رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 26 يوليو 2006
العدد 1738

تحديث الأنا.. والآخر:
يولد الإنسان في كل مكان مثقلا بالقيود!

كتب محمد الأسعد:

لا يولد الإنسان إنسانا، إنه يكتسب إنسانيته اكتسابا، يولد في أسرة أو قبيلة أو أمة محدودا بحدود هذه الواقعة الثقافية تماما مثلما يولد الإنسان محدودا بواقعة إرثه البيولوجي أي مثقلا، بالقيود، وتقف لحظة الميلاد الأول ضد لحظة الميلاد الثاني فهذه الأخيرة محتشدة بالاحتمالات والوعود والتوقعات وبإمكانية تجاوز حدود الواقعة الثقافية واقعة الانتماء  الى الأسرة والقبيلة والأمة، حيث يكتسب الفرد بمجرد الولادة، ومنذ الوهلة الأولى نمطاً، من أنماط الشخصية يجري تعزيزه في البيت والمدرسة والسوق والمجتمع كله بلا هوادة، إنه يكتسب تصورا للآخر في هذه الأماكن نفسها، وفي هذه الأماكن نفسها يجري تعزيز هذا التصور، والحصيلة النهائية هي شكل من أشكال المعايير والقيم يتخذ منحى متدرجا، ويصلح للاستخدام في هذا السياق أو ذاك، ومهما استمد هذا الشكل من معايير وقيم ذات طابع إنساني أشمل فإن له حدودا لا يتخطاها، فإما أن يتوقف عند المرحلة الشهيرة، مرحلة تعتقد فيها الجماعة أنها هي "الإنسانية" وما دونها من جماعات هي "البربرية" وإما أن يتنازل قليلا عن احتكار هذا الامتياز ويعممه على جماعة أوسع في كلا الحالين تظل "إنسانية" الفرد في هكذا جماعات منقوصة إنه واقف دون الحدود حارساً لإنسانية وهمية ضد بربرية الآخر·

قد يتصور بعض الناس إن عملية الاكتساب تسري عبر حدود  الأسرة فالقبيلة فالدولة، وتتوقف بالطبيعة ولكن هذا التصور ناتج، عن واقع مصطنع صنعته العادة والتكرار، إنها في الواقع عملية لا نهائية ولا سبيل الى وقفها ما دام الإنسان يسعى باحثا عن نفسه، أي عن غايته ومثلما أن طالب العلم لم يكن يكرس أستاذاً إلا بعد رحلة شاقة في طلب العلم بين الأجناس والأعراق والأمم، فإن الإنسان قبل هذه الرحلة الشاقة إلى الإنسان فيه يظل في مرحلة الانتماء المنقوص الى عرق أو لون أو مذهب وما الى ذلك، وهي مراحل تصلح للاستثمار السياسي وتنفيع العاطلين عن الإنسانية، إلا أنها لا تصلح منهج نظر وحياة، في هذه الرحلة الشاقة يخرج طالب العلم على المعايير والقيم الخاصة بهذه الجماعة أو تلك الى معايير وقيم متعددة ومتنوعة، وبالمقارنة يصل الى نسبية المعتقدات والآلهة والأعراف، وكذلك يفعل الإنسان الباحث عن ذاته في ما وراء قيود الميلاد، وتحدد له مهمة قد لا تخطر بباله، إنه يكتسب إنسانيته رافضا الاقتناع بصغائر الفروق العائلية والاجتماعية والقومية وملحقا مثلما حلق "جيمس جويس" ذات يوم ليتحرر من ايرلندا "العائلة والمذهب والأرض" متخيلا لنفسه مصيراً غير "ايرلندي" كفنان وإنسان·

بالطبع هذه هرطقة في عرف حماة العروق والأنساب الذين يجاهدون لمحاصرة المولود في أحواضهم الثقافية والسياسية حتى باستخدام التقنيات الحديثة وعرض الصور على شاشة الحاضنة لإيهام المولود أنه في مركز الكون دائما، ولكنها هرطقة لها منطقها الخاص ولها أسلاف يبجلهم الناس الآن ويقولونهم ما لم يقولوا، أو يقيمون لهم أنصابا تقيدهم حرصاً وتبجيلا، إن أسلاف هذه الهرطقة هم حملة الفلسفات والديانات الكبرى·

يروي "كازانتزاكي" في مذكراته هذه الحادثة: كنت محاطا بالكروم وغابات الزيتون ولم يكن القطاف قد حان آوانه العناقيد تتدلى مثقلة  وتلامس الأرض والجو محتشد برائحة أوراق التين·

جاءت سيدة عجوز وتوقفت رفعت أوراق التين التي تغطي السلة المعلقة بذراعها، وأمسكت حبتي تين وقدمتها لي·

سألتها: "هل تعرفينني يا جدتي؟"

نظرت إلي بدهشة وقالت: لا يا بني أعلي أن أعرفك لكي أعطيك شيئاً ما؟ أنت إنسان·· أليس كذلك؟ وكذلك أنا ألا يكفي هذا؟

ما عرفته هذه العجوز لم يأت من تأمل الكتب والأوراق بل من معايشة الطبيعة والبشر، ولعل ما يدهش المعاصرين على الأقل أن يكتشفوا أن نصوص المذاهب الشرقية القديمة مثل الطاوية والبوذية والهندوسية لا تتوجه في تعليمها الى بشر محددي الجنسية أو اللون أو الدين، فهذا أمر ولد فيما بعد وعلى أيدي نهابي تراث هذه النصوص، إن لفظة "الإنسان" هي اللفظة المتكررة دائما لا لفظة "الصيني" أو الهندي أو "العربي" وكذلك هو الأمر مع الديانات الكبرى مثل المسيحية والإسلام التي خاطبت "الإنسان" قبل كل شيء سواء بكلمة "الإنسان" أو "ابن آدم" من دون أدنى اعتبار لحدود مولده العائلي أو القبلي أو القومي، وبذلك خاطبت فيه الإمكانية الكامنة لا واقعه المفروض عليه بحكم الميلاد هنا أو هناك، أي بحكم ظروف تاريخية طارئة رغم أن هذه الظروف الطارئة هي القوالب التي ظهرت في إطارها هذه الفلسفات والديانات، جوهر الخطاب الفلسفات والديانات، جوهر الخطاب الفلسفي والديني  يظل مفتوحا بطبيعة توجه على التجسد خارج المعطى وعلى إعادة التفسير مثلما تنفتح المعزوفات الكبرى تحت قيادة عبقري أوركسترا يمنحها طابعا ويطلق وجوها ممكنة لها·

ولكن اكتساب الإنسانية بالخروج على الشروط المقيدة "شروط العائلة والقبيلة والأرض·· الخ" قد يعني في بعض وجوهه انتزاع الفرد من مكانه المحوري كما يقال عادة أي من المكان الذي يبدو فيه راسخا في مركز الكون وإطلاقه في فضاء بلا جاذبية هذا صحيح إذا فهمنا هذه التعابير مثل "مركز الكون" و"فضاء بلا جاذبية" "فهما سلبيا، إلا أن هذا الفهم خاطئ حتى بمعايير الفيزياء الحديثة التي جعلت المركز في الزمان والمكان يمكن أن يكون في أي لحظة وفي أي مكان وإن من الحماقة أن يتخيل الإنسان إنه في المركز اعتقاد الإنسان أن معناه محكوم بجاذبية ما أو زمان ما لهو عادة من عادات التفكير وليس اتساقا مع قانون كوني، أن معناه كامن في التحرر من الجاذبيات مهما كانت، وهذا يقتضي بالطبع أن يكون مركز جاذبيته  في داخله في شخصيته لا خارجها·

إن تعلق الإنسان بمركز أو جاذبية ما لهو نوع من الضعف لا القوة، القوة تكمن في التحرر وليس في الالتصاق بأي وكر أو كهف أو مرقد اكتساب الإنسانية بهذا المعنى تخفف من أثقال معيقة، ومن روابط تتحكم في التفكير والسلوك واستبدال فضاء الحرية بهذه الأثقال والروابط، فضاء له مآثره وقيمه ولكن بشروط وحدود مختلفة نوعيا هنا لا يوجد "آخر" كضد لـ "الأنا" أو الإنسانية كضد للقومية هنا يسقط حد التضاد لأن الفضاء الذي يمنح الأجساد ثقلها واتجاها ويمنح الكلمات دلالاتها مختلف، إنه أرض أخرى يعرف الناس فيها بعضهم بعضا مباشرة وبمجرد النظر والسماع، لا بواساطة بطاقات التعريف·

إن أخطر ما يعانيه الوعي الراهن من استلاب هو الإيمان بمسلمات لا دليل عليها سوى الإعتياد والتكرار، مثل مسلمة أن يحمل "الإنسان" بطاقة هوية بصورة وبيانات حتى يصبح معروفا، في هذا المثال يستمد الإنسان كينونته وشرعيتها من شيء آخر لا من خصائص متأصلة فيه، من سلطة ما أو حكومة أو هيئة وهذا أمر غريب رغم أن لا أحد يشعر بغرابته حتى هذه اللحظة، اللحظة التي اعتادت فيها "الأنا" على التعامل مع "الآخر" عبر بطاقة الهوية وصورتها، هذه العلامة التجارية العجيبة التي تلصق على المصنوعات والبشر على حد سواء، إنها نوع من السياج الخارجي لتحديد الماهيات وإقامة الحدود وإلقاء البشر وراءها بعيدا عن إنسانيتهم·

لقد اضطر بعض الناس خلال المذابح الطائفية في لبنان الى المطالبة بمحو اسم الطائفة من الهويات الشخصية حتى لا يقتل الإنسان على الهوية واكتشفت الناس كم كان غريبا وخبيثا هذا التقليد الذي درج على وضع كل إنسان في طائفة كما يوضع السجين وراء القضبان، كانت هذه المطالبة نوعا من التحرر واختراق الشرط الطائفي نحو شروط أكثر رحابة، ولا ندري هل تواصل محو الصفات الطائفية أم تمت إعادة الخراف الى الحظائر الطائفية بعد كل هذا الزمن، مهما يكن الأمر، هذا الانتباه الى ضيق الطائفة يتجاوز ظروف الأحداث اليومية العابرة، فحين تحولت الهوية الطائفية الى كمين خطر بدأت المطالبة بإخراج الناس منها، فكم من كمائن هناك مشابهة  تجتاح مساحة الحياة إذا؟ بدءا من كمين العائلة فالقبيلة فالقومية فالدولة؟

إن اكتساب الشرط الإنساني لا ينشأ بالمولد، بل بالرحلة الشاقة التي يتعرف فيها الإنسان على بني جنسه مباشرة، مسقطا اللافتات والعلامات التجارية والهويات، وصولا الى أن كل هذه الصفات المفروضة  ليست هي التي تفاضل بين البشر، بل هناك خصائص أكثر جوهرية ومعايير أشمل، أعني خصائص الذات بما هي عليه، أي بكونها حامل الخير والشر من دون مسبقات، وتلك هي معايير الحق والعدالة الكونية حيث تتساوى الأعراق والألوان والمذاهب، ولا ترتفع أو تنخفض كفة الميزان لأي سبب من هذه الأسباب، بل لأسباب أعمق ذات علاقة بموقف الإنسان من أخيه الإنسان·

عن موقع www.ofouq.com

طباعة  

حكمة إفريقيا
 
سامحوني إذا قلت أني أخجل من ارتباط اسمي بجائزة نوبل
بيان لا يوقع عليه سواي