رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 27 سبتمبر 2006
العدد 1744

في حرية الأفراد والجماعات والليبرالية وسواها "3"
التوازن الخلاق بين الأنا والآخر.. والواقع والممكن

                                        

 

في هذه الحلقة الأخيرة من أحد فصول كتاب "المجتمع الكوانتمي" تواصل دانازوهار تعميم نتائج مكتشفات فيزياء الكم على العلاقات الاجتماعية والسياسية·

 

ويبدو أن فاعلية من الفاعليات التي رأينا "بيتر بروك" يصفها في عمله كمخرج مسرحي توضح كل هذا توضيحا  تاما· فهو يلاحظ في سياق حديثه عن رغبة بعض الناس في رؤية المشاهد المسرحية يصمّمها رسامون أو نحاتون كبار مسبقا، أن تصميمات ثابتة مفروضة من الخارج مثل هذه تقيد نتاج العمل المسرحي في معظم الأحوال، بل تسلبه الحيوية:

"إن تصميما غير مكتمل أمر ضروري، تصميما يمتلك وضوحا  من غير تصلب، تصميما يمكن أن يدعى" مفتوحا  "بوصفه نقيض" المغلق·· وسيفكر مصمّم ٌ للمشاهد المسرحية حقيقي  بتصاميمه كما لو أنها طيلة الوقت في حالة حركة وفعل، وفي علاقة بما يأتي به الممثل إلى المشهد وهو يتبدى للعيان· كلما اتخذ قراراته لاحقا، كلما كان الحال أفضل"

وبالطريقة نفسها، تشبه العديد من حالات التواصل الملتبس بيننا، والعديد من مشاعرنا الملتبسة، ببركة خلفية محملة بالعلاقات الممكنة التي يمكن أن تصبح مع الزمن أكثر تحدّدا حسب الظروف· وتؤدي أساطير وخرافات وآداب ثقافة من الثقافات غرضا مماثلا· فهي مشتركة ولكنها متعددة الوجوه، تحتشد بالمعاني الممكنة والتفسيرات المتعددة، ويمكن أن يعاد تفسيرها كلما تطور الناس وتغيروا· وتسمح المعاني المزدوجة أو الملتبسة في الكلمات والجمل للمعاني المشتركة بأن تتشكل، ومثل هذا الالتباس وهذه الثنائية أمران أساسيان لتمكين العلاقات الاجتماعية الخلاقة من الانبثاق· و كل واحد منا، والذي هو في وقت واحد معا، فرد وعاشق، فرد وأب أسرة، فرد وعضو في مجموعة معينة مختارة، جرّب خاصية الهوية الإنسانية الفردية / العلائقية ذات الحد المزدوج هذه· وأذهب كما طرحت ُ في مناقشتي إلى أن طبيعة وعينا الكوانتمية هي ما يجعل هذه الخاصية ممكنة·

 

تعزيز الجماعة

 

السؤال الذي يطرحه أي تثمين للدور الذي يؤديه الالتباس وتؤديه اللاتحدّدية في حياتنا، للدور الذي تؤديه حريتنا الداخلية في الصيرورة، هو كيف نستطيع تعزيز هذا الدور؟ وماذا يستطيع كل واحد منا أن يفعل بالملموس في حياته (أو حياتها) لتجسيد كوامن طبيعتنا ذات الجانبين الفردي (الجسيم) والعلائقي (الموجة) تجسيدا  تاما؟ كيف يمكننا أن نعيش حياتنا، بحيث تكون هذه الحياة ملكنا ملكية تامة ومتجسدة تجسدا تاما  عبر علاقة بالآخرين في وقت واحد معا؟

على مستوى السطح البسيط ، ومهما كان من شأن طبيعتنا الداخلية، لا بد أن نسمح لذواتنا بدرجة عالية من الحرية كما رأينا· ولايجب أن تفرض المؤسسات التي نقيمها في المجتمع سيطرة ً خارجية بالغة· فمن المحال "فرض" إحساس بالكلّ الشامل على أفراد· ولا نستطيع وضع وصفة لتحقيق الحالة الإبداعية، لا نستطيع تحديد قواعد صلبة ومتينة لتحقيق حلولية انبثاقية· ولا نأمل، كما يفعل صاحب النزعة الجماعية، تحقيق إحساس بالجماعة بوساطة نوع من مخطط عمل اجتماعي كبير يشرّع لمبدأ اقتصادي صارم أو لسياسة تربوية "تنشره اجتماعيا"· ولكن تجنب هذه الشراك لا يضمن الحرية إلا بمعناها الخارجي، إنه يمنحنا في أحسن الأحوال الحرية التي تستهوي النزعة الفردية الليبرالية، وهي حرية لا تصلح بحد ذاتها لتنمية جماعة· الحرية الخارجية ضرورية إلا أنها ليست شرطاً كافيا  لتعزيز الجماعة· علينا من أجل تعزيز جماعة أن ننمي حريتنا الداخلية أيضا، حرية صيرورتنا خلال العلاقة بالآخرين· وهذه الحرية الداخلية  متصلة  بخصائصنا  اللامتحدّدة، بتلك الجوانب من  ذواتنا التي تظل غير ثابتة، ومن هنا تمتلك حرية الدخول في علاقة متبادلة مع الآخرين·

 

ننظر الى أنفسنا

 

لقد رأينا في التقنيات الكوانتمية أن توازن التحدّدية واللاتحدّدية (توازن الجسيم / الموجة أو الفردي/العلائقي) يهدده القياس· فإذا أردنا الحفاظ على الالتباسات الخلاقة للأوضاع الاجتماعية، وبهذه الطريقة ننمي تلك الثنائيات التي تتيح لنا المشاركة في الواقع الاجتماعي الانبثاقي، يجب أن نتجنب الى مدى معين ما يكافئ القياس على الصعيد الإنساني· القياس لدى الفيزيائي هو طريقة "إطلالة" على الوضعية· ورأينا أن الطريقة التي ننظر بها الى نظام من النظم في المجال الكوانتمي تحدد جزئيا ما سنراه· فإذا أعددنا تجربة لقياس السمات المميزة لشبه الموجة لكينونة كوانتمية، فإن ما سنراه سيكون موجة، وإذا أعددنا تجربة لرؤية السمات المميزة لشبه الجسيم، فإن ماسنراه سيكون جسيما· وأعتقد أن الأمر نفسه ينطبق على سماتنا الشخصية الثنائية· وأعتقد أن الطريقة التي "ننظر" بها إلى ذواتنا تحدّد جزئيا  ما نحن عليه، ما صرنا إليه· إن مدركاتنا تسبب ظهور واقعنا الشخصي· هويتنا واقع يتم إنشاؤه كما يقول "بيتر بيرجر" في حديثه عن الهوية: "لا يعرف البشر ذواتهم فقط، بل يجسدون هذه التعريفات عمليا في التجربة الواقعية: إنهم يعيشونها" وتحدّد الطريقة التي ننظر بها إلى ذواتنا، أي الطريقة التي ندرك بها ذواتنا، مناهج سلوكنا· وأعتقد أن السلوك هو ما يكافئ القياس على الصعيد الإنساني· ومن جانب أخر تحدد مناهج السلوك التي نتبناها في أية وضعية، الكيفية التي ستتبدى فيها تلك الوضعية عيانا تحديدا جزئيا· مناهج سلوكنا تمسك بمفتاح الدخول الى القدر الذي نستطيع أن نحظى به من حريتنا الداخلية· إنها تمسك بمفتاح الدخول الى أنواع وحجم العلاقات التي نستطيع أن نحظى بها، ومن ثم الدخول الى أنواع من الجماعات التي نقوم بإنشائها· فإذا تبنيت، على سبيل المثال، نهج النزعة الفردية الليبرالية، فمعنى ذلك أنني أرى نفسي منفصلة عن الآخرين، أبحث في ذاتي عن تلك الخصائص التي تضعني بمعزل، أركز على تلك الأهداف التي أريد السعي إليها من أجل منفعتي الخاصة· إنني أتجنب التعهد بالتزامات مقيدة· إنني أواجه الأوضاع والعلاقات بنهج: "ما الذي يخصني في هذه الوضعية وهذه العلاقة؟"· وبمصطلحات كوانتمية، إنني أنظر الى نفسي بوصفي جسيما، وأصبح "ثابتة" في هويتي، منسحبة ً من شبكة الممكنات الشخصية والاجتماعية التي كانت ملكا  لي قبل أن أتبنى هذا النهج· وبوصفي فردا منفصلا  (جسيما) لن أكون عضوا  فعالا  في أية جماعة· ويشكل هذا النهج خطرا على السياسيين والممثلين والشخصيات الاجتماعية الأخرى· فهم يُشاهدون على نطاق واسع في دور معين، وتصبح أدوارهم قوالب ذهنية جاهزة، فإذا ارتضوا هذا التحديد المتصلب لذواتهم ، وهو ما جعلهم مشهورين أصلا، فإنهم يفقدون ممكنات أنواع إضافية من العلاقات والنمو الكامنة·

من جانب آخر، إذا تبنيت نهج َ نزعة جماعية، فإنني أفقد مشهد نفسي دفعة واحدة· إنني أتخلى عن نفسي لحساب تلك الخصائص المكتسبة عبر علاقتي بالآخرين، وتكون لدي أهدافي المقررة لي بالنيابة عني، ولا ألتمس إلا منفعة المجموعة التي أنا متطابقة معها كليا· إنني أواجه الأوضاع والعلاقات بنهج: "قولوا لي من فضلكم من أنا، امنحوني من فضلكم شعورا بأنني موجودة"· إنني أضحي بنفسي في سبيل علاقاتي· إنني مأخوذة بأدواري الاجتماعية· وبمصطلحات كوانتمية إنني أنظر الى نفسي بوصفي موجة· وأصبح "ثابتة" في موقع غفل من الاسم، منسحبة من شبكة الهوية الاجتماعية والشخصية التي كانت ممكناتي الكامنة قبل أن أتبنى هذا النهج الإيثاري إيثارا  تاما· وبوصفي لا شخصا  مغلوبا على أمره أو فاقدا  للفعالية فقدانا  كاملا  (موجة) فإنني لا أمتلك شيئا  خلاقا  للمساهمة به في حياة الجماعة·

من الداخل

هذان النهجان يمكن تصويرهما بتعابير ملموسة أكثر· تخيلوا أنني بصدد حضور اجتماع· فإذا دخلت على المجتمعين وفي ذهني جدول أعمال ثابت، كأن يكون عرضا أريد من المجموعة أن تصادق عليه، أكون بذلك متبنية لنهج يعني أنني أريد استخدام الاجتماع لتحقيق غاياتي· وعندها سأكون أقل انفتاحا على اقتراحات الآخرين، وأكثر "اغترابا" عن أية فاعلية جماعية تنشأ خلال الاجتماع· إنني أعزل نفسي عن ممكنات الجماعة الكامنة· من جانب آخر، إذا ذهبت الى الاجتماع من دون أفكار أقدمها، وإذا تبنيت نهج أنني سأسمح لنفسي أن تسوقها إرادة المجموعة، فلن أقدم مساهمة خلاقة بصفتي فردا· كلا النهجين لا يفضي الى انبثاق روح جماعة في المجموعة·

إن إحساسا بالجماعة، سواء كان علاقة إنبثاقية بين شريكين في علاقة حميمة أو علاقة ذات نطاق أوسع على مستوى مجموعة من الناس، لا يمكن أن ينبثق إلا حين يقف الأفراد المشاركون متوازنين ليسمحوا للا تحددية الوضعية (الحرية الداخلية) بالظهور عيانا· عليهم، مثل الفيزيائي الذي يساعد الواقع الفيزيائي على التجلي في مختبره، أن يقفوا مستعدين ليكونوا قوابل تجلي واقع الوضعية الاجتماعية· ويتعارض هذا الموقف المتوازن مع الوضوح الصارخ لأي نهج متطرف في ثباته· إنه موقف لايمكن فصله عن الثقة: ثقة بتجلي ممكنات الوضعية الكامنة، وثقة المرء بنفسه وقدرته كفرد على "الإبحار" مع الوضعية بطريقة ماهرة·

وهناك العديد من الأوضاع الاجتماعية في الحياة اليومية التي يؤدي فيها هذا النوع من  التوازن الذي أحاول وصف دوره الخلاق· فأي أمّ سبق لها أن حملت طفلا باكياً تعرف أنها ليست بصدد إكراه الطفل على التوقف عن البكاء (تبني نهج سيطرة) ولا هي بصدد أن تسمح لنفسها بالتحول الى أمّ نافذة الصبر (تبني نهج استسلام)· إن الأمّ تقف متوازنة ويقظة، مستعدة لاستيعاب الموقف، واثقة بمهارتها وبنوع من عقد ضمني بينها وبين الطفل على حد سواء، وهما ما سينبثق منهما حل الأزمة· وأي صديق أو محب يواجه محنة ً كبيرة تلم بشريكه ، يقف متوازنا  بالطريقة نفسها، صاغيا  إصغاء خلاقا، "يكون موجودا هناك" وجودا  خلاقا، لا مسيطرا  على محنة الآخر ولا مستسلما  لها· إن أي طبيب نفسي ناجح يستخدم هذه المهارة يوميا، وهي، كما سنرى لاحقا، الأساس الجوهري لحوار فريد ولهذا الواقع الانبثاقي أو ذاك الذي يستطيع الحوار أن يدفع به إلى الظهور· فلو فرض طبيب نفسي تفسيرا نظريا محكما على ما يتفوه به المريض، فسيجد المريض نفسه (أو نفسها) أقل قدرة على الحديث بحرية· إنه يصبح (أوتصبح) مغتربا وأقل تعاونا·

 

في المفاوضات

 

في أوضاع اجتماعية أقل حميمية يكون هذا التوازن نفسه توازناً  خلاقا بين منهجي سيطرة أشد ثباتا تطرف لدى طرف أو فعالية مسلوبة لدى الطرف الآخر جملة· إنه يستخرج الممكنات الكامنة في أي لقاء بين شخصين أو أكثر، وتقوم عليه أية مفاوضات ناجحة سواء كانت تجارية أو سياسية· فإذا كان طرف من أطراف  المفاوضات ذا نهج بالغ الثبات تجاه المفاوضات، تنهار عادة عملية محاولة العثور على حصيلة مرضية للطرفين معا· وفي المقابل، فإن مفاوضا  مسلوب الفعالية الى حد بالغ، من المرجح أن تغلبه (أو تغلبها) على أمره رغبات الآخرين · بل حتى في المجال الأوسع لشيء مثل انتخابات وطنية، فإن حصيلة ناجحة ديمقراطيا (مثل إجماع حقيقي يعبر عن رغبات الجماعة) تعتمد على وجود عدد مهم من الناخبين الذين شاركوا في الحملة الانتخابية بعقول مفتوحة· فإذا كان الناخبون ثابتين ثباتاً  بالغ الصرامة على مناهجهم السياسية ستصبح الانتخابات مباراة خادعة، وإذا كانوا غير فعالين الى حد بالغ، فقد لا يزعجون أنفسهم بالتصويت إطلاقا، أو سينساقون مجرد انسياق مع أي شيء تقوله جهة استطلاعات الرأي عما تخطط لفعله غالبية الناس·

أنا أعتقد أن الممكنات الكامنة في كل الأوضاع الاجتماعية تنشأ من واقعة أننا أشخاص كوانتميون، من واقعة أن كل واحد منا يمتلك لاتحدّدية (حرية داخلية) قائمة في بنية وعينا· وتمنحنا هذه اللاتحدّدية، حيثما التقينا أو أينما انتظمنا معا  في مجموعات أو جماعات أو أمم، ممكنات الدخول في علاقات متبادلة بين بعضنا البعض، ممكنات أن تعبّر حلولية المجموعة الإنبثاقية عن نفسها·

 

فصل من كتاب "المجتمع الكوانتمي"

داناز وهار دايان مارشال، 1994

طباعة  

في حقول التأويل
هل يمكن أن يقود خطأ المفاهيم الى استلهام سطحي للشعراء وخرق للغة؟!