رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 7 مارس 2007
العدد 1764

جوزيف سماحه: العابر من اليومى الى التاريخي

                                      

 

عبدالمجيد راشد:

"إن القضية الأولى والمركزية للعرب هي التدرج نحو الوحدة العربية، هذا هو ردهم الكبير على المشروع المضاد لهم والذي تتقاطع عنده قضاياهم: التنمية، التحديث، الاستقلال الفعلي، الإلغاء العقلاني والطوعي للحدود المفتعلة الفاصلة بينهم، دخولهم العصر···· الخ"·

 

جوزيف سماحة

 

هل رأى أحدكم عقلا عابرا من المغلق الى المفتوح، من اللحظة الى الأبد، من الضيق الى الواسع، من المنفر الى المبشر، من العسير الى اليسير، من زنزانه الذات الى حضن الجموع؟

هل رأى أحدكم قلما يستخلص اليومي ليضعه في مكانه من التاريخي؟

هل رأى أحدكم عقلا يكثف التفاصيل ليضعها في مكانها من المجرد؟ يستنطق من الخاص ما يضعه في موقعه من العام·

 هل رأى أحدكم فكرا يتجاوز العقائدي الضيق الى الجماهيري الواسع؟

من لم ير فعليه أن يذهب الى أي مكتبة ليمتلك تلك الثروة القادرة على جعله يخطو أولى خطوات الرؤية ومبتدأ التأسيس لطريقة أخرى في التفكير والتدبر والتأمل والتحليل والاستنطاق والاستنتاج والوصول الى حيث المحل المختار لليقين في سويداء القلب وللإدراك البصير المبصر في بؤرة من بؤر الذهن·

فقط يسأل صاحب المكتبة: هل لديك ما أنتجته قريحة و دم ووجدان و ذهن كاتب اسمه جوزيف سماحه؟

وكن على ثقة فسوف يجيبك: وهل توجد مكتبة معتبرة في أمتنا من محيطها الثائر إلى خليجها الهادر، ومن جبال طرطوس إلى كردفان لا تزين أرففها صفحات من عصارة أفكار تحمل توقيع جوزيف سماحة؟

 مؤكد أنك بعد قراءة بعضها ستبحث عن أحد ما لتجده يجيبك: جوزيف سماحة·· يا الله··

 

* * *

 

سأروي لك بعضا مما يقرب الصورة وينفذ بك الى الجوهر·· في الثلث الثاني من تسعينات القرن الماضي، كانت الأمة تعيش تحت سماء ملبدة بغيوم مفاوضات السلام والتي ولدت جنينا مشوها مختلطا في نسبه اسمه·

"اتفاق غزة - أريحا أولا"، وتحت ضغط زلزال انهيار الاتحاد السوفييتي وانفراد أمريكا بالهيمنة على العالم كما تصورت وخططت ودبرت، وخاصة بعد تدمير العراق في حرب الخليج الثانية·· وسادت ثقافة ما يسمى بالسلام·· وامتلأت صحافة العرب وإذاعاتهم بالمحللين الذين يحللون لأمريكا ما ترغب في نشره وتعميمه·· وينشئون جماعات لما أسموه السلام مع العدو الصهيوني والاندماج معه في مشروع شيمون بيريز للشرق الأوسط الجديد تلعب فيه (إسرائيل) دور القاطرة والقيادة، وتلعب دول النفط الأسود في الخليج الذي ينبغي أن يعود عربيا دور الممول، أما الأيدي العاملة فهي (زي الرز) في مصر ··

وإذا بجوزيف سماحة يدفع الى المطابع بكلمات و سطور تتلقفها أعين وعقول ووجدان نخب الأمة من كل قواها الحية·· حملت السطور عنوان "سلام عابر"·

انطلق فيه من الهزيمة الى العناد

من أقواله في الكتاب: "الدعوة الى التمسك بالبديهيات والأساسيات هي نوع من مخاطبة النفس، يحادث المرء نفسه في الليل ليتأكد أنه ليس ووحيدا"·

واقرأ معي: "النقد الذاتي بعد كل هزيمة ضروري، الأمة مهزومة، تختتم قرنا من المقاومة مستسلمة لأعدائها، فيما لا يبدو أن المشهد العام يتيح مكانا لمن يريد التأسيس على وعي الأسباب العميقة للاندحار من أجل استئناف المواجهة·

سيجري تقديم النقد، هذه المرة، بصفته عودة للوعي· لن يطاول لماذا حصل ما حصل، بل الأسباب التي دفعت العرب الى "الوجود" أصلا في موقع الصراع"·

وسنقرأ أيضا: المفاوض الجيد لا يكل عن المطالبة ولا يشبع من الأخذ ويستميت حتى لا يعطي شيئا· إنه، في آن معا، التجسيد المطلق لحق قومه والناطق بإسم إضطرارهم المأساوي إلى "التفريط"· المفاوض الجيد هو من تراوده فكرة الانتحار بعد التسوية مهما كانت عادلة، لأن التسوية، تعريفا، تخضع لضوابط الممكن و المتاح· إنه حال نزاع دائم بين وجدان ديني وعقل تجاري·

وسنقرأ أيضا: "يتوجب على العرب، في زمن المفاوضات ، التمسك قدر الإمكان بتعريف للصهيونية لا يكون خاضعا للمساومة·

إنها حركة عدوان على العرب تطال الفلسطينيين منهم في وجودهم فوق أرضهم ثم في سائر حقوقهم الأخرى فتبددهم وتحرمهم من التعبير الوطني المستقل عن هويتهم وتطاردهم وتسعى الى محو شخصيتهم وثقافتهم· وتطال العرب الآخرين في تطلعهم الى بناء مصيرهم و مستقبلهم بحرية· هذه هي الحركة الصهيونية تكوينيا· كوت الفلسطينيين عرضا من أجل امتلاك موقع لإيذاء العرب جميعا"·

و ستقرأ من سطوره ما يلي: إن التناقض بين الأمة العربية وإسرائيل هو تناقض غير قابل للحسم إلا بانتصار أحد الطرفين· سيمتد الصراع وتتغير أشكاله وتتحول وتتكيف· يمكن لهدنات أن تحصل ولوقف إطلاق نار أن ينفذ ولـ "سلام" أن يعيش بعض الوقت ·لكن هذه محطات لا تغير من الأمر شيئا· لا مجال للتعايش بين تصورين للمنطقة"·

وتقرأ أيضا: "إسرائيل كيان ودور· قد يكون التعايش مع الكيان صعبا بعض الشيء إلا أنه ممكن· أما التعايش مع الدور فهو مستحيل لأنه بالضبط، دور عدواني، لا يهدف إلى التوسع الجغرافي فحسب، بل أساسا، إلى تجيير المحيط العربي لصالح قوى أجنبية و تركه مستباحا أمامها"·

وإن شئت الوضوح الأكثر فستتأمل كلماته التي يقول فيها: إن القضية الأولى والمركزية للعرب هي التدرج نحو الوحدة العربية، هذا هو ردهم الكبير على المشروع المضاد لهم والذي تتقاطع عنده قضاياهم: التنمية، التحديث، الاستقلال الفعلي، الإلغاء العقلاني والطوعي للحدود المفتعلة الفاصلة بينهم، دخولهم العصر···· الخ·

وتأسيسا على ذلك، يمكن القول إن القضية الفعلية التي تواجههم ليست القضية الفلسطينية بل القضية الاسرائيلية· وذلك لأن الوجود الصهيوني في فلسطين يختلف، جذريا، عما تقدم· إنه يتذرع بإيجاد وطن قومي يهودي من أجل أن يلعب دورا محوريا في إعاقة التقدم العربي ومنعه بالقوة وربط المنطقة ومصالحها بعجلة المشاريع الإستعمارية ومطامعها·

وإن شئت التصوير الذهني لمشهد الأمة كما يراد لها فستصطدم بكلماته تلك:

- حان وقت الحصاد· العرب مدعوّون إلى توليف خساراتهم الماضية كلها في هزيمة تاريخية عظمى· الاسم الفني هو: النظام الإقليمي الجديد· تهندس الولايات المتحدة الأمريكية البناء· حجر الزاوية فيه التفوق الإسرائيلي النوعي· العرب مادته· يتشكلون كما يراد لهم التشكل· جسم مائع· سائل بالأحرى، يأخذ شكل الوعاء الذي يحتويه· وظيفة هذا النظام التأسيس لحقبة مقبلة وإفراز المؤسسات والأطر والعلاقات الداخلية التي تحمي موازين القوى الناشئة·

ولو كنت ممن ينفذون الى ماينبغي فسوف تقرأ كلماته وهو يقول:

- ليست الأولوية، في المرحلة الجديدة، للنقد· الأولوية هي للعناد· لمنع سيل الهزيمة الجارف من أن يطيح كل شيء·· الأولوية هي، أيضا، للمؤاساة والاستنهاض· لقد كنا، إجمالا، على حق وما يجري لنا محطة في مسيرة طويلة·

- وعي الهزيمة شيء آخر تماما· إنه مزيج من تشاؤم عقلاني وتفاؤل إرادوي· الحاضر أسود، الأفق أبيض لا لشيء إلا لأنه أفقنا· ولأن هذه طبيعة الأمور· السواد الحالي سواد نفق· الخروج منه حتمي شرط أن نحاول· لن تمر الهزيمة فوقنا وتذهب· علينا أن نعبرها، أي أن نبني موازين القوى التي تلغيها· التمسك بالأهداف البعيدة شرط الاستمرار· أما تكييف أساليب العمل والإرتضاء بما هو مرحلي (حتى لو كان مجرد تحديد للخسارة فمن الأمور البديهية· ألف باء الخيانة هي التخلي عن طموحات الحد الأقصى، والحماقة هي رفض التعاطي مع الوضع الراهن، والسياسة، بالمعنى النبيل للكلمة، هي الزواج السعيد بين الإفراط في التشاؤم والإفراط في التفاؤل·

 

* * *

 

هذه بعض من علامات جوزيف سماحة على طريق الفهم والوعي والإدراك والعمق·

تقرأه لتقرأ دفتر الحياة من باب الحكمة والجوهر والدهشه لقدرة العقل على استنطاق المغزى من المعنى والعميق من السطحي والباطن من الظاهر والحق من الحقائق·

وهذا هو بالتحديد جوزيف سماحة·

من أراد أن يعرفه حقا فليقرأ ما تيسر من ثروة استأمنها عقول وقلوب المهمومين من طلائع الأمة·

رحم الله جوزيف سماحه و نفعنا بما تركه لنا·

المصدر

 mail@kanaanonline.org

طباعة  

علاء الدين ومصباحه.. الكائن والخرافة
دخل الكهف ساذجاً.. وخرج منه ساذجاً!