رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 7 مارس 2007
العدد 1764

علاء الدين ومصباحه.. الكائن والخرافة
دخل الكهف ساذجاً.. وخرج منه ساذجاً!

                                        

 

·     لماذا كانت أسطورة "فاوست" تعبيراَ عن انقلاب حضاري

 

محمد الأسعد:

في الخطاب العربي المعاصر، أي في هذا المرجع الأساس الذي تنطلق من أرضيته ومفاهيمه ورؤيته الى العالم البحوث والأفكار والفنون والآداب توجد فكرة عن الإنسان لم تتغير منذ قرون·

البعض يرجع نهضة الغرب المعاصرة بدءاً من عصر النهضة فالتنوير فالعقل· الخ طيلة خمسة قرون" الى مسألة بسيطة ولكنها انقلاب خطير في الكشف عن مركزية الإنسان في العالم·· وما تبع هذا من نتائج في شتى المجالات العلمية والفنية والاجتماعية في الخطاب العربي صورة تقليدية عن الإنسان ومكانه وزمانه لا تقبل التغيير ثابتة في مختلف صيغ هذا الخطاب أو الفلسفات التي تقف وراءه·

صورة تعرضها الأدبيات التقليدية وإن تجاوزنا التقاليد الأدبية وتجلياتها في عادات السلوك والتفكير وجدناها في المشتهى كما يتخيله دعاة التطور أما الغائب فهو نقد صورة الإنسان بوصفها صورة متغيرة من حيث التكوين والمصير عبر التاريخ ولا تبتعد المجادلات الحالية عن تأكيد مضمر للصورة الأصلية الثابتة، وأن اختلفت حول بعض المظاهر وسواء تعلق  الأمر بالفكرة الأساسية عن الإنسان حاجاته وطموحاته ومصيره أو معناه أو تعلق بما يحيط به وعلاقته بالزمان والمكان فإن صورته المألوفة هي صورة كائن لا تقلقه صورته عن نفسه ولا يحدق في دواخله صورة كائن يتطلع الى اللحظة التي ستأتيه فيمسك فيها بمصباح علاء الدين السحري، ويطلب من المارد الطيب أطايب الطعام أولاً والقصر ثانيا والزوجة الملكية ثالثاً·

 

أسطورتان!

 

الكائن علاء الدين ومصباحه· وهو الإنسان المثالي في سعيه ومصيره في أعماق الخيال الشعبي يقف نقيضاً كاملاً لساحر العصور الوسطى الأوروبي "فاوست" ذلك الرمز الكبير الذي يختصر في شخصه ومسيرته صورة إنسان بواكير العصور الحديثة وستوضح المقارنة بين الشخصيتين الفارق الكبير بين زمن علاء الدين الباحث دائما وأبداً عن المصباح السحري، ورمز فاوست الباحث عن المعرفة ولو تخلى عن روحه·

يدخل علاء وفق الأسطورة الكهف وحيداً ولا يحاول العثور على طريق للخروج فكل شيء من حوله مظلم ومخيف ولا جرأة لديه على اقتحام الكهف المظلم والمخيف والمجهول فلا يجد أمامه من سبيل سوى البكاء قليلا وندب حظه ثم الجلوس على حجر في انتظار المعجزة التي ستأتيه من الخارج خارج جهده وفكره أي من المصباح والمارد وهنا يأتي الحدث ذو المغزى، ما أن يلمس المصباح مصادفة حتى يظهر المارد (القوى الجبارة التي تحقق المعجزات) فيطلب منه علاء الدين أن يأخذه الى سطح الأرض ثم تتوالى الطلبات وكلها تتعلق بتلبية الحاجات الاستهلاكية حتى ليخيل الى المرء، أن رمزنا المحبوب علاء الدين هو أكبر حيوان استهلاكي في التاريخ·

حين يأتي المارد أو الشيطان الى "فاوست" يختلف المسار وتختلف النتيجة ففاوست لا يطلب سمكة بل شبكة للصيد، أي أنه يطلب المعرفة أولاً ويعلن أنه مستعد لبيع روحه في سبيل ذلك، ويحظى بالمعرفة معرفة الماضي والحاضر، رغم أن الأسطورة تجعل نهايته مروعة في تحذير للناس من إغراءات المعرفة ولكن مع توالي القرون يجيء الشاعر الألماني "جوته" فيغير النهاية المروعة لأن من يطلب المعرفة لا يستحق هذه النهاية المروعة أي لا يستحق أن يلقى في الجحيم كما قالت الأسطورة في نسختها القديمة، ومثال "جوته" يضيف جديداً الى سيرة إنسان العصور الحديثة أنه سيد أساطيره أيضا يكتبها ويعيد كتابتها وصياغتها فهو ليس ثابتاً ثبات الحجر وليس سائلاً سيولة الماء، إنه ثابت متغير معاً·

 

في انتظار المعجزة

 

منذ أن غادر علاء الدين كهفه كما دخله ساذجاً وحتى هذه اللحظة لم تتجاوز فكرة الخطاب العربي عن "الإنسان" هذا الكائن الخرافي الذي امتلك كل شيء بالمصادفة "بغزوة أو رحلة صيد" ومن دون جهد يذكره دخل الكهف صبيا وخرج صبيا، لم يمر بتجربة ولا عانى لحظات النمو والتغير والنضوج لا جسداً ولا فكراً· التجربة تغير يلم بالأشياء لا بالإنسان  المجرب·

هذه البساطة التي تحدث فيها الأحداث وتنقلب المصائر في حكاية علاء الدين هي نفسها البساطة التي تعيش في أجوائها الخطابات العربية من سياسية وثقافية وفنية أنها الفكرة الثانية عن الإنسان ومصيره كائن ينتظر المعجزة ولا يعرف أن البشر يصنعونها منذ العصر الحجري ولا تصنعها مصابيح السحرة ولا حروف كتبة التعاويذ لهذا السبب ربما لم تمر المنطقة العربية منذ أكثر من قرن تقريبا بلحظة انقلاب حضاري، رغم تكاثر وتناسل مصطلحات النهضة والانقلاب والتجديد والتحديث والثورة بل تداولتها شتى التيارات كما تتداول المياه الصخور الراسخة فتمضي الأولى الى حال سبيلها بين عقد وآخر وتظل الثانية قائمة في مكانها·

وعلى رغم الصخب السياسي وضجيج المعارك الفكرية الحقيقي منه والوهمي لم يكن موضوع الصخب والضجيج يقظة على فكرة جديدة على الإنسان في عالم استبدل أفكاره عن الإنسان ومكانه في الكون عدة مرات، وتقدم أشواطا بعيدة في فلسفته ونظمه وعقائده ومنجزاته في ضوء هذه الصورة المتغيرة·

وبقدر ما كان ميلاد صورة جديدة لفكرة الإنسان محدداً لمسار التطور الإنساني بقدر ما ظلت استعادة فكرة الإنسان المكرورة عائقا دون تقدم الوضعية العربية تقدماً جذرياً من ذلك النوع الذي يطلق عليه نهضة أو يقظة وليس من المبالغة في شيء تشبيه أنشطة الانقلابات السياسية بمختلف مسمياتها وتغيير البرامج باستبدال طرق بطرق سعياً للعثور على مصباح علاء الدين أو العصا السحرية التي تقلب كون الإنسان فتحول الكوخ الى قصر والمائدة العارية الى مائدة عامرة·

 

انقلاب حضاري

 

صورة الصبي علاء الدين الموسوم بأنه الوحيد القادر على دخول الكهف والعثور على المصباح لا تختلف كثيراً عن صورة المثقف العربي "النهضوي أو مفكر الحزب·· الخ" الذي يعتقد أنه الوحيد المقدر له أن يقتحم مغاور السياسة المعاصرة والمعضلات الاجتماعية والعثور على العصا السحرية ومن ثم تغيير الكون·

لم يكن الإنسان ولا صورته موضوع الاقتحام ومنطلقه ولم يكن موضوع ومنطلق الأدب والفن وشتى الأنشطة لأن الصورة المتوارثة بديهية لا تقبل النقض أو حتى الاجتهاد، وهي غير المفكر فيه أصلا، أو مما لا يمكن التفكير فيه·

نحن لا نجد انقلابا عن صورة الإنسان المتوارثة ولا غاياته ومساره وبالتالي لا نجد ما يلح على تطوير ذي أهمية تذكر على صعيد الفكر أو في أي مجال من مجالات تكييف علاقة الانسان بالمؤسسات والافراد والبيئة حتى معلمو الفلسفة الذين تبنوا أحداث الفلسفات المعاصرة لا نجد لديهم تبنياً إبداعيا بل نجد تطويعاً لهذه الفلسفات والتقاء يلائم بينها وبين صورة الإنسان الموروثة·

مدخل كل الانقلابات الحضارية هو اليقظة على صورة جديدة للإنسان أي اكتشاف معنى جديد له يختلف جذرياً عن المعاني السائدة حتى الآن وهو ما حدث في عدة  انقلابات حضارية تمثلت في أزمات فلسفية وفكرية عميقة، حين كان يولد تصور جديد لمكانة الإنسان في الكون وتحمل مسؤولية تبعات هذا التصور·

ولعل السمة الأساسية للانقلاب الحضاري عادة هي أنه يضع حداً لصورة علاء الدين السجين في كهفه في انتظار أن يلمع لمعة المصباح في الظلام  ويستدعي المارد الطيب خادم المصباح ثم خادم من يملك المصباح ويقترح صورة جديدة لعلاء الدين مختلفة لا ينتظر فيها المعجزة بل يصنعها ليخرج من كهفه ولو حفراً باظافره، صورة يكون فيها علاء الدين مركز الفعل والفعالية وليس هامشاً·

مثل هذا الإنسان يتكون في الزمن وعبر معاناته وصراعه للخروج من كهفه المظلم وحين يخرج مثل هذا الإنسان الى ضوء الشمس سيكون إنساناً مختلفا، أكثر علماً وإدراكا وتجربة، أكثر نضجاً عقلا وجسداً، عبر جهة يديه وفكره أنه انسان النهضة·

طباعة  

جوزيف سماحه: العابر من اليومى الى التاريخي