضل ما في مكان من الأمكنة، إنهم يجعلوننا نفهم ما يعنيه التغير والتحول والتكيف، وتمتك الكائنات الإنسانية فرصة عظيمة لتجنب الوقوع ضحية للمرض إذا حسنوا قدرتهم على تغيير هذا الزمن، وإذا حسنوا قدرتهم على التحول، تماما مثلما تفعل الطبيعة، فحين يجيء الربيع يعود كل شيء الى الحياة، في حين أن كل شيء قبل ذلك يبدو ميتا في الشتاء، وتسمح لتلك التغيرات بنوع من سريان فعل تحتاجه نفوسنا من أجل أن تتوسع· إن ما أقوله فحسب، هو أن المرض، بعض أسباب المرض، تأتي من مقاومة شيء ما، ربما مقاومة التغيير أو مقاومة أنفسنا· وكل هذه المفاهيم ليست غريبة، وإنما الأمر هو أننا بهذه الطريقة أو تلك بحاجة الى إعطائها ختما جديدا، وطابعا جديدا، بحيث تستطيع المساهمة أكثر فأكثر في حياتنا اليومية·

لقد اكتشفت شيئا واحدا خلال جولاتي في هذا البلد والعمل مع الناس في قضايا متعددة، هو أنه في غياب جماعة حقيقية، أي سياق يمكن أن يكون فيه الناس سوية ويتقاسمون ما هو مشترك بينهم، ما يحدث هو أن أي شخص يجد نفسه أو نفسها، تتسع حقا (يمكن أن تدعوا هذا "يقظة روحية" إذا شئتم) مقذوف بالفعل في هذا النوع من العالم الذي أعيشه· إنه يشبه الانقذاف في عالمين·

العالم المحافظ لا يتعرف على هذا النوع من اليقظة، ولهذا تجدون أنفسكم على تنافر مع أي شيء آخر، وفي أفضل الأحوال تنظرون إلينا كأناس "سحرة" أو "عرافين" ولكن هذه الكلمة ليست سيئة في جوهرها، فليس سيئا أن تكون "عرافا"، إنها تعني في الأصل كونك "مزودا بأسلاك اتصال"، ومن هنا، ومن حيث الأساس، تفهم أنك مزود بقوة وعلى الأشخاص اليقظين روحيا أن يتعاونوا ويكونوا معا·

إن اكتشاف المرء لذاته يدخل الآن في المجال العام، وأعتقد أن قرية عالمية جديدة، أو قبيلة عالمية، تنشئ نفسها، فمن الذي ينظم هذا؟ لا أعراف، ولكن لدي إحساس كبير أن هناك الكثير من الأرواح تدرك هذا، وهي معنية عناية جادة  في اليقظة على شيء سيمنحنا أعظم الفرص للبقاء· وهذا هو السبب الذي يجعل من واجب بعض الناس أن يعترفوا بأنهم من "العرافين" ويمضوا إلى الخطوة التالية، مهما كانت تلك الخطوة التالية·

بالطبع سيعني هذا في النهاية الابتعاد جانبا لفترة من الوقت عن ميول الفكر الشمولية، والسماح للقلب والروح بالتفكير ردحا من الزمن، وما سينتج عن هذا سيحتوي على مادة أكثر إثارة، أعرف أنه من الصعب على فكر اعتاد أن يقول لنا ماذا نفعل، وعلى الحكم على كل خطوة تتخذها، أن يتخلى عن السيطرة للقلب والروح اللذين يتخطيان المنطق، ولكن اليقظة على الروح تعني قول كلمة وداعاً للمنطق، ويصبح نوع المنطق الذي أنشأه الفكر غير ملائم وغير دقيق، وهذا هو ما يواصل القلب قوله لنا باستمرار لأن مشاعر القلب لا يمكن أن ترسم "الآنا" خريطتها·

قد يبدو هذا أمرا بعيد المنال، ولكنني أحاول أن أضع شيئا بالأماكن الرئيسية التي يختلف فيها أناس العالم المعاصر عن أناس عالم السكان المحليين، نظرة العالم المعاصر الذين انزلقوا في الجانب الآخر من دون أن يعرفوا ما حدث، وأعتقد أنه أمر سار أن يستيقظ الشعور بهذه الطريقة أو تلك على وجود انجذاب نحو بعض التأكيدات الجادة والعميقة·

إذا انفتحت على طبقات وطبقات من أبعاد الواقع، وامتلكت طريقة لاحتضانها، فستظل حياتك دائمة الإثارة، إن أي شيء قائم في الواقع العادي، عنهما بدا فاتنا للوهلة الأولى، سيكفه عن كونه كذلك في نظرك بعد أن تكون في قلبه لبرهة من الزمن عاجلا أم آجلا، وستنتهي الإثارة بطريقة أو بأخرى، ولكنك في عالم الروح لا تأخذ منه كفايتك أبدا، لأن هناك الكثير الذي لم يكتشف بعد، باستطاعتي أن أقص عليكم حكاية حياتي لتروا أن هذه الأشياء مثيرة، ولكن المهم هو أن هناك توليفا بين الإثارة والترقب إنهما يسيران معا· فإذا رسمت خريطة شيء ما منذ البداية بوضوح، فإن %60 من الإثارة تكون انعدمت، إنه أرض معروفة، فما هو نوع الإثارة فيه؟ ولكن ذلك الذي تقفزون إليه من دون معرفة مسبقة وكاملة بمختلف الخطوات التي عليكم اتخاذها فيه، هو المثير على الأرجح·

المهم هو أنه علينا تصعيد هذا النوع من المبادرة بسبب ذلك النوع من المسؤولية المرتبطة دائما بهذه اليقظة·

اليقظة على هذا النوع من الواقع ليس مجرد نزهة، بل هو من أجل مسؤولية محددة ذات شأن في المساهمة في شفاء على صعيد عالمي يصبح حاسما لمستقبل العالم الذي نعيش فيه، وهكذا، فكلما فتح المرء نفسه على هذا الواقع، كان العالم أفضل· هذا الكوكب ليس شأنا خاصا، إنه مبادرة جماعية·

عن موقع

www.malidoma.com

طباعة  

سامحوني إذا قلت أني أخجل من ارتباط اسمي بجائزة نوبل
بيان لا يوقع عليه سواي

 
تحديث الأنا.. والآخر:
يولد الإنسان في كل مكان مثقلا بالقيود!