رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 13 صفر 1426هـ - 23 مارس 2005
العدد 1670

المشرق في نظر المغاربة والأندلسيين في القرون الوسطى

بقلم:د· محمد حسين

نقل لنا الرحالة المغاربة، الذين جابوا أقطار الشرق في العهود الإسلامية الأولى، أوصافا وانطباعات شكلت بعضا من الصورة التي رسمها أهل المغرب للشرق العربي وتعلقت بأذهانهم· وإذا كان التواصل قائما بين جناحي الوطن العربي منذ فجر الإسلام التماسا لتأدية فريضة الحج وطلبا للعلم والتجارة، وربما ابتغاء للعمل والإقامة، فإن قلة من هؤلاء قد دونوا ملاحظاتهم ومشاهداتهم· ومن العجيب أن أشهر تلك الرحلات - التي دون أصحابها ما شاهدوه - قد بدأت منذ القرن السادس للهجرة (الثاني عشر للميلاد) كرحلة محمد الأدريسي المتوفى 560 هـ، ورحلة ابن جبير الأندلسي المتوفى 614 هـ، ورحلة ابن بطوطة المتوفى 779 هـ· وشكلت مشاهدات هؤلاء الرحالة وانطباعاتهم وملاحظاتهم وتعليقاتهم، بل وانتقاداتهم الصورة التي حملها أهل مغرب الوطن العربي عن مشرقه·

ولا شك أن مقصد أهل المغرب كان أساسا الحج الى بيت الله الحرام، وفي طريق الذهاب والإياب كانوا يزورون مدنا أخرى كالقاهرة ودمشق وبغداد وغيرها· ويذهب الدكتور صلاح الدين المنجد في كتابه - الذي نقتبس منه - والمعنون بـ “المشرق في نظر المغاربة والأندلسيين في القرون الوسطى” الى القول بأن “الذين زاروا القاهرة ودمشق من أهل المغرب كانوا أعظم عددا من الذين زاروا منهم بغداد· فالقاهرة كانت ممراً طبيعيا لأهل المغرب، عندما يقصدون المشرق ودمشق أحيطت بكثير من ألوان القداسة والبركة والبطولة، أما بغداد فكانت بعيدة، لا تقصد إلا لعلمائها، أو لتكون مرحلة سفر طويل يهدف الى علماء الأقاليم النائية عنها (ص115)·

الشام

ولقد كانت الشام، برغم بعدها عن طريق الحج، مقصدا للأندلسيين والمغاربة· وقل أن رحل أندلسي الى المشرق ولم يزر الشام، كما يؤكد المنجد· ويرجع سبب ذلك الى اتباع أهل الشام والأندلس “عادات أموية متقاربة”· فضلا عن أن بلاد الأندلس والمغرب تشبه بلاد الشام هواء وخضرة وماء· لا عجب أن كان العرب الشاميون يجدون في الأندلس وطنا كوطنهم، والأندلسيون الراحلون الى الشام بلادا كبلادهم”·

في سنة 510 هجرية زار الشريف الأدريسي الشام، وكانت تحت حكم السلاجقة، حيث وصف دمشق في كتاب سماه “نزهة الآفاق” قائلا: “ومدينة دمشق جامعة لصنوف من المحاسن، وضروب من الصناعات، وأنواع من الثياب الحرير كالخز والديباج النفيس الثمين، العجيب الصنعة، العديم المثال، الذي يحمل منها الى كل بلد··· ويضاهي ديباجها بديع ديباج الروم، ويقارب ثياب ُتستر، وينافس أعمال أصفهان، ويسمو على أعمال طرز نيسابور·· ثم يرسم صورة لخيراتها “فالحنطة فيها كثيرة جدا· وكذلك أنواع الفواكه، أما الحلاوات فيها، فمنها ما لا يوجد بغيرها كثرة وطيبا وجودة· وأهلها في خصب عيش واتصال أمن· وصناعاتها نافقة، وتجارتها رائجة، وهي من أعز البلاد الشامية وأكملها حسنا”· وفي السياق نفسه، يذكر ابن جبير الذي زار دمشق سنة 580 هـ “إن أسواق هذه البلدة أحفل أسواق البلاد وأحسنها انتظاما، وأبدعها وضعا ولا سيما قيسارياتها، وهي مرتفعات كأنها الفنادق، مثقفة كلها بأبواب حديد كأنها أبواب القصور، وكل قيسارية منفردة بضبتها وأغلاقها الحديدية”· ويلاحظ أنه على الرغم من الحرب التي كانت تدور رحاها بين الصليبيين والمسلمين إلا أن التجارة معهم كانت قائمة!!

وقد أدهش ابن جبير كثرة الأوقاف على العلم وعلى المساجد، التي أوقفها الملوك والأمراء والأثرياء والتجار لتعليم أهل دمشق والوافدين عليها· وهي ملاحظة دونها أيضا ابن بطوطة بزيارته للمدينة عام 726 هـ، حيث بين أن الأوقاف بدمشق لا تحصر أنواعها ومصارفها لكثرتها “فذكر أن منها ما هو للعاجزين عن الحج، ومنها أوقاف لتجهيز البنات الى أزواجهن، وهن اللواتي لا قدرة لأهليهن على تزويجهن، ومنها أوقاف لفكاك الأسرى، وأخرى لأبناء السبيل يعطون منها ما يأكلون ويلبسون ويردون الى بلادهم، وأخرى لتعديل الطرق ورصفها، وأوقاف للأواني المكسورة، فإذا كسرت الأواني حملت شقفها لصاحب أوقاف الأواني، فيدفع ثمنها ليشتري بدلاً عنها، فضلا عن الأوقاف الضخمة المخصصة للانفاق على المدارس والعلم·

ولعل أحد وجوه صرف الوقف كان بناء البيمارستانات (المستشفيات) حيث عدها ابن جبير من مفاخر الإسلام· وقد حدثنا عن بيمارستان نور الدين (وهو الحاكم الذي وحد الشام وقضى على الدويلات الصغيرة فيها ومهد لصلاح الدين أن يحقق وحدة العالم الإسلامي)· وهذا البيمارستان من أكبر مشافي دمشق، جعله نور الدين وقفا على الفقراء دون الأغنياء، حيث كان التمريض فيه مجانا، وكانوا يقدمون فيه للمرضى الأدوية والأغذية حسبما يليق بكل إنسان· وكان يطبب فيه كبار الأطباء وفيهم أطباء السلطان· فإذا فرغوا من معالجة المرضى ألقوا في إيوانه الكبير دروس الطب على التلاميذ· “فكان هذا مدرسة للطب ومستشفى للمرضى”، كما يعلق المنجد·

ومن طريف أخلاق أهل دمشق - التي لاحظها هؤلاء الرحالة وتعجبوا منها - ما ينقله لنا ابن جبير عن تحيتهم التي بها ركوع وخفض القامة فترى “الأعناق تتلاعب بين رفع وخفض، وبسط وقبض”· ويعلق المنجد معللا هذا النمط من التحية بما ألف الدمشقيون من الحضارة وما مر بهم في تاريخهم الطويل من النكبات والتجارب ما جعلهم يجاملون ص 39· وقد عامل أهل دمشق المغاربة بكل حب واحترام، حيث خصوهم بزاوية في الجامع الأموي يتعلمون فيها وتجري عليهم الأموال، كما أكد ابن جبير· وأن علماء المغاربة كانوا يستقبلون في المدارس ليعلّموا، أو في المساجد ليؤموا، الأمر الذي قرره ابن بطوطة أيضا بعد قرنين، إذ كتب يقول “وأهل دمشق يحسنون الظن بالمغاربة، ويطمئنون إليهم بالأموال والأهلين والأولاد· وكل من انقطع بجهة من جهات دمشق لا بد أن يتأتى له وجه من المعاش من إمامة مسجد، أو قراءة مدرسة، أو ملازمة مسجد يجيء إليه فيه رزقه، أو خدمة مشهد من المشاهد المباركة أو يكون كجملة الصوفية”·

مصر

الذاهبون من المغاربة الى المشرق كانوا لا بد أن يمروا بالديار المصرية، وعلى وجه الخصوص على مدينتي الاسكندرية والقاهرة، اللتين كانتا أعظم المدن التي يلقاها هؤلاء اتساعا وضخامة عمران ووفرة سكان، وما وصل من رحالة المغرب عن مصر قليل خصوصاً قبل القرن السادس الهجري، كما يؤكد المنجد في كتابه المذكور· ولعل ما كتبه أبو الصلت أمية بن عبدالعزيز الداني الأندلسي، الذي زار مصر في حدود سنة 510هـ، يعتبر الأقدم، يذكر أبو الصلت سكان مصر فيقول “إنهم أخلاط من الناس مختلفة الأصناف، من قبط وروم وعرب وبربر وأكراد وديلم وحبشان وأرمن، وغير ذلك”· أما طباعهم فيذكر ابن بطوطة، التي زارها في عام 725 هـ، أن “أهل مصر ذوو طرب وسرور ولهو”· ويلاحظ أبو الصلت اعتقادهم الجازم بالتنجيم ويروي قصة غريبة في ذلك أن منجما مصريا قد سجن، ثم أمر الوالي باطلاقه فقالوا له: انطلق لشأنك، فأخرج من كمه الاصطرلاب فنظر فيه، فرأى أن خروجه في ذلك الوقت من السجن مذموم، فسألهم أن يتركوه في السجن الى أن يتفق وقت يصلح للخروج، فأخبروا الوالي· قال: فضحك منه، وتعجب من جهله، وفساد عقله، وأجابه الى سؤاله، وأطال مدة اعتقاله!! ومن العجيب أن ينكر محمد بن العبدري الذي زار المشرق سنة 688 هـ على المصريين عنايتهم بالمنطق  فمن “الأمر المنكر عليهم، والمنكر المألوف لديهم، تدارسهم لعلم الفضول، وتشاغلهم بالمعقول عن المنقول، في إكبابهم على علم المنطق واعتقادهم أن من لا يحسنه لا يحسن أن ينطق”·

لكن، ومع ذلك فإن تلك الملاحظة النقدية بنظرة لا تدعو العبدري الى نكران عظمة مصر، إذ تراه يقول “وأما أرض مصر ونيلها وعجائبها وخصبها واتساعها فأكثر من أن يحصرها كتاب أو يحيط بها حساب··· وما ظنك بأرض هي مسيرة شهر للمجد، وطأة سهلة مغلة ما بها قرية إلا وهي تناظر أخرى، ولا بستان إلا وهو يسامي آخر، ولا مدينة إلا وهي تشير الى أختها·· ونيلها من عجائب الدنيا عذوبة واتساعا وغلة وانتفاعا، وقد وضعت عليه المدائن والقرى فصار كسلك انتظم دررا “أما عدد السفن والمراكب التي تمخر عباب النيل فيعددها رحال آخر هو خالد بن عيسى الأندلسي الذي زار القاهرة في القرن الثامن للهجرة بما ينيف عن المئة ألف مركب، في حين أن عدد الجمال الداخلة الى القاهرة بالماء في كل يوم بحوالى المئتي ألف جمل· وعدد دكاكين السقائين بستين ألف دكان”·

ولم يخف العبدري إعجابه بالاسكندرية التي يصفها بأنها مدينة فسيحة الميدان، صحيحة الأركان، مليحة البنيان، تسفر عن محيا جميل المنظر، وترنو بطرف ساج أحور، وتبسم عن ثغر كالأقحوان إذا نور، كأنه لم يغب عنها شخص الاسكندر مما ساس فيها من عجائب مبانيها ودبر، ناهيك بمدينة كلها عجب، قد ستر حسنها من غيرها وحجب”·

ولقد شد انتباه الرحالة المغاربة والأندلسيين بعض المشاهد المهمة في مصر كقبر الإمام الحسين ومسجد ابن طولون والأهرامات، فيصف ابن جبير الأهرام القديمة “بأنها الغريبة المنظر، المربعة الشكل كأنها القباب المضروبة قد قامت في جو السماء، قد أقيمت من الصخور العظام المنحوتة، وركبت تركيبا هائلا، بديع الإلصاق، دون أن يتخللها ما يعين على إلصاقها·· لو دام أهل الأرض نقض بنائها لأعجزهم ذلك”· وقد حار ابن جبير في أصل الأهرامات كما حار أهل زمانه حيث يجد أن “للناس في أمرها اختلافاً: فمنهم من يجعلها قبورا لعاد وبنيه، ومنهم من يزعم غير ذلك· وبالجملة لا يعلم شأنها إلا الله عز وجل”·

أما البيمارستانات فكانت محط إعجاب المغاربة والأندلسيين - كما ذكرنا - فهاهو خالد بين عيسى الاندلسي يقر بأنه “لو لم يكن للقاهرة ما تذكر به إلا البيمارستان وحده لكفاها· وهو قصر عظيم من القصور الرائعة حسناً وجمالاً واتساعا”· أما عدد المرضى المترددين عليه والناقهين الخارجين منه كل يوم هو أربعة آلاف نفس· وظني أن هذا الرقم مبالغ فيه كثيرا· ويضيف الأندلسي أنه لا يخرج من كل من يبرأ فيه من مرض حتى يعطي متولية إحسانا إليه، وانعاما عليه كسوة للباسه، ودراهم لنفقاته، ويذكر ابن بطوطة أن دخل البيمارستان ألف دينار يوميا، والى جانب الطرق التقليدية في العلاج، اخترع المصريون طريقة جديدة استنكرها أحد الرحالة الأندلسيين وهو أبو الصلت - الذي ورد ذكره - وهي ما يعرف في أيامنا هذه بالطب النفسي· إذ يذكر أن علاج أحد الأطباء المصريين هو “الإضحاك والتندر”· إذ “يدخل على المريض فيحكي له حكايات مضحكة، فإذا انشرح صدر المريض وعادت إليه قوته تركه وانصرف ولا ينسى هذا الرحالة أن يشير إلى أن معظم أطباء مصر هم من اليهود والنصارى وأهل أنطاكية·

وثمة شكوى متكررة من قبل الرحالة المغاربة والأندلسيين من معاملة رجال الجمارك (المكوس) القاسية، فيذكر ذلك ابن جبير وغيره، وقد يكون مرجع ذلك - كما يشير الدكتور صلاح الدين المنجد - الى “العلاقات السيئة التي كانت بين صلاح الدين - وفي أيامه ورد ابن جبير مصر - وملك المغرب أثر في الإساءة الى هؤلاء المغاربة والأندلسيين، ويضيف “فنحن نلاحظ في أيامنا كيف تؤثر العلاقات السياسية بين دولتين، سواء كانت حسنة أم سيئة، في معاملة كل دولة رعايا الدولة الثانية”  ص64·

العراق

يقول المنجد إن “أقل البلدان المشرقية حظا من وصف المغاربة وأهل الأندلس هي بغداد· فالنصوص التي وصلت إلينا عنها، من هؤلاء قليلة جدا، برغم أن كثيرين من أهل الأندلس دخلوها، أو أقاموا بها، وأخذوا العلم عن شيوخها، أو اجتازوها قاصدين علماء خراسان لأخذ الحديث عنهم ص 115· ولعل أكثر وصف يقدمه ابن جبير التي زارها لفترة قصيرة سنة 580 هـ، وابن بطوطة في سنة 727 هـ·

ولم يعجب ابن جبير بأخلاق أهل بغداد وقلة ترحيبهم بالغرباء، وله كلام طويل في ذلك، لكنه استثنى منهم “فقهاء بغداد المحدثين وواعظيها المذكرين· وربما يكون الأثر العميق الذي تركه ابن الجوزي، الذي أطنب في وصف مجالسه - في نفسه هو الذي دفعه الى تبرئة الوعاظ والفقهاء مما ذم به عامة أهل بغداد· ولا بد من الإشارة الى أن رحلة ابن جبير وابن بطوطة الى بغداد خصوصا والعراق عموما لم تكن في عز أيام الدولة العباسية وإنما أيام ضعفها وانحطاطها، إذ يلحظ ابن جبير أن الخراب قد عم الجانب الغربي من نهر دجلة المار ببغداد، ومن ملاحظاته أن الجزء الشرقي مليء بالأسواق “يشتمل من الخلق على بشر لا يحصيهم إلا الله تعالى”· وأن بها نحو ثلاثين مدرسة أعجبه منها المدرسة النظامية، وفيها نحو الألفي حمام· وهو ما أكده ابن بطوطة حيث يذكر أن أغلب تلك الحمامات مطلي بالقار حتى ليخيل لرائيه أنه رخام أسود· وفي كل حمام خلوات، مطلي نصف حائطها مما يلي الأرض به، والنصف الأعلى مطلي بالجص الأبيض الناصع، ضدان مجتمعان، ويصف دخول الإنسان الى الحمام، وما فيه من مياه حارة وباردة، وما يعطاه الداخل والخارج من الفوط·· ولم أر هذا الاتقان كله - كما يقول ابن بطوطة - في مدينة سوى بغداد·· ويذكر أن ببغداد جسرين يعبرهما الناس ليلا نهارا، وفيها مساجد كثيرة وكذلك مدارس، إلا أنها خربت!!

وعلى الجملة، يذهب الدكتور صلاح الدين المنجد الى التأكيد على “أن المشرق الإسلامي يومئذ كان يسوده شعور من العطف والإكرام والإعجاب نحو هؤلاء المغاربة، على اختلاف بلدانهم، الذين يأتون من أقصى الأرض، مــن بـــلاد بعيــدة نائيـة، ليلتمســـــوا فـي هـذا المشـرق الـبركة والعلـم ص 68·

* أستاذ الاجتماع في جامعة الكويت

طباعة  

رسائل بين مثقفين
اللبنانيون: ارحلوا.. واتركوا لنا الأهل منكم والشعراء والأحرار
السوريون: حياتكم المليئة كتفاحة وحياتنا الفارغة كثمرة جوز فارغة!

 
وتد
 
إصدارات
 
قصائد
 
المرصد الثقافي