رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 13 سبتمبر 2006
العدد 1742

أين هو المعنى؟ هل هو في المكتوب أم في القارئ أم بين بين؟

                                 

 

دانيال تشاندلر:

يمكن أن تعرض سلسلة النظريات التي تتناول أين ينبثق المعنى في العلاقة بين القراء والنصوص كحلقات متصلة بين موقفين متطرفين على التوالي، تلك التي ترى المعنى محدداً وتلك التي تراه تأويلا "مفتوحاً" انفتاحا تاماً، على هذه الشاكلة:

1- الموضوعية: المعنى موجود بالكامل في النص "قابل للنقل"·

2- البنائية: المعنى موجود في التفاعل بين النص والقارئ "قابل للتداول"·

3- الذاتية: المعنى موجود بالكامل في تأويلات القراء "قابل لإعادة الخلق"·

وقد يستغرب بعض القراء من أن أي شخص يمكن أن يتبنى واحدا من هذه المواقف المتطرفة كموقف نظري جاد· ولكن هناك منظرون بارزون قريبة مواقفهم على الأقل من هذه الأقطاب· بالنسبة إلى "ديفيد اولسون" وشكلانيين آخرين، فإن معنى نص من النص يحتويه النص، ويجب أن يستخرجه القراء، ونموذج التواصل هنا يعتمد على نقل المعنى من النص الى القارئ، وينظر الى المعنى هنا على أنه شيء يمكن أن "ينتقل" من مرسل الى "متلق منفعل"· ومع انتقال المرء الى قطب آخر يصبح نموذج التواصل أقرب الى عملية "تداول" أو "بناء" (يشار الى هذه العملية على أنها نموذج لعملية بناء أو تفاعل اجتماعي أو إيديولوجي)· في النظريات الشكلانية يقيم المعنى في النصوص· والمعنى في النظريات الإيديولوجية هو تداول بين الكتاب والقراء· ويدفع أولئك الذين يشددون على تداولية المعنى بأن معاني النصوص غير محددة تحديدا تاماً ولا هي مفتوحة انفتاحا تاماً، بل هي خاضعة لضوابط معينة·

ويشير بعض الشراح الى مؤثرات على عملية صياغة المعنى كأن تكون "قراءة تفضيلية"، قد تمثل في النص على شكل "قارئ يتجه إليه النص"، أو قد تنبثق في "جماعات تأويلية" وقد يقبل القراء كأفراد ويعدّلون ويتجاهلون أو يرفضون قراءات تفضيلية مثل هذه، حسب تجربة ونهج وغرض كل واحد منهم· مواقف كل ألوان الطيف هذه تجاه المعنى، تقيم مع النصوص تماثلات ذات صلة بطبيعة الواقع تمتد من النزعة الموضوعية، فنزعة الذات المشاركة، وصولاً الى النزعة الذاتية الخالصة·

إن أي نص لا يمكن أن ينطق بذاته، إنه يحتاج الى قارئ مثلما يحتاج الى كاتب أيضا· وتشدد أبحاث علم النفس الإدراكي وعلم النفس الألسني على نشاط القارئ الإبداعي، ويشرح علم النفس الإدراكي فعل القراءة التأويلية بتعابير "نظرية الخطاطة" وفكرة "الخطاطة" مستمدة من أعمال عالم النفس البريطاني فريدرك بارتليت "1932" الذي عرف "الخطاطة" في كتابه الكلاسيكي "التذكر" بوصفها تنظيما فعالا لردود الأفعال الماضية أو التجارب الماضية، وعرف "بارتليت" الذاكرة بوصفها عملية خلاقة لإعادة البناء تستخدم مثل هذه الخطاطات··· ووفقا لنظرية الخطاطة المعاصرة فإن الخطاطة تعمل عمل الوسيط بين الإدراك والفهم والتأويل والذاكرة فهي بنى تراتبية "أو أطر" لتنظيم المعرفة· وقد أظهرت الكثير من تجارب علم النفس أهمية توقعاتنا في جعل تجاربنا الجديدة ذات معنى· وما الخطاطات إلا تجسيد لمثل هذه التوقعات· وفي حالة القراءة توفر الخطاطات أطر عمل ذهنية تساعد القارئ على "تجاوز المعلومات المعطاة" على حد تعبير "جيروم برونر" حتى أن أكثر النصوص تعلقا بأمور الحياة اليومية تتطلب من القارئ أن يتجاوز ما هو مكتوب بوضوح لكي يمنحه معنى مفهوماً، رغم أننا لا نكون عادة واعين بمدى مثل هذا التأويل في قراءتنا اليومية·

ويرجع القراء الى مخزونات مختلفة من الخطاطات، وهذا الرجوع في جزء منه نتيجة للاختلافات طويلة الأمد نسبيا في الخلفية "في التجربة والمعرفة على سبيل المثال" والاختلافات العابرة نسبيا في وجهة النظر "في الأهداف مثلا"· القراءة بالنسبة للقراء ذوي التجارب هي عملية متواصلة من الاستدلال وتقييم أهمية وصحة النصوص تصل بينها وبين ما سبق من تجربة ومعرفة ووجهة نظر ومتضمنات مأخوذة في الاعتبار·

القارئ أولاً

أمثال هذه الأبحاث النفسية لا تذهب الى أن النص يعني أي شيء يريد منه القارئ أن يعنيه بل تذهب ببساطة الى أنه يجب على القراء إن يستخدموا الخطاطات استخداما فعالا لجعل النص مفهوما وذا معنى، وإن قراء مختلفين قد يستخدمون خطاطات مختلفة وربما يختلفون في تأويلاتهم، فالقراءة ليست "استرجاعاً للمعلومات" سلبيا، وأي نص من النصوص لا يمتلك معنى منفرداً لا يتغير·

بمعزل عن علم النفس، هناك مؤشر آخر على نماذج صياغة معنى نص من النصوص هو "النزعة النقدية لدى القارئ في استجابته" في نظرية الأدب· في العام 1980 كتب "ستانلي فش" كتابا ذا تأثير واسع يحمل عنوان "هل هناك نص في هذا الصف؟"، دافع فيه عن الأهمية الأساسية لتأويلات القراء للنصوص، فالنص لديه ليس نصا من دون قارئ وسياق· وشدد على صياغة المعنى بوصفها عملية لا تشابه عملية "استخراج" لمحتوى، ووضع حدودا لمدى معاني القراء الممكنة بالتشديد على أهمية "الجماعات التأويلية"· بالطبع يعتمد المدى الذي ينخرط فيه القارئ في إنشاء المعنى جزئيا على نوع النص المعني· فبعض النصوص "مفتوح" أكثر من غيره· على سبيل المثال سيتوقع المرء عادة تأويلا فعالاً، من قبل قارئ لقصيدة أكثر من قارئ لدليل هاتف، وقد جادل ديفيد اولسون أنه في المؤلفات العلمية والفلسفية المعتادة "يكون المعنى في النص لا في تأويله"، ولكن "مع أن البعض قد يرى في هذا هدفا" فإن المعاني النصية لا يمكن أن تفصل عن التأويل أبداً·

ويشير رولان بارت في كتابه الشهير "اس- زد" "1970" الى نوعين من الكتابة بالقدر الذي يستحوذان فيه على اهتمام القارئ: قابل للقراءة وقابل للكتابة· النصوص من النوع القابل للقراءة لا تترك للقارئ أكثر من حرية محصورة بين قبول النص أو نبذه· إنها تعامل الكاتب كمنتج والقارئ كمستهلك خاضع، وتفترض أنها "تعكس العالم الواقعي"· أما النصوص من النوع القابل للكتابة فتستدعي مساهمة القارئ الفعالة وتستدعيه أيضا في التفاتها الى الوسيط الألسني، الى الانخراط في إنشاء الواقع·

تفسيرات متعددة

والمفارقة هي أن النصوص القابلة للقراءة هي التي تميل الى أن توصف بأنها مما يمكن قراءته، بينما يشار الى النصوص القابلة للكتابة بوصفها مما لا يمكن قراءته لأنها تتطلب مزيدا من الجهد·

الجدير بالذكر أن تمديد فكرة بارت الى الوسائط الأخرى يمكن أن تكون مثمرة، ويمكن أن تتضمن تقديرات للمدى الذي تذهب إليه هذه الوسائط في اعتبارها وسائط من النوع "المصنوع" أو "الصانع"·

وبالعودة الى القراء والنصوص، فإن درجة انخراط القارئ لا تعتمد على نمط النص وعلى ما إذا كان "قابلاً للقراءة" أو "قابلا للكتابة"، ولكن على كيفية استخدام النص·

فالشعر يتم الاستشهاد به أحيانا لاستخلاص معلومات عن سيرة قائله الشخصية، ويستخدم دليل الهاتف في مناسبات معينة كمصدر للبحث عن الشعر· بالنسبة للقارئ الخبير على الأقل فإن الكيفية التي يستخدم فيها النص ترجع كليا تقريبا الى القارئ· ومن المؤكد أن أهداف القارئ لها الأهمية نفسها التي لمقاصد الكاتب· وهناك تباين في استخدام القراء للنصوص قد يتجاوز نيات مؤلفيها· وغالبية القراء لنص أكاديمي يستخدمونه على الأرجح من ناحية مبدئية لأغراضهم لا لإقامة وترسيخ مقاصد المؤلف وليست هذه الأغراض ثابتة أيضا· فقد نرجع الى نص ونخلص منه الى معان مختلفة اختلافا تاماً في كل مناسبة· وربما يفسر هذا النص الذي تقرأه الآن بطرق متعددة بتعدد أغراض من يقرؤونه·

www.geocities.com/athens/academy

طباعة  

في حرية الأفراد والجماعات والليبرالية وسواها(1-2)
كيف تكون الجماعة خلاقة.. ومبدعة؟