رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 4 يوليو 2007
العدد 1781

كيف تفكر البلدان المغاربية اليوم؟
عرب وأمازيغ... تغريب وسلفية... وتحضير!

في مركز الحوار في واشنطن، ألقى أنور نصر الدين هدام في 9 مايو 2007 محاضرة أضاء جوانب فيها مما يضطرب في أرجاء المغرب العربي من تيارات فكرية· وتكتسب وجهة النظر أهميتها من كون صاحبها هو رئيس حركة الحرية والعدالة الاجتماعية في الجزائر، وعمل سابقا مستشارا للجبهة الإسلامية للإنقاذ·

وأنا أقوم بتحضير هذه الكلمة المتواضعة، راودني سؤال أرى أنه في حاجة إلى إجابة من قبل أي متحاورين حول الموضوع: كيف يمكن تحديد التيارات الحقيقية؟ أي، كيف يمكن تحديد مقياس "حرارة" التيارات الفكرية والثقافية في مجتمع ما؟

لأنه ليس بالضرورة أن تكون جميع المجموعات التي يتحدث عنها الإعلام اليوم تعبر عن تيار موجود على أرض الواقع داخل مجتمعاتنا·

والسؤال هذا دفعني إلى التطرق أولا إلى من أعتقد أنهم يشكلون فعلا تيارات فكرية وثقافية داخل مجتمعات المغاريبية، وبعدها سوف أشير إلى بعض المجموعات "الدخيلة" والمُروّج لها لحاجة في نفس يعقوب وأحفاده·

 

مدخل تاريخي

 

لقد وصل الإسلام إلى الشعوب الأمازيغية، السكان الأصليين لشمال إفريقيا، منذ فجر الرسالة· وقد وقعت مقاومة شرسة من قبل السكان الأصليين، وهو أمر طبيعي· إلا أنه بعد أن وضعت الحرب أوزارها، واستتب الأمر بعد محاولات ثلاثة، آخرها بقيادة عقبة بن نافع (رضي الله عنه)، سرعان ما رحب الأمازيغ بالفاتحين وجعلوا من الإسلام المكون الأساس لشخصيتهم· وذلك لما شهد السكان الأصليون في الفاتحين المسلمين من مكارم الأخلاق ومن تعظيم للحرية والحياة والعدل والمساواة بين الناس مما لم يعرفوه في أمم من قبل حاولت طيلة قرون دخول أراضي المنطقة·

ولم يتوقف الأمر إلى حد اعتناق الإسلام و مصاهرة المسلمين القادمين من جزيرة العرب، بل قد حمل مسلمو المنطقة الجدد، من الأمازيغ، ومن العرب، رسالة الإسلام إلى ما وراء البحر الأبيض المتوسط··· فكانت الأندلس المسلمة وعبقريتها، وعدالتها، والرخاء الذي عمها لقرون طوال حيث جعل المسلمون منها واحة التسامح بين الشعوب واحترام كرامة الإنسان، واحة الحرية والعدالة والعلم والإتقان والثقافة والحضارة،كل ذلك على أبواب أوروبا "قرون الوسطى"·

لكن، مع مرور الزمن، عندما أضاع المسلمون، حكاما ومحكومون، أمانة الحرية والعدل، أضاعوا أسباب التمكين، فتمكنت منهم ظاهرة "القابلية للاحتلال"، كما أسماها بحق أستاذي مالك بن نبي رحمه الله، فصغُر شأنهم لدى الأمم الأخرى المتربصة بأراضيهم وثرواتهم بل وبدينهم، دين الحرية، والحق، والعدل،··· فسقطت الأندلس وبدأ المسلمون في تراجع··· وجاء عهد الحروب الصليبية··· وعهد الاحتلال···

وتم احتلال فرنسا للمنطقة بدءا بالجزائر في يوليو 1830م· لقد شكل احتلال فرنسا للجزائر منعطفًا تاريخيًا حاسمًا ليس بالنسبة للجزائر فحسب بل بالنسبة للتوازنات الدولية العالمية الموروثة من حقبة القرون الوسطى، وكذلك بالنسبة لمكانة ودور العالم الإسلامي في المعادلة الدولية·

 لقد عانت شعوب المنطقة، العرب والأمازيغ على حد سواء، الأمرين نتيجة الاحتلال الغربي الغاشم العنيف الذي نهب خيرات البلاد وشتت رجالها وقتل الأطفال والنساء وهجّر المواطنين وارتكب المآسي· فانتشر الفقر والبؤس في أوساط المغاربيين· وسرعان ما تبين أن الهدف الرئيس للمحتل الصليبي الغربي للمنطقة، ذات المكانة الجيواستراتيجية، كان الإسلام من حيث إنه المكون الأساس لشخصية هذه الشعوب التي دفعت بهم ذات يوم إلى تعمير الأندلس···

فبعد إفقار الشعوب، قام المحتل باستهداف مقومات هذه الشخصية المغاربية، وقام بتحويل بعض المساجد الرئيسة إلى كنائس وبإبعاد أبناء الشعب، عرب وأمازيغ، عن تعاليم القرآن ولغته اللغة العربية، كما تبنى المحتل سياسة محاربة قيم الإسلام الاجتماعية واستبدالها بأحط ما لدى الغرب من فساد وانحلال خلقي·

في الوقت نفسه احتضن المحتل طبقة من بني جلدتنا وغرس في نفوسهم - للأسف - ثقافته المستوردة ليزدادوا قابليةً لاحتلاله، واستسلامًا له، ويفرضوا هكذا على الشعوب الاستقالة من مهمتهم التاريخية··· وتشكلت طبقة المنتفعين من التعامل مع الإدارة الاستعمارية· والتيار هذا في الحقيقة بدأ يتشكل قبيل عهد الاحتلال الغربي للمنطقة·

ومن أجمل ما قرأته في هذه الحقبة من تاريخنا والغزو الفكري والثقافي الذي تبع الاحتلال الغربي هو كتاب "مذكرات شاهد القرن" للأستاذ مالك بن نبي·

فمالك بن نبي ينقل إلينا ـ بالتفاصيل الدقيقة ـ صوراً من شهادته على أبناء جيله، فيطرح أمامنا تهافت هؤلاء الذين انغمسوا في الثقافة الغربية فأصبحوا غرباء عن شعوبهم، منغمسين في ثقافة المحتل معتقدين أنه لن يتم الخلاص إلا بالثقافة الغربية·

وفي الوقت نفسه ينبهنا إلى رجل "الفطرة"، الذي يشكل الأغلبية من أبناء وبنات شعوب المنطقة، الذي لايزال يحتفظ بالقيم الأساسية للحضارة التي ورثها من أجيال سابقة حفظت التراث والقيم· هكذا، ولله الحمد، لم تخل شعوب المنطقة من الأحرار الرافضين للذل والاستسلام· ففي الجزائر مثلا، منذ بداية الاحتلال قامت ثورات عدة بقيادة علماء بدءاً بالشيخ محي الدين، ثم ابنه الأمير عبد القادر إلى الشيخ المقراني، والشيخ بوعمامة، وهناك آخرون غيرهم· وفي المغرب ثورة عبد الكريم···

ولكن على الرغم من قوة عزيمتهم لم يكتب لهم النصر، فلم يفلحوا في إخراج المحتل نظرًا لاختلال كبير في موازين القوى آنذاك، ولكن التاريخ حفظ لهم شرف تحدي القوة المحتلة وعدم التفريط في الحق التاريخي المشروع للشعوب المغاربية في تقرير مصيرها··· إلى أن دقت ساعة التحرر··· وجاء الاستقلال ولله الامتنان و الشكر··· وانكب الناس على استرجاع ما فاتهم خلال الثورة التحريرية التي كلفت الكثير، وهذا حق مشروع و طبيعي···

لكنه مع الأسف الشديد انصرف اهتمام الناس في هذه الفترة عن دواليب الدولة والحكم، فانشغلوا هكذا عما قاموا مضحين بأغلى ما عندهم من أجله: الحرية و تقرير المصير·

ففي الوقت نفسه هذا، بدأ السباق العنيف على السلطة، وتم التنكر للتعددية الحزبية التي تشكل إحدى ركائز التقافة السياسية المعاصرة للشعوب المنطقة، وفُرض بدلها النظام الأحادي بمختلف التسميات، وبدأ معه الانحراف عن المثل التي ضحى من أجلها الشهداء الأبرار عليهم سحائب الرحمة من الله· وبدأت الفجوة بين الحكام و المحكومين، واتسعت بمرور الزمن بفعل سياسات خاطئة على الرغم من وجود بالتأكيد حسن النوايا لدى بعض أفراد الطبقة الحاكمة···

والصراع من أجل تقرير المصير وتحقق القفزة الحضارية المنشودة قائما إلى اليوم···

إذا حاولنا تلخيص قراءتنا لتاريخ منطقتنا المغاريبية، "والملاحظات نفسها يمكن تعميمها على مختلف المجتمعات العربية و المسلمة و"العالمثالثية"·

  فإن هذه القراءة تبين لنا وجود خطين داخل مجتمعاتنا المغاربية لا يكادان يتقاطعان وهما: الخط الحضاري، نسبة إلى التواصل الحضاري والامتداد الفكري والثقافي والسياسي للعالم العربي والإسلامي، والخط التغريبي، نسبة إلى الاعتقاد أن خلاص الأمة في انصهارها في الثقافة الغربية··· وعمل كلا الخطين على تأسيس تيارات فكرية وثقافية وأحزاب سياسية··· والهدف هو محاولة إدخال شعوبنا من جديد إلى مضمار الفعل التاريخي·

 

الخط التغريبي:

 

منذ بداية القرن العشرين شهدت الساحات الوطنية نشاطًا مكثفًا لتيارات الخط التغريبي متعددة من مختلف التوجهات اليمينية واليسارية· وكانت كلها تسعى جاهدة لتغير من وضع الشعوب وإدخالها من جديد إلى مضمار الفعل التاريخي من خلال الثقافة الغربية·

وقد قامت طيلة هذه المدة بنشر أفكارها وأيديولوجياتها ومعتقداتها· وتمكنت بعض هذه التيارات من الاستيلاء على، أو التقرب من، السلطة الفعلية وتجريب مشاريعها المجتمعية والتنموية··· و لو بالحديد والنار··· إلا أن جل هذه المجموعات، سواء أكانت في السلطة أم في المعارضة لم تُفلح في تحقيق ما تصبو إليه بصورة واقعية وكثير منها عجز حتى عن الانتقال من زخم الأفكار والمشاريع إلى زخم البرامج التغييرية الشاملة·

لقد ارتكبت تيارات الخط التغريبي خطأً استراتيجيًا عندما تجاهلت المقومات الأساسية التي تشكل الشخصية الوطنية وعملت على تجاوزها بل كسرها وإضعافها· خاصة الإسلام، الذي يُعد بالنسبة للمسلم منهج حياة متكامل وهو المكون الأساس لشخصيته· ولم تدرك تلك التيارات أن المجتمع هو الذي يُطبع فيه سلوك الأفراد بدرجة معينة من الفعالية عند التعامل مع البرامج الحكومية بما فيها المخططات الاقتصادية· فأي مشروع تنموي لا يأخذ بعين الاعتبار المقومات الأساسية لشخصية المواطن يكون مآله الفشل، لأنه لا يستطيع تحريك جوانب الفعالية في المواطن بل يعمل على تغريبه وإبعاده عن محيطه الطبيعي·

هذا فيما يخص الخط التغريبي الذي بين فشله و تراجعت "حرارة" تياراته التي أصبحت منحصرة في جزء من الطبقة الحاكمة و المسماة لدينا في المنطقة المغاربية بـ "حزب فرنسا"·

 

الخط الحضاري:

 

ليس من اليسير إقامة فواصل واضحة بين المشرق والمغرب فيما يتعلق بشؤون الفكر والثقافة عندما يتعلق الأمر بتيارات الخط الحضاري، فهناك حالة من التأثر المشرقية لدى بعض التيارات الفكرية والثقافية القائمة في البلاد المغاربية· سواء أكانت هذه المؤثرات "وطنية" أم "قومية" أم "إخوانية"، أم، في الآونة الآخرة، كانت سلفية بكل ألوانها·

إلا أن المنطقة المغاربية مازالت تمتاز إلى حد ما  بـ"الفكر الاجتماعي والسياسي المغاربي" الذي أسسه العلامة ابن خلدون، وأعادت إحياءه مدرسة خير الدين التونسي في القرن التاسع عشر، وفي القرن العشرين تولى الأستاذ مالك بن نبي الجزائري تطويره ووضع له الشيخان محمد الطاهر بن عاشور التونسي وعلال الفاسي المغربي قواعده الأصولية انطلاقا من فكرة "مقاصد الشريعة" التي كان قد أحسن ضبطها وصياغتها مغاربي قديم هو الامام أبو إسحاق الشاطبي "الأندلسي" في موسوعته الشهيرة والمعنونة بـ "الموافقات"· وقام علماء معاصرون، مغاربيان وآخر مشرقي هم الدكتور عبد المجيد النجار والدكتور أحمد الريسوني والشيخ جودة سعيد، بتعميق البحث في المقاصد وربطها بمتطلبات العصر·

وقد تكون، في الجزائر، مدرسة البناء الحضاري وريثة فكر مالك بن نبي كما بلوره صفوة من تلاميذه مثل الشيخ محمد السعيد رحمه الله و الأستاذ الطيب برغوث و"التوحيد والإصلاح" في المغرب الأقصى، وحركة النهضة التونسية على نحو ما قد أفادت من ذلك التراث -بدرجات متفاوتة- بعد إقامة نوع من التفاعل بينه وبين الواردات المشرقية من جهة وبينه وبين أمواج الحداثة الغربية التي تعصف بقوة في هذه الثغور المواجهة لأوروبا·

ويمكن اعتبار أن هذه "المدرسة المقاصدية الاجتماعية السياسية"، والتي دأب أحد كبار الدارسين للتيارات الفكرية في أمة العرب والمسلمين، وهو الباحث المغربي محمد عابد الجابري، على وصفها بـ "العقلانية" مقابل التيارات "العرفانية" المشرقية، قد سبقت مثيلاتها إلى هضم آليات الديمقراطية المعاصرة وتأسيسها في الثقافة الإسلامية والترحيب والالتزام بها، سواء أكان ذلك على صعيد منهج التغيير، رفضا لكل طرائق العنف، أم كان على صعيد الحكم، رضا بتعددية كاملة لا تقصي أي تيار أو صاحب فكرة، وذلك على أساس مبدأ المواطنة وما يخوله لكل المواطنين من حقوق متساوية بما يرفع كل دعوى وصاية على الناس ولا يبقى للسلطة ولتداولها من مصدر غير الاقتراع العام والقبول بنتائجه باعتباره المترجم الوحيد عن إرادة الشعب·

في الجزائر، وعلى عكس ما يروج هنا وهناك، إن مثل هذا الخطاب "العقلاني"" الذي تبنته الوجوه الشابة الذكية تولت قيادة الجبهة وأشرفت على تنظيم الانتخابات التشريعية أواخر 1991، هو الذي -بفضل من الله- حقق للجبهة فوزا كاسحا منذ الدورة الأولى· مع الأسف استصرخت بعد ذلك أصوات الاستئصالين من التيار التغريبي المتطرفين مؤسسة الجيش للتدخل بزعم إنقاذ الديمقراطية· فخرجت الدبابات لتسحق صناديق الاقتراع في محاولة لإعادة عقارب ساعة الجزائر إلى الوراء، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه لخطاب التشدد والتكفير وإباحة الدماء ليجتاح الجزائر رغم غربته عن هذه البيئة· لقد كانت فضيحة وجريمة موصوفة اقترفتها الجماعات التغريبية المنسوبة ظلما للحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان مازالت تكلف المنطقة المغاربية الكثير·

وحسب المتتبعين للشأن المغربي، إن خطاب "التوحيد والإصلاح" كما تبلور في الحزب السياسي الذي غدا يعبر عنه سياسيا "حزب العدالة والتنمية" تبلور فيه خطاب إسلامي وطني حداثي ديمقراطي، انغرس بقوة في ثنايا الطبقة الوسطى وفي المدن وحتى الأحياء المرفهة، ولذلك كان حصاده في المدن المغربية الكبرى وفيرا، وذلك بأثر ما يعبر عنه خطاب "العدالة والتنمية" من أصالة إسلامية معتدلة وحداثة تستوعب كل ما يتساوق مع الإسلام من حضارة العصر·

أما تونس فلا تزال تشهد أفدح المفارقات بين خطاب حداثوي رسمي يغرف من قواميس الحداثة من بغير حساب، و بين الواقع المعاش تحت سيطرة الخط التغريبي من استبداد و قهر و كبت للحريات و الفكر  الثقافة·

أما في الأقصى المغاربي "موريتانيا"، فالخط الحضاري بلا منافس إيديولوجي· التراث الإسلامي -هنا- ومؤسساته وقيمه من العمق والاتساع إلى حد لا تقوى معه خطابات الاستئصالين، وما لها من سبيل غير الانضواء على نحو أو آخر تحت عباءة الإسلام·

هنا يتنافس الجميع على التقرب- ولو الشكلي- من الإسلام سحبا للبساط من تحت أقدام الحركة الإسلامية التي تجد لها سندا مهما في مؤسسات الإسلام التقليدية القوية بتراثها وعلمائها ذوي النفوذ الشعبي الواسع، حتى أن بعض قياداتها البارزين مثل الشيخ محمد الحسن الددو معدود من بين علماء الإسلام البارزين·

أما ليبيا، فالحالة الثقافية فيها هنا تشبه على نحو ما الحالة الموريتانية، لكن الوضع المعاش تحت السيطرة التامة هنا لنظام يصعب تصنيفه إلى أي من الخطين ينتمي: بالتأكيد لا هو تغريبي و لا هو حضاري·

وتقودنا الملاحظة المتأملة في القوى السياسية والاجتماعية الراهنة التي تمثل العمق الحضاري للمجتمع وخاصة المجموعات التي تنتسب إلى الصحوة الإسلامية، إلى القول بأن جلها لم تتمكن من الانتقال من مرحلة نشر كتلة المفاهيم إلى مرحلة السياسة وشؤون الدولة والحكم وترجمة تلك المفاهيم إلى برامج واقعية ميدانية· أملنا أن تهب رياح الحرية على المنطقة حتى تتمكن مختلف تيارات الخط الحضاري من تجسيد مفاهيمها الإصلاحية·

 

مجموعات على الهامش

 

هناك مجموعات تُنسب ـ أيضاً ـ إلى الصحوة الإسلامية تعيش حالة من الانفصام والازدواجية في فهم التشريع الإسلامي وهي تدعي أنها تهدف إلى التطبيق الحرفي للنص القرآني ولسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لكن هذا الادعاء يتجاهل الجهد العلمي المبذول من قبل علماء الأمة طيلة الأربعة عشر قرنًا الماضية واستنباطهم من تلك النصوص الكريمة أحكام الإسلام الحنيف ومقاصده· وقد أدى بها هذا الازدواج في الفهم وهذا القصور في تفهم رسالة الدعوة الإسلامية إلى تبني الموقف العلماني، دون أن تشعر، في تقسيم الوجود إلى زماني وروحي؛ ولذلك قررت عدم الخوض في مسألة السياسة تاركة الأمر لقيصر ليحدد المصالح الشرعية تحت ذريعة طاعة "أولي الأمر"· وقد أدى هذا الانحراف إلى إصباغ الشرعية على أنظمة فاسدة ومستبدة باسم ذريعة تجنب الفتنة وحماية البيضة وعدم شق عصا الطاعة· وأقصد هنا تيار السلفية وتيارا من الصوفية·

كما أن هناك مجموعات أخرى من "اللامذهبية" تُنكر على الأمة حقها في تقرير مصيرها، وهدفها الوصول إلى الحكم بالقوة لتحكيم شرع الله حسب زعمها· أي السعي لتستبدل بمستبدين باسم حماية الديمقراطية مستبدين آخرين يدعون حماية الدين وهم في واقع الأمر يحمون فهمهم القاصر وتصورهم الضبابي لرسالة الدعوة الإسلامية الخالدة· وقد تمكنت بعض أنظمة المنطقة من استغلال هؤلاء الغلاة لضرب مكتسبات الصحوة وتشويه الدعوة الإسلامية·

إن التطاول هذا على علماء الأمة عبر التاريخ ولو خارج إرادة علماء اللامذهبية هو الذي ولّد هذه الفئة الباغية التي ذهب بها الأمر إلى استباحة دماء من يخالفهم· ومنه فإن على عاتق علماء اللامذهبية مسؤولية كبرى تجاه هذا الشباب وتوجيهه وإنقاذه من الغلاة المبتدعين، على غرار التنظيم الجديد الذي تداوله الإعلام هذه الأيام "القاعدة" في بلاد المغرب الإسلامي·

بالفعل، بدأت الأضواء تسلّط بقوة على المشهد السياسي والأمني المغاربي بعد ما تداولته وسائل الإعلام من أخبار تزعم قيام الجماعة السلفية للدعوة والقتال الجزائرية بسلسلة من العمليات الأمنية التي خرجت من الجغرافيا الجزائرية لتصل إلى تونس وموريتانيا والمغرب وحتى ليبيا، فالجماعة السلفية للدعوة والقتال التي تأسسّت بالأساس في الجزائر ضد النظام القائم بالحديد والنار وبعد أن انشقت عن "الجيا" بسبب أعمالها الإرهابية، ها هي اليوم ينسب لها تغيير إستراتيجيتها بالكامل وتغيير اسمها ليصبح تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي"، كما نُسب لها رفض القبول بمشروع المصالحة الوطنية، رغم التصريحات المتكررة لقائدها الأول حسان حطاب ودعوته للتصالح وطي صفحة العنف في الجزائر··· والسؤال يبقى مطروحا: من المستفيد الأول من هذه المحاولات لفرض مجموعات خطيرة على المجتمعات المغاربية·

* عن "مركز الحوار العربي" في واشنطن:

 http://www.alhewar.com

طباعة  

كاسترو يتحدث بعد خمسين عاماً من الحصار
كوبا لن تكون لكم أبدا