رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 13 سبتمبر 2006
العدد 1742

في حرية الأفراد والجماعات والليبرالية وسواها(1-2)
كيف تكون الجماعة خلاقة.. ومبدعة؟

                                                                                 

 

·      فصل من كتاب "المجتمع الكوانتمي..." مجتمع نظرية الفيزياء الجديدة

 

دونا زوهار:

في هذا الفصل من فصول كتاب "المجتمع الكوانتمي" للفيزيائية البريطانية "دونا زوهار" تحلل الباحثة في ضوء قوانين الفيزياء الحديثة، فيزياء الكوانتم أو الكم كما تدعي أحيانا، وفي ضوء نظرية "فون فاورستر" عن العلاقة بين عناصر نظام من النظم وبين النظام ككل ومسألة العلاقة بين الفرد والجماعة في المجتمع المعاصر·

وفق نظرية "فاورستر" يولد الترابط الصلب بين عناصر أي نظام من النظم، الآلية أو الإنسانية، تصلباً يؤدي الى اغتراب العناصر عن النظام ويقلل تأثيرها فيه، والعكس هو صحيح، فكلما كان الترابط أكثر مرونة ولا تحدداً، كلما كان للعناصر تأثير على النظام وقدرة على الشعور بالانتماء اليه·

أجريت منذ وقت قريب لقاء صحافيا مصوراً للتفاز البريطاني كان لدى  المنتجة صانعة الفيلم أفكار ثابتة ثبوتاً قاطعا، فقد تخيلت مشهدا خاصا أرادت تصويره سينمائيا وكانت مشاركتي تعني تبرير ما يتضمنه المشهد، لقد حددت لي دوراً معينا في نصها المكتوب، وأرادت مني الحديث في نطاق هذا الدور المختار، قالت لي ماذا أرتدي، وأين أجلس، بل ماذا أقول·

وشعرت أن ثمة من يتلاعب بي، ولم أستطع الدخول في الدور ووجدت حين بدأت آلة التصوير بالعمل أفكاري وقد هربت مني ومشاركتي بلا حياة· لو أن المنتجة فهمت نظرية "فون فاورستر" وعلاقتها بالأوضاع الإنسانية لربما أدركت أن لا مفر من هذه النتيجة·

هناك بضعة أوضاع يومية أخرى نستطيع أن نرى فيها هذه الفاعلية وهي تعمل، هناك مشهد زوجين يتشاجران على سبيل المثال فحين يكون كلا الزوجين غاضبا، يظل ثابتا في موقف مواجهة ساخنة وإذا بدأ أحدهما يشعر شعوراً طفيفا بالارتياح فسيبدأ هو "أو هي" بالتفكير تفكيراً لا مفر منه على الأغلب بكيف أن على الآخر أن يتغير أيضا وسينصح أحدهما شريكه بأن "يبتسم" أو أن "لا يحزن" ولكن لمثل هذه الإشارات تأثير عكسي، وسيشعر الشريك "المغترب" وكأنها أمر هو المطالب به وحده، بل سيصبح أشد ثباتا في موقف متخندق· في مثل هذه الحالات يكون من الأفضل بما لا يقاس عدم مس مزاج الآخر وفعل شيء آخر لا يمس الموقف مسا مباشراً·

في مثال آخر حين ينشأ توتر في مجموعة من الناس بسبب سلوك فرد أو أكثر من أفرادها يصاب الآخرون بإغراء التركيز على هذا السلوك والمطالبة بأن يتغير ولكن حين يجد شخص قلق أو محبط نفسه موضع تركيز، يصبح هو "أو هي" ثابتا على هذا النسق من السلوك  وسجين دور، ويظل مغتربا عن المجموعة، ولكن الأشياء تتحسن عادة إذا أمكن للمجموعة أن تتعلم التواصل فيما بينها تواصلا غير مباشر، وأن تتعلم مجرد أن تظل مجتمعة من دون تركيز على أي فرد من أفرادها وحينئذ سيعود الى الانبثاق إحساس الأفراد بتلاحم مجموعتهم على الأرجح·

اللايقين

في كل هذه الحالات (اللقاء الصحافي والعلاقة الحميمة والمجموعة) يمكننا رؤية أن التحددية المبالغ بها، أو القسر، تعزل أو "تغرب" الأفراد المشاركين عن المجموعة ككل، وكل هذه الحالات مألوف بالنسبة لنا، وكل واحدة منها شاهد على نظرية "فون فاورستر" وهي تعمل في الأوضاع الاجتماعية· تقول لنا النظرية إن هناك توتراً لا مفر منه بين من هو موضع تركيز أو الثابت أو المتعين أو الفرد وبين الإحساس بالكل أو العلاقة الأوسع، ويذكرني هذا التوتر بـ "مبدأ اللايقين" الذي نجده يعمل على مستوى الواقع الكوانتمي، نحن مجبرون وفق صياغة "هايزنبرغ" الأصيلة لـ "مبدأ اللايقين" على الاختيار بين قياس موقع كينونة كوانتمية "جانبها الجسيمي" أو قياس زخمها "جانبها الموجي"· إن الجانب الجسيمي هو الفرد المتعين الذي يقع في المكان والزمان، أما الجانب الموجي فهو المنتشر "اللا موضعي" الحلولي، ولا يمكننا معرفة كلا الجانبين دفعة واحدة أبداً، وفي نظرية "فون فاورستر" نحن مجبرون على الاختيار بين بنية شديدة الإحكام وبين إحساس بالكل·

ثمة علاقة حيوية داخلية بين نظرية "فون فاورستر" و"مبدأ اللايقين" كما هو سار في النظم الكوانتمية أو في الأوضاع الاجتماعية الإنسانية، وأعتقد أن كليهما يمتلك شيئاً مهما يقوله لنا عن الشروط الضرورية لتعزيز إحساس حقيقي بالجماعة، وكلاهما يؤثر تأثيراً مباشراً على أفكارنا حول الحرية وعلاقة الأفراد الأحرار بالمجموعات الإنسانية أو الوقائع الاجتماعية الأوسع التي هم جزء منها، والحق أنني أعتقد أن الربط بين الاثنين يمنح نظرية "فون فاورستر" انعطافة كوانتمية مهمة تجعلها أكثر قابلية للتطبيق على الأوضاع الاجتماعية الإنسانية·

جانب أحادي

لقد تمت صياغة نظرية "فون فاورستر" نفسها أصلا لوصف سلوك نظم التحكم الذاتي، وهي نظم تحقق نوعا من سيطرة داخلية تضمن اتزانا بين عناصرها بوساطة التبادل الحر للمعلومات بين الأجزاء (مثال ذلك نظم تدفئتنا المركزية ومعظم نظم تقنية المعلوات والكثير من وظائفنا الإحيائية)·

وتبدو هذه النظرية بالنسبة لتصوراتنا المحكومة بالنزعة الآلية وكأنها تعاكس الحس السليم المشترك·

فهي تحاجج بأنه إذا تحدد عنصر من عناصر نظام من الأنظمة تحديداً صارماً وتم تثبيته تثبيتا صارماً في مكان فإن هذا العنصر يفتقد علاقته بالكل إنه يصبح منعزلاً أو "مغتربا" وعلى العكس من هذا كما تقول النظرية، كلما كان سلوك أي عنصر من عناصر نظام من الأنظمة  أقل ثباتا أو أكثر تقلبا، أضحى تأثيره أعظم على النظام ككل وبديهياتنا الآلية تجري على الضد من هذا·

دافعنا الآلي، هو أن أفضل كلية لنظام من النظم هي تلك التي يحددها "تثبيت" كل قطعة من قطعه في مكانها· وتقوم نظرتنا إلى عناصر الأوضاع في غالب الأحيان أو كلها على أنها متصل بعضها ببعض مثل اتصال المسننات بالدواليب في آلة من الآلات· ونعتقد أن كل سن يؤدي أكثر أدواره كفاءة ً في الآلة إذا تطابق مع مكانه تطابقا محكما· وهذا مافكرت فيه منتجة التلفاز حين اعتقدت أنها تستطيع تأمين تكامل فيلمها على الوجه الأفضل بتحديد دور كل مشارك تحديداً صارماً· لقد شعرت بأنها لو سمحت للمساهمات الفردية أن تكون أكثر عفوية، فلربما أصبحت  "مشو شة"، وقد لا تساعد هكذا مساهمات على ظهور كلّ  متلاحم ·

وفي علاقاتنا الاجتماعية كثيرا ما نشعر أن البنية الاجتماعية الصارمة، أو السيطرة السياسية المتينة ، أو القواعد البيروقراطية المفصلة، أو تأكيدا  قويا  على أدوار اجتماعية محّددة تحديدا ً  وافيا ً، هي أمورٌ ضرورية لضمان أن يعمل الكلُّ بسلاسة·  وتشترك  "نظرية فون فاورستر" و"مبدأ اللايقين" في الدفع بأن أقل مايمكن قوله عن هذا النوع من التفكير هو أنه أحادي الجانب·

ما يدفعنا إلى تثبيت كل شيء في مكانه كي نضمن أن يعمل الكل معا، هو دافع من دوافع السيطرة· وهذا الدافع متصل بالطريقة التي تقبض بها المخيلة الآلية على السلطة  فالأشياء يتم إدراكها، وكذلك الأفراد، على أن بعضها متصل ببعض بوساطة القوة، والقوة أداة من أدوات السيطرة·

إننا نستطيع إدخال الناس قسراً في بنية من النوع المحكم إحكاما  شديداً، تماما  مثلما تستطيع القوى الكيميائية دفع الجزيئات لتنتظم في شبكة بلورية محكمة · فمجتمع منظم تنظيما عاليا  قائم على أدوار اجتماعية صارمة، أو جيش منضبط انضباطا عاليا ذو بنية هرمية محكم ، هما نوعان من المكافئات الاجتماعية لشبكة من الشبكات البلورية حيث تمتلك كل بلورة من البلورات درجة عالية من الانتظام، ولكن كل جزيئي في شبكة بلورية يظل منفصلا  انفصالا  لازما عن غيره· إنه لايرتبط بالكل إلا بوساطة قوى خارجية· إنه "مغترب" بتعبير "فون فاورستر"· وفي البنى الاجتماعية المكافئة للشبكات البلورية والخاضعة للسيطرة المحكمة يمتلك الأفراد تأثيرا ضئيلا جدا على المجموعات التي هم جزء منها· ويتحقق تلاحم ُ مجموعة مسيطر عليها مثل هذه على حساب الحرية الفردية، تعبيرا  أو تأثيرا، وغالبا  مايتمرد أفراد مجموعة مثل هذه· وشيوع  كلّ  من الفساد والعصيان في النظم الاستبدادية أكثر من شيوعه في النظم الديمقراطية، ومن المعتاد أن تكون اقتصاديات النظم الاستبدادية أقل عافية ً لأن أفرادا خاضعين لسيطرة محكمة يظهرون روح َمبادرة أقل، ويعملون بجدية أقل· وسأحاجج لاحقا  بأن الأمر نفسه يسري على البيروقراطيات الصارمة·

ذوات ليبرالية!

بالطبع، ظهرت النزعة الليبرالية تحديدا لترد  على وتناوىء مثل هذه السيطرة الطاغية المحكمة غير الخلاقة· وهي تحاول، متقدمة على غيرها من الفلسفات المعاصرة، تعزيز البصيرة القائلة بأن البنية المفروضة فرضا والسيطرة الصارمة تكبحان و تغرّبان الأفراد موضع السيطرة ، وتقاوم مقاومة قوية أية قواعد اجتماعية مقيدة، سواء كانت مما رسخته تقاليد موروثة أو بيروقراطية من البيروقراطيات· إن استعارة النزعة الليبرالية المركزية هي "العقد الاجتماعي"، تلك الأداة المتخيلة التي يتفق الأفراد المستقلون الأحرار بمقتضاها على أدنى حد من التعاون الضروري بينهم، وما بعد هذا الحد الأدنى من التعاون ، كلُّ   فرد حرٌ في أن يتعاون أكثر أو يتنافس وفق مايراه (أو تراه) الأفضل لمصلحته (أو مصلحتها)  ويُنظر إلى كل واحد منا في مجتمع ليبرالي مثالي  على أنه ذات  منفصلة عن غيرها من الذوات مثل العناصر المنفصلة في نظام تحكم ذاتي ، وقد مُنح كل واحد منا أقصى حد من الحرية ليسعى نحو غاياته ، وتأمن له حق الاتصال الحرِّ  بكل الذوات المنفصلة الأخرى· بل الأكثر من هذا، من المفهوم أنه ليس على أحد منا التفكير بأي شيء سوى أغراضه (الأنانية) · ليس لأحد أي دافع  "أعلى" يدفعه لخدمة خير الكلّ· والحق وفق هذه النزعة هو أن المجتمع ما وجد إلا لغرض وحيد هو تسهيل الوصول الى غاياتنا وأغراضنا الفردية·

ومع ذلك فإن النزعة الليبرالية تؤكد على أننا نحن الأفراد المتواصلين بحرية سنحقق بطريقة أو بأخرى، بوساطة نوع من عملية اتزان ذاتي غامضة (عملية تحكم ذاتي)   "تناغما  طبيعيا  بين المصالح"· فكل واحد منا خلال سعيه نحو "رذائله الخاصة" سيخدم الصالح العام غير عامد وبطريقة بالغة الخفاء تقريبا· مثل هذا التفكير كان أساس إيمان الاقتصادي "آدم سمث" بأن "يدا خفية" تهدي المساعي الأنانية لمنظم أعمال في سوق حرة· إن منظم الأعمال المثالي الذي يفكر فيه "سمث" يخدم مصالح تتجاوز مصالحه مرغما  إلى حد ما:

"هو لايستهدف في واقع الأمر تعزيز المصلحة العامة ، ولا يعرف إلى أي مدى يقوم بتعزيزها بعامة··· أنه لايستهدف سوى مكاسبه الخاصة  وفي هذا، كما في عدد من الحالات الأخرى، تقوده يد خفية نحو تحقيق غاية لم تكن جزءا  من هدفه"·

وبالفعل، كان القول بأن الفرد يسعى نحو مصالحه الخاصة  "حاسما" في النظرية الليبرالية بالنسبة لسمث والليبرالين الكلاسيكيين الآخرين، وكان هذا يقع في جوهر تعريفهم للحرية · فالحرية الوحيدة التي تستحق اسمها كما يقول "جون ستيوارت مل": "ليست سوى سعينا وراء صالحنا بطريقتنا الخاصة بنا":

"لا يمكن أن تتقدم الحضارة إلا إذا تُرك البشر ليعيشوا كما يرغبون" في المسار الذي لايعنى سواهم "ولن ترى الحقيقة النور مع الافتقار إلى سوق حرة للأفكار، ولن يكون هناك مجال للعفوية والتفرد والعبقرية والقدرة الفكرية والشجاعة الأخلاقية ، وسيسحق المجتمع َ ثقل ُ  "جماعية" متوسطة القدرة·

وآمن "آدم سمث" بأن ضرراً أكيدا قد ينتج إذا وضع منظمُ سوقه الحرة نصب عينيه خدمة الصالح العام لاخدمة صالحه هو ، ودفع بأن (المنظم ) "في سعيه نحو مصلحته يعزّز دائما  مصلحة المجتمع تعزيزا ً فعالا  أكثر مما يفعل حين يقصد تعزيزها فعلا ولم أعرف أبدا خيرا كثيرا  حققه المدفوعون بعاطفة العمل التجاري من أجل الصالح العام"·

 

طبعة أمريكية

 

الحرية الفردية بالنسبة للنزعة الليبرالية الكلاسيكية هي القيمة الأعلى بين القيم،  والغرض النهائي هو السعى وراء الغايات الفردية · و "المجتمع"، بالقدر الذي يكون فيه مأخوذا  بالاعتبار، هذا إن تم أخذه بالاعتبار، هو حلبة محايدة تجري عليها أحداث مسرحية هذا المسعى المثيرة·

"الحرية"، كما يقول عالم الاجتماع "روبرت بيلا" وزملاؤه في حديثهم عن الطبعة الأمريكية للنزعة الفردية الليبرالية: "مازالت تمتلك بالنسبة للكثيرين منا معنى حق الفرد في أن يترك لشأنه" وينظر إلى "الصالح الاجتماعي" الأعلى كتوازن دقيق بين مصالح ذاتية متبادلة، كمحافظة على حق أن تُترك لشأنك·

 وتحتضن النزعة الفردية اللبيرالية نظرة ً إلى الذات بالغة الخصوصية· الأمر الحاسم بالنسبة لهذا النموذج هو ما يدعوه "جون راولز"، "الاختلاف بين الأشخاص" أو ما يطلق عليه "روبرت نوشك" "تعبير" واقعة انفصال وجود كل واحد منا عن وجود الآخر· وهذه هي في الجوهر نزعة العقيدة الليبرالية الذرية· ولايقتصر الأمر على انفصال كل ذات عن الذوات الأخرى بل يضاف إلى ذلك أن للذات الليبرالية أسبقية أيضا  على كل غاياتها وارتباطاتها· فــ "أنا" لست أما  أو زوجة· و"أنا" لست علاقاتي بعائلتي وأصدقائي· و"أنا" لست أدواري الاجتماعية أو التزاماتي المهنية أو ولاءاتي الوطنية، بل "أنا" لست حتى منجزاتي أو خصائصي الأخلاقية، ولست صفاتي الشخصية، فما هذه جميعا  إلا خصائص "طارئة" وليست خصائص جوهرية لذاتي · "أنا" شخص فردي ومنفصل ، ومصدر كل حقوقي مجرد واقعة أنني أنا·

ويستطيع الأفراد الليبراليون، شأنهم في ذلك شأن الذرات التي تستطيع أن تترابط سوية في الجزيئات ولكنها تظل دائما غير متغيرة بذواتها، المشاركة في المجتمع، بل حتى التأثير فيه، إلا أن المجتمع لايستطيع التأثير فيهم "إن افتراضات ثقافتنا الفردية" كما يعلق "بيلا" وزملاؤه في حديثهم عن الأزمة الاجتماعية الأمريكية: "تقودنا إلى الإيمان بأننا نستطيع أن نحيا كما نشاء، مستخدمين المؤسسات الكبيرة  (مؤسسات الدولة أوالشركات أو المنظمات التي نعمل فيها أوالمدارس التي نتعلم فيها) لتحقيق أغراضنا من دون أن تؤثر فينا هذه المؤسسات تأثيرا  جذريا"·

وتقودنا أمثال هذه الافتراضات مباشرة إلى ما أطلق عليه "كريستوفر لاش" تعبير "الثقافة النرجسية" إننا لانهتم إلا بأنفسنا وأهدافنا وعواطفنا، وماعدانا من أشياء أو أناس مجرد وسائل لإشعارنا بأننا على مايرام· أننا نستغرق في أنفسنا ونضيع في أنفسنا لا لشيء إلا لنجد بأننا محكوم علينا أن نكون لأنفسنا في نهاية المطاف·

 

لاعب في لعبة

 

إن أي "مجتمع" فردي النزعة ، ليس جماعة ً بالمعنى الكوانتمي الذي ناقشناه في الفصل السابق، ولا هو كلٌّ  انبثاقي تكتسب فيه الأجزاء خصائص جديدة خلال مشاركة خلاقة في شيء أوسع من ذواتها· إن "اليد الخفية" التي تحدث عنها "آدم سمث" ليست انبثاقية إلا بالمعنى الفضفاض ، بمعنى أن تظهر أنساق ٌ عامة أو قوانين غير متوقعة أو غير واردة في الحسبان ظهورا مفاجئا أو تصبح عرضة للملاحظة· حساب ُ الوقت، على سبيل المثال، هو صفة انبثاقية تظهر حين يتم تجميع أجزاء الساعة بالطريقة الصحيحة · وقانون "البقاء للأصلح" الظاهر في علم الأحياء الداروني، أو قوانين الديناميكا الحرارية التي تصف سلوك النظم الآلية، هي انبثاقية بهذا المعنى أيضا· ولكن الافراد المشاركين (أو الذرات) في هذه الأنساق الانبثاقية لا يتغيرون بحد ذاتهم· الفرد بصفته هذه لا يتطور، والسن في ساعة من الساعات يظل سناً، ويواصل كلب ٌمن الكلاب البحث عن طرق ليضمن ديمومة حياته الفردية سواء حدث أو لم يحدث إن كان هو الأصلح للبقاء بين الحيوانات·

يظل الفرد مثلما كان (أو كانت )، ويظل مغتربا  عن أي نسق انبثاقي، جاهلا به، ولا يشكل النسق باعثا من بواعثه: إنه مجرد لاعب في لعبة أو ممثل في نص مسرحي ما  لايعي (أو لا تعي) اللعبة أو المسرحية  وعلى نحو مماثل، فإن الفرد الليبرالي غير محدّد على الإطلاق بوساطة علاقته (أو علاقتها) بالآخرين أو بأعمال اليد الخفية · إن "المجتمع" في أي نموذج آلي مثل هذا يمكن اختزاله دائما  إلى مجموع ما نكوّنه، نحن الأفراد ومصالحنا الخاصة·

نحن كذوات ليبرالية لا نكتشف ذواتنا أو نبدعها بوساطة الجماعة، فليس هناك سياق ذو معنى تتضح فيه وتزدهر عفويتنا وفرادتنا وعبقريتنا· إننا راقصون من دون أي رقصة· بل على الضد من هذا، كما يقول الفيلسوف البريطاني "آشعيا برلين": "مايتأتى (من هذا النوع من التفكير) هو أنه لابد من رسم حد بين مجال الحياة الخاصة ومجال السلطة الاجتماعية" ويعني بهذا أن التفكير الليبرالي يفرض حدا  صارما  بين المجالين· ويوسع معظم الفكر القائم على النزعة الفردية هذا الحد ليستبعد "كل" الحياة الاجتماعية· وبوصفنا أفرادا  ليبراليين صارمين فإننا نقف وحيدين ، ونقارع المجتمع في غالب الأحيان· نحن لسنا أعضاء حقيقيين في أي جماعة، والجماعة ليست جزءا  منا، وهي لا يتأتى لها أن  "تدخل فينا" لتصبح جزءا  من هويتنا كأفراد · نحن مغتربون عن الكل (وعن جوانب مهمة من ذواتنا كما ستُظهر مناقشتي) · الذات الليبرالية الفردية التي لها الأسبقية على كل غاياتها وارتباطاتها لا يمكن أبدا أن تكون إلا ماهي عليه· فحريتنا في السعي وراء غاياتنا وأن نكون أنفسنا لايمكن أن تعلو بنا أبدا إلى أي شيء يعلو على ذواتنا· إنها حرية "خارجية"· وبهذا المعنى أدفع بأننا، كذوات ليبرالية، نمتلك حرية محدودة· إننا نمتلك مايدعوه "آشعيا برلين"،  "حرية سلبية" أو "حرية ً من ···" ولكن ليس "حرية صيرورة"· إننا نمتلك متحققا  ولكننا لا نمتلك ممكنا·

 

الليبرالية الكلاسيكية

 

مؤسسو النزعة الليبرالية امتلكوا رؤيا عظيمة، فهم لم يكونوا أنانيين بذواتهم، أو رجالا  ساعين من أجل ذواتهم· لم يكونوا لا مبالين، لاتجاه الرفاه الشخصي ولاتجاه الخير العام، ولكنهم رأوا أن أفضل من يخدم هذا الرفاه وهذا الخير هم أفراد ذريون أحرار يخدمون أنفسهم· لقد كانوا يقومون برد فعل ضد مجتمعات زمنهم المغرقة في تقليديتها بالطريقة نفسها التي رد  بها "نيوتن" على قيود علم القرون الوسطى الأرسطوطاليسي· ومثلما كان لنيوتن شخصيا ما يسنده في إيمانه المسيحي العميق ، كان لدى مفكرين من أمثال "لوك" و"مل" قيمهم الاجتماعية العميقة الموروثة على النحو نفسه· واستطاعوا كما أشار الحاخام "جوناثان ساكس"، "التسليم بدرجة عالية من درجات الأخلاق المشتركة والإيمان المشترك من دون أن يكون عليهم التفكير تفكيرا مبالغا  فيه بالمؤسسات التي تسندها ولكن مساهمة هذه القيم الموروثة المشتركة في بناء فلسفتهم السياسية ليست بأفضل من مساهمة الإيمان المسيحي في بناء الفيزياء الكلاسيكية، فكلا البنائين، النزعة الليبرالية الكلاسيكية والفيزياء الكلاسيكية، بسبب من طبيعتهما، ماكان بوسعهما سوى ترك أتباعهما في حالة من الخواء الروحي، لأن المجتمع الليبرالي من حيث الجوهر لا يمتلك "ذاتا عليا" أي بعد الأنا الأعلى، والفيزياء الكلاسيكية لا تمتلك بعدا ً  روحيا· المجتمع الليبرالي ملتزم بالحرية الفردية، ولكنه لايمتلك التزاما بواقع اجتماعي مشترك· وتحت تأثيره هنالك خطر أن نصبح مناوئين لكل تراث مشترك· ويحاجج نقاده أيضا  بأن الحريات الليبرالية في أغلب الأحوال تفيد الرابحين في هذا المجتمع أكثر مما تفيد الخاسرين فيه·

 

طريقة أخرى

 

بالطبع هنالك تراث لمفكرين سياسيين مضاد، رفضوا الفكرة القائلة بأن أفضل ما يخدم الفرد هو أن يخدم نفسه (أو نفسها)· ويتعلق هوى هذا التراث المعروف في شكله المعاصر باسم "النزعة الجماعوية" بأسطورة مختلفة تماما· حجة أصحاب هذه النزعة هي أن الكائنات الإنسانية عاشت دائما في مجموعات ، ونحن بحاجة إلى أن نفعل الأمر نفسه· نحن لانمتلك، كما يعتقدون، طبيعة جوهرية أو ثابتة في ذواتنا، إنما ننشيء سلوكنا وسماتنا الشخصية بوساطة كوننا أعضاء في الجماعة · الــ "نحن" أساسية أكثر من "الأنا"· من كبار مفكري هذا التراث التاريخيين، "هيجل" و "ماركس" بل حتى "أرسطو" ربما، ويدخل فيه فلاسفة ما بعد - الحداثة في القرن العشرين من أمثال "فتجنشتاين"·

يرى أصحاب هذه النزعة الجماعوية أن إحدى وظائف المجتمع السياسية المهمة هي التربية أو إعادة التربية لأعضائه الذين يعانون من نقص في التكيف إلى أن يصبحوا قادرين على العثور على وجودهم "الحقيقي" أو "حريتهم" الحقيقية خلال المشاركة مشاركة تامة في الحياة الجماعية من حولهم· وفي هذا يقول "هيجل": "يدين الإنسان للدولة بكل مايجعله إنسانا، ولايستطيع أن يجد جوهره إلا فيها· فكل مالديه من قيم ومن واقع روحي لا يمتلكه إلا من خلال الدولة· وبإمكان المرء القول إن الدولة ليست قائمة من أجل المواطنين، بل هم الوسائل وهي الغاية"·

ومع أن ماعناه "هيجل" هو أن تكون "الدولة" حياة الجماعة الأخلاقية المنظَّمة تنظيما سياسيا، وليس سلطة من السلطات البيروقراطية، فمن السهل رؤية كيف أن انحيازه للجماعوية قد يستخدم لتبرير القسر·

هناك مفكرون آخرون من ذوي النزعة الجماعوية أحلوا "كنيسة" أو "عقلا" أو "مخططا اجتماعيا للعمل" محل الدولة، إلا أنهم جميعا مجمعون على وجود نوع من حقيقة أفضل أو طريقة للحياة واعدة أكثر علينا جميعا أن نطمح إليها إذا كنا بصدد تحقيق ذواتنا· ويثير هذا النوع من التفكير لدى عدد كبير منا إشارات منذرة بالخطر بالغة الوضوح· فهذه "الحرية" في فعل ما يعتقد آخرون أنه الأفضل، لاتعدو كونها، كما يقول "آشعيا برلين"، "قناعا خادعا لطغيان وحشي": "··· أن تتلاعب بالبشر، وأن تدفعهم دفعا نحو غاياتك التي تراها أنت (المصلح الاجتماعي) ولكن التي قد لايرونها، معناه التنكر لجوهرهم الإنساني، ومعاملتهم معاملة أشياء بلا إرادة مستقلة، ومن ثم الحط من قدرهم"·

إن الهدف المرغوب به لأفراد أحرار يحظون عبر حريتهم بإحساس خلاق بالكل وإحساس خلاق بذواتهم (إحساس خلاق بالانتماء) على حد سواء، لاتقود إليه لا  "حرية من"··· الخارجية للفرد الليبرالي الذري، ولا حرية الجماعوي الكاذبة في أن يصبح هذا الشيء المعين أو ذاك مما يعتقده آخرون "خيرا"· إن الفرد الليبرالي لاينتمي إلى أحد ولا إلى شيء من الأشياء · هو (أو هي) جزيرة منعزلة  "منطوية على ذاتها ولذاتها" كما وصفه الشاعر "جون دن"، ولا يمتلك مواطن المجتمع الجماعي أو الجماعوي شيئا سوى إحساس بالكل، وما "حرية من أجل ···" المزعومة التي يمتلكها ( أو تمتلكها )  في الحقيقة سوى تضحية بكل حرية شخصية·

 

 *ترجمة عن كتاب:

المجتمع الكوانتمي: فيزياء جديدة للوعي والفكر،

دونا زوهار وايان مارشال، 1994

طباعة  

أين هو المعنى؟ هل هو في المكتوب أم في القارئ أم بين بين؟