رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 27 سبتمبر 2006
العدد 1744

في حقول التأويل
هل يمكن أن يقود خطأ المفاهيم الى استلهام سطحي للشعراء وخرق للغة؟!

                                       

 

·     النصوص الشعرية  تسبح في فضاءات شعرية شائعة وليست كشفا أصيلا للواقع

 

محمد الأسعد:

خرق اللغة، أي اختراق معانيها المستقرة، وإنشاء حالة تتخلخل ُ فيها المعاني، دعوتان متلازمتان في المشهد الشعري العربي منذ سبعينات القرن العشرين، وفي بيروت تحديدا، قبل أن تعرفهما كل العواصم والأطراف العربية التي بدأت تستلهم الفضاء البيروتي وما يرجع إليه ويتلقطه من فضاءات فرنسية وأمريكية· وحتى الآن مازلنا نصادف آثار هاتين الدعوتين وما رافقهما من مفاهيم ومصطلحات وتبريرات تستبطن الشعرية العربية الراهنة· ويمكن تتبع هذه الآثار في قصائد يتعمد أصحابها الإنزياح أو الإنحراف عن المعيار اللغوي بوعي أحيانا وبلا وعي في أحيان أخرى·

ماوراء ذلك نية ُ استثارة حقول تأويل تتعدد بلا حدود· أو استثارة شهية الكشف عن عالم يظل بحاجة للكشف، أو اصطناع لغة مغايرة لتلك التي تثقل المعجم الشعري سواء كان تقليديا ً أو مما خلفته حركة التجديد الغضة في بداياتها، أو التعبير عن حساسية جديدة تجاه وبتأثير عالم متغير تمزقت فيه العلاقات المألوفة، ولم تعد الحساسية التقليدية قادرة على التقاط ملامحه·

كل هذا بالطبع جزء من طوفان مفاهيم شغل الصفحات والندوات طيلة ما يقارب ثلاثين عاما ً هنا وهناك، ووجدناه يتلامح إلى هذه الدرجة من النجاح أو تلك في التجارب الشعرية، ولكن من أن دون أن يمتلك جمهورُ القراء الواسع وعيا ً كافيا ً بما يحدث· ولم يكن ممكنا نقديا أن يصل هذا الوعي إلى جمهور القراء، لأن نقاد تلك السنوات لم يكونوا هم أنفسهم على وعي كاف ٍ بمصادر هذا الطوفان أو مراجعه الأصلية، مثلما كان حال الشعراء أنفسهم أيضا ً·         

النصوص الشعرية والنقدية على حد ٍ سواء لم تكن تكشف عن رحلة ٍ إلى ماتحت المنظور التقليدي الواحد، ولا تحت لوحة العالم المألوف، أو تستثير إحساسا ً جديدا ً بالعالم يكتشف فيه الشاعر الجمال ولا يكتفي بتقديم فكرة عن الجمال، بقدر ماكانت استلهاما لفضاءات شعرية شائعة أو ملتقطة من فضاءات شعرية بعيدة· كانت استلهاما ً لمناخات شعرية تشف عن العالم شعريا ً كما التقطته حساسية هذا الشاعر أو ذاك، أي أنها لم تكن كشفا ً أصيلا·

لهذا عدة أسباب، منها ما هو شخصي يتعلق بهذا الشاعر أو ذاك، ومنها ماهو ثقافي مستمد من المحيط الذي تنتشر فوق أمواجه زوارق الشعراء ·

أولا، كان الاستلهام ُ قراءة يتبعها التقاط ُ نافذة رؤية والإطلال منها على المشهد نفسه الذي خُلقت في الأصل من أجل كشفه واستثارة الإحساس به· ومعنى هذا أن الشاعر هنا لايبذل جهدا ً فكريا وشعوريا ً، أي ليس بصدد تجربة تسمح له بفتح نافذته على مشهد مختلف، بل هو شاعرٌ مكتف ٍ بما تكشف لغيره، بتقنية الكشف وبما تكشف عنه، فرح ٌ بالغرابة التي يثيرها في وسط ٍ لم يألف بعد ما تلقطه الشاعر من قراءاته·

ثانياً، كان الاستلهام القائم على القراءة، في مايكتبه المتلقطون من النقاد أو في ما تأتي به الترجمات الرديئة في معظمها، يبتعد بالشاعر وناقده عن الملموس والمحسوس في الطبيعة والحياة من حوله وفي نفسه. لسبب يرجع إلى الثقافة العربية العامة، ثقافة الجمهور، التي أحدثت قطيعة طيلة أكثر من 600 عام بين الشعرية وبين الفلسفة والعلم والدين والمجتمع، أو هي لم تعرف الشعرية إلا كنمط من القول معزول عن كل الأنماط الأخرى· بل وتمتد هذه القطيعة حتى إلى العلاقة بين الشعرية وأسلوب الحياة، فلم يعرف الشعر إلاّ بوصفه "قصيدة" وأسلوب كتابة لاأسلوب حياة أيضاً·

ثالثا، تم هذا الاستلهام ويتم في ظل انفصال تام، ثقافي أيضا، بين القدرات الفكرية· بين القدرة اللغوية المرتبطة بالفكرة والمعنى الملفوظ والصريح وبين القدرات الإنسانية الأخرى مثل السمع والبصر، أي التشكيل في الفضاء غير اللغوي· وتم أيضا في وسط ثقافي عام يقوم على الثنائيات التقليدية ؛ المعنى والقصد الواضح في مقابل الغامض والملتبس، الأنا في مقابل الآخر والطبيعة، السماوي في مقابل الأرضي· في مثل هذا الجو من العزلة لايستطيع الناقد العثور على مرجعية للشعرية خارج "الكلام"، والكلام الذي لابد أن يقول ويعني بالعودة إلى مرجع ما· ومن هنا صعوبة إدراك مبدأ أو أهمية "كيفية القول" رغم كثرة من يتداولون هذا التعبير، وصعوبة إدراك معنى الخلق الشعري· الكثيرون يتحدثون عن "الخلق" الشعري من دون وعي كاف بمتضمناته، أي بوصفه اكتشافا خاصاً بعين شاعر ما يتطلع إلى الوجود وقد خلا ذهنه من المسبقات والذكريات والتحيزات وأسلم نفسه لإدراك من  نوع جديد هو إدراك الطفل الذي يخلق فضاءه بحرية تامة ·

خلال قراءاتي صادفت ملحوظة ً للشاعر "عباس بيضون" أكدت لي ما أذهب إليه وأشعر به وأنا أقف أمام نصوص شعرية أو نقدية عربية مما كُتب منذ ثلاثين سنة وما زال يُكتب حتى هذه اللحظة· تشير هذه الملحوظة إلى غياب نكهة المحسوس والملموس في تجارب شعرية خليجية· وأرجع "بيضون" السبب إلى أنها تجارب تستلهم فضاءات شعرية أخرى شائعة في لبنان وغير لبنان· وأضيف الآن، ولأنها لا تخلق فضاءاتها الشعرية، ذلك الأمر الجدير بجهد الشاعر وحبه وعواطفه، ولا تبذل جهدا جادا في إيجاد قرينة بين "كيفية القول" الذي توليه عنايتها المفرطة  وبين مضمونها الإنساني· ويصل الأمر بهذه التجارب إلى الظهور بمظهر "القول" الذي يقول الشاعر لا العكس· كما لو أن هناك خطابا ً شعريا ً يقوم في مكان ما يتوزعه الشعراء ويتنافسون على الأخذ بهذا الطرف منه أو ذاك· بالضبط كما لو كان "الشعر" هو ذاته الذي وصفه "الفرزدق" لأحد المبتدئين، الجمل البازل الذي تقاسم أجزاء جسده الشعراء السابقون · الفرق هو أن هذا الجمل البازل المعاصر مازال يتناهبه الشعراء المحدثون·

وذكّرتني ملحوظة بيضون " أيضا ً بذلك الخرق الذي  رآه شاعر في فعل شاعر آخر في اللغة  فاستحسنه وبدأ يحاكيه بحجة أنه جدير بالتوسيع!· كان هذا في أوائل السبعينات· وأتساءل الآن: هل يمكن أن يقود خطأ المفاهيم إلى كارثة استلهام من هذا النوع تعم الشعرية العربية، وتبعد الشعراء عن نسغ التجربة وتعلقهم بهذا الفضاء أو ذاك؟ لم اتوقف كصاحب تجربة نقدية وشعرية وروائية وتشكيلية يوما عن إسقاط أوراق الأفكار التي التقطتها مع جيلي من هذا المفهوم أو ذاك، والحفاظ على النسغ الذي يمد الجذع الأساس (التجربة) بالحيوية· وتصيبني الدهشة من غياب هذا البديهي والبسيط عن أذهان اجيال كاملة من الشعراء· هل لأنها من نوع الوضوح النادر؟ أن لا يفعل الإنسان وسيفعل كل شيء كما تقول حكمة "الطاو" الشهيرة؟· لقد قدمت لي هذه الحكمة وصفا ً جليا ً للفاعلية الفنية، لا يفكر الفنان ولكنه يكتشف الجميل - فيكون بهذا الكشف خالقه·

 

صراع رؤى

 

ما الذي يعنيه خرق اللغة وتوسيع الخرق ؟

سأكتشف بعد سنوات أن المرجعية التي يرتد اليها هذا المفهوم موجودة لدى الإيطالي "أمبرتو إيكو"، فهو الذي أشاعها في أوائل الستينات من القرن الماضي بكتابه عن النص المفتوح· لم يترجم هذا الكتاب إلى العربية على حد علمي، ولكن الجدل الفكري الذي اثاره في سوق الأفكار الأوروبية، وهناك سوق أفكار بالفعل قبل أن تكون هناك سوق إقتصادية أوروبية مشتركة، لابد أنه وصل إلى الآذان العربية الصاغية التي اتخذت لها مقاعد للسمع على أطراف البحر الأبيض المتوسط - ولا بد أنها تلقطت نبأه كما هي العادة واكتفت بما تلقطت· 

في هذا الكتاب استبق "إيكو" موضوعتين رئيسيتين في نظرية الأدب المعاصر، الأولى تقوم على التشديد على عنصر التعدّد أو تعدد المعاني في النص الفني، والثانية تقوم على دور القارئ في تأويل العمل والاستجابة كعنصرين في عملية تفاعل القارئ والنص· وهما موضوعتان لاتزالان تشغلان النقاش حتى الآن· ولكن المفارقة هي أن الأذن العربية التي تلقطت أصداء هاتين الموضوعتين اللتين طورهما " إيكو " خلال انشغاله بعلم دلالات الألفاظ، لم تنتبه، هي الخاضعة لمبادئ الجمال الحدسية عند "كروتشة" وغيره ممن ترجمت لهم المطابع العربية منذ زمن طويل وأشاعهم مدرسوفلسفة ونقاد عرب، إلى أن أنها كانت نسفاً للجماليات الكروتشية وليست معارضة ً فقط · من هنا قدم المتلقطون العرب - وأكثرهم من الذين أظهرتهم المطابع اللبنانية، خلطة ً عجيبة يظهر فيها كروتشة وبرجسون وإيكو وهيجل ونيتشة بلا تمييز ·

الفكرة في الأصل أكثر صفاءً من هذا الخليط _ اعني فكرة خرق اللغة وخلخلة المعاني· فقد بدأت بالتركيز على الاختلاف الجذري بين شخصية الفن التقليدي والفن الحديث، بالبحث ِ في ما دعي "أعمالا فنية في حالة حركة" ومثالها الأعمال الموسيقية القائمة على رهان المصادفة وعدم الاكتمال والإنفتاح عند "ستوكهاوزن" و "بيرو" و "بوسير"، وأعمال أدبية مثل عمل "مالارميه" المسمى "الكتاب" ونص "جيمس جويس" المسمى "سهرة فينجان"·

ما لاحظه "إيكو" هو أن الفن التقليدي ليس غامضا غموضاً جوهرياً· ومع أنه يستثير استجابات متنوعة إلا أنه من النوع الذي يقود هذه الاستجابات نحو اتجاهٍ محدّد· ولا يجد المتلقون من جانبهم سوى طريقة واحدة لفهم موضوع النص، أو ما تمثله المنحوتة، أو اللوحة، أو القطعة الموسيقية · وليس كذلك الفن الحديث، فهو غامض غموضا متعمداً· مثال ذلك نص "سهرة فينجان"، فهو نموذج حداثي مفتوح لايمكن الجزم أنه يدور حول موضوع محدّد، لإن فيه قدرا ً عظيما ً من المعاني الممكنة تتعايش فيه، ولا يمكن القول عن أحدها إنه هو المهيمن أو الرئيس· إن ما يقدمه نص مثل هذا للقارئ هو "حقل ممكنات"، يترك للقارئ حرية اختيار نوع مقاربته للنص · ويمكن قول الأمر نفسه عن نصوص أقل من نص "جويس" جذرية في تنوعها وانفتاحها مثل القصائد الرمزية ومسرحيات "بريخت" وروايات "كافكا" وكتاب "مالارميه"· إن موقف القارئ أمام " حقول ممكنات " مثل هذه يظل هو نفسه رغم اختلاف طبيعة التنوع والانفتاح· فالمفتوح في كتاب "مالارميه" مثلا هو شكله المادي لأن قارئه يمكن أن ينظم صفحاته وفق أي ترتيب ٍ يختاره، والمفتوح في نص "جويس " هو محتواه الدلالي لأن قارئه يجد أمامه أنماطا ً من المعاني، ولكن سلوك القارئ يظل حرا ً في كلا الحالين ·

تعدّد أنماط المعنى إذن هو ما تلقطته الأذن العربية، وتلقطه المنظرون العرب في دعوتهم لإحداث الخرق ِ وخلخلة المعاني، إلا ّ أنهم انتزعوا هذا المفهوم من سياقه الكلي انسجاما ً مع خلفيتهم الثقافية التي تعزل اللغة الشعرية عن علاقاتها بمستويات الوجود الأخرى، عن المشهد على الأقل، ذلك الذي لايتغير وانما يتغير التعبير عنه· الأمر ليس كذلك في السياق الأصلي لهذه المفاهيم الحديثة، فغموض النص الحديث لم يأت ِ من الألعاب ِ اللغوية بل من انتهاك المعتقدات الإتباعية القائمة على صعيد المشهد الذي يراه الشاعر في نفسه وفي العالم من حوله· إن الأشكال التي يتمظهر فيها مانرى مستقلة وتابعة في وقت ٍ واحد ٍ معا ً، فكلما كانت أقل إتباعية فتحت مجالا أوسع مدى وغموضاً، وكلما كان المدى أوسع والإحساس به أكثر التباساً كلما كانت الأشكال عرضة للتغير· الأكثر من هذا، إن أشكال التعبير الإتباعية، أو التقليدية، تقوم بتوصيل معان ٍ إتباعية للعالم، وهذه المعاني الإتباعية جزء ٌ من الرؤية الأوسع للعالم· إذن محور التجدّد هو صراع رؤى · ففي الوقت الذي يشدّد ُ فيه الفن التقليدي على رؤيا إتباعية، يرفض الفن الحداثي هذه الرؤيا ضمنياً· لهذا السبب يستكمل "إيكو" السياق من أجل التمييز بين الإنتهاك  الرديء والإنتهاك الفني، فيتحدث عن مفهوم الشكل العضوي، وهو ما يعني إنتاج خلخلة مسيطر عليها تقوم على إنصهار عضوي بين العناصر المتعددة، واستكشاف القصد التكويني في الشكل المفتوح ·

كل هذا بالطبع يثير إشكاليات ٍ في علم الجمال المعاصر، ولكن حتى هذه الإشكاليات لم يدخلها المتلقطون العرب في فضاء الثقافة العربية ؛ إنهم مغرمون بالتقاط الثمار الجاهزة، تماما ً مثلما يغرم المستهلكون العرب بالسلعة الجاهزة لا بتقنية صنعها · ما أدخله هؤلاء هو "شواهد" و "مقتطفات" مما استعاروا يتداولونها بثقة· هكذا أصبحت دعوات خلخلة اللغة وتعدد المعاني عقيدة قائمة بذاتها تمارس الآن ممارسة شبه مجانية وآلية تذكّر بما كان يحدث في مقهى فولتير الذي أطلق فيه الدادائيون الأوائل ممارسة لعبة المصادفات لتأليف نص شعري ·

 

اختلاط المفاهيم

 

كل هذه الإتجاهات الغربية، سواء تلك التي ظهرت تحت تسميات مثل " عتمة اللغة " لدى " شليغل ، أو " جمهرة الاستعارات" لدى "نيتشة"، أو "العمل المفتوح" لدى "إيكو"، أو "بلاغة البلبلة" لدى "ديريدا"، ذات سياق تاريخي (ثقافي - اجتماعي) في الحضارة الغربية· وفي هذا السياق تتضح الحدود بين الأنظمة الفلسفية والتجارب الفنية التي تقف وراءها، وتتضح المعاني، ويتضح التناسج، ولا تختلط الأمور كما هي مختلطة في أذهان المتلقطين· فهؤلاء يجتمع لديهم أو يتساوى الإيمان بالحقائق المطلقة جنبا ً إلى جنب مع اعتناق الديالكتيك النيتشوي المفتوح، وما يحلو لهم تلقطه من هذا المفكر أو ذاك سواء كان متصوفا ً أو ماركسيا ً أو وجوديا ً أو بنيويا ً أو مابعد بنيوي على حد سواء ·

هذه خلطة ظهرت في الستينات وتكثفت في السبعينات، وقادت إلى ممارسات شعرية أكثر سذاجة ً مما يظن أصحابها على صعيد النقد والكتابة الشعرية · وتم في هذا الوسط من اختلاط المفاهيم والفلسفات والنظريات الأدبية والاجتماعية اتخاذ تعدّدية المعنى والنص بوصفه حقل دلالات غاية ً بحد ذاتها من دون اتخاذ وسيلة ملائمة لها · الإستلهام ُ كان هو الوسيلة، وسيلة لم تعن َ بدقّة ِ أداء ٍ لا ينفصل فيه الفاعل عن الفعل ويصبحان كلا ً واحدا ً· والسبب ثقافي يندرج بحثه ونقد هذه الحالة من العشوائية في الأداء والتصور تحت مصطلح " النقد الثقافي " الذي اقترحناه وقدمنا تصورا ً وممارسة تطبيقية له منذ أوائل ثمانينات القرن العشرين، وتبلور في كتابنا " بحثا ً عن الحداثة " (1986 )· ففي الثقافة العربية لا وجود لوحدة ٍ بين الأنا والطبيعة والمجموع البشري، ولا نظرة متطورة إلى العلاقات بوصفها أساس تشكيل الهوية، أو الفلسفة بالأحرى تتجاوز مطلقات الفلسفة الدينية القائمة على الثنائية في كل شيء · إن أي تصور للعلاقات في الثقافة العربية الراهنة لايخرج على علاقات التوفيق والتلفيق، فمن المحال في هكذا ثقافة أن يكون الأنا آخر، أو ان الشيء هو ذاته وغيره في وقت واحد ٍ معا ً· ولا ينعكس هذا في طريقة انتقاء وتلقط الأفكار واستلهام الفضاءات فقط ، بل وفي العجز عن خلق وحدة بين فكر ٍ وإحساس، وبين البصري والمسموع، وبين العتمة والضوء، وبين السماء والأرض، بحيث لم يعد هناك " قائل ٌ " و " قول ٌ " بل " مقول ٌ " فقط · لقد ظلت المسافة قائمة بين القائل وما يقوله، بين الدال والمدلول· ويبدو هذا التشظي واضحا ً في وقت ٍ لاتظهر فيه الشظايا أو الشذرات قرائن دالة على وجود علائق بينها، بقدر ما يظهر ترابط ٌ غير تكويني عماده التجاور على السطر الواحد أو الوجود في الصفحة ِ نفسها·

عن موقع: www.jehat.com

طباعة  

في حرية الأفراد والجماعات والليبرالية وسواها "3"
التوازن الخلاق بين الأنا والآخر.. والواقع والممكن