ماذا يجري في هذا العالم المجنون؟ سؤال قد يبدو مستغرباً في هذه المرحلة من مراحل التطور العالمي، إلا أن الصورة الشمولية ، تؤكد على أن العالم يمر في مرحلة الفوقية في العالم، عالم من عدم الاستقرار، والهلاك في معظم بقاع العالم، إنه عالم ما بعد الحرب الباردة التقليدية، عالم ما بعد القطب الواحد، إنه عالم مجنون، بل المعايير والأخلاق السياسية، عالم يتجه نحو الهاوية، حينما تسيطر العقلية الأحادية في التفكير، انطلاقاً من الإيمان المطلق، بأنها تمتلك الحقيقة المطلقة، وهي لا تختلف عن تلك العقلية التي ترى أن الحقيقة في الاتجاة الواحد· مرحلة استمرت لمدة سبعة عقود، كان ثمنها معارك في البقاع الأربعة من العالم، سواء في العالم الأول، أو الثاني، والمأساة كانت في العالم الثالث؟!·

ألم تكن آسيا، وأفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية مسرحاً للمعارك بين المعسكرين، ألم تكن تلك المرحلة هي التي رسخت التطرف، بين مختلف الحضارات والديانات أو ربما الأيديولوجيات· ألم تكن تلك هي مرحلة التحدي بين مختلف الأيديولوجيات السياسية أو الاتجاهات، كان العالم حين ذاك، يمثل فئران تجارب، وكان الإنسان سواء في المعسكر الرأسمالي أو الاشتراكي، هو ضحية صراع تلك النخب السياسية، التي تمتلك مفاتيح القرار في العالم، إنه التحدي بين قوى سياسية قد تختلف في مصالحها عن بعضها البعض·

إن العالم يدفع ثمن صراع تلك القوى، والنتائج على المستوى الإنساني هي نفسها، سواء بالنسبة لذلك المؤمن بالمدينة الفاضلة، أو ذلك المؤمن بنهاية التاريخ، وصراع الحضارات، كانت النتيجة هي نفسها على المستوى الإنساني العالمي·

 مزيد من القهر، ومزيد من الحروب والدمار الذي يحيق بالبشرية,  كان من الواضح أن الذي يدفع الثمن دائماً أولئك الذين يسكنون في الجزء الجنوبي من العالم، سواء كان ذلك في القرن التاسع عشر، عندما كان الصراع بين الإمبراطوريات التي تتصارع لتقاسم ثروات العالم وخيراته، وكأن العالم مزرعة لإمبراطوريات أوروبا من البرتغال إلى فرنسا إلى بريطانيا العظمى إلى إيطاليا وإلى الإمبراطورية العثمانية العجوز، أو القرن العشرين، الذي لم يختلف الصراع الجوهري فيه عن النزاع على مناطق النفوذ، ألم تكن الحرب العالمية الأولى بين العالم الرأسمالي نفسه وإمبراطورياته المختلفة، وحتى الحرب العالمية الثانية ألم يكن العالم الرأسمالي يشكل طرفي الصراع الذي دخله الاتحاد السوفييتي الدولة الاشتراكية اليتيمة في ذلك الوقت بعد بداية الحرب· أو في القرن الجديد، في كل تلك القرون كانت الطبقات الدنيا هي التي تدفع الثمن، إنه الجنوب المتخلف عن الجزء الشمالي·

 إن العالم المتحضر مازال حاضراً في أن يخلق آليات جديدة تؤدي إلى صراعات في الجنوب، في الشرق أو في الغرب، إنه من يخلق صراعات تؤدي إلى تآكل الكل، إنه كاهن كل الأيديولوجيات في خلق الفوضى، في عالم يجتمع أو تجتمع فيه كل التناقضات الأيديولوجية في العالم، بين العلمانية، والأيديولوجيه السلفية·

إن عالم القرن الواحد والعشرين، وعالم القرن السادس الميلادي، هما على طرفي التناقض، وهما يمثلان عالمين من تطور الحياة البشرية، بين فكرتي الغزالي وابن رشد، وفكرتي هيجل وماركس، إنه عالم يجمع بين التناقضات وبين الحرب والسلم·

إن البشرية هي التي تشكل الاتجاهات ، وفي الوقت ذاته تخلق مسيرة الإنسانية، وهذه المحطات التاريخية هي ليست وليدة صدفة، بل هي من نتاج العقل الإنساني، أليس الإنسان هو صانع التاريخ، سواء في شقه المادي أو الأخلاقي، ألم تكن البداية حكاية قابيل وهابيل، وصراع آلهة الخير والشر، وهل يختلف الوضع الحالي في فلسطين أو العراق أو في أي مكان في العالم عما كان عليه العالم في قرون سالفة من الصراع، وفي كل الحالات تحدد تلك القوى مكان الصراع وزمانه في هذه البقعة من العالم أو تلك، ومن سوء حظنا أن العالم اختار العالم العربي مكاناً للصراع المعاصر· لأن في هذا العالم يقع مخزون النفط· ومن يضع يده على هذا المخزون يضع يده على العالم·

 لقد ظل الإنسان هو الضحية على مدى التاريخ، إلا أن ذلك الإنسان هو خالق التاريخ، وهو الذي يتحدى الجميع، حيث إنه الآلة ومشغل الألة في الوقت نفسه، إنها المعادلة الصعبة للجمع بين كل تلك التناقضات بين العالم المادي الواقعي، والعالم المثالي، الجمع بين ما ينبغي أن يكون، وبين وما هو كائن، إنها المعادلة التي عجز التاريخ أن يجمع بينها، إنها السهل الممتنع على مدى التاريخ·

ألا يدرك الجميع، سواء في العراق أو لبنان، أو غزة، أنهم الخاسرون في المعادلة في جوانبها المختلفة، وأن الإنسان العربي هوالذي يدفع الثمن·

إنه ذلك الإنسان المسلوب الإرادة، إن إرادة الحياة الجديدة تحتاج إلى رؤية جديدة، في عالم جديد، تحتاج إلى التخلص من عقدة الصراع الذي استمر على مدى نصف قرن من الزمان· إنها تحتاج إلى انتصار إرادة الوحدة على إرادة الموت· إنها تحتاج إلى أن يشعر الجميع أنهم أدوات وضحايا في صراع يستلب خيراتهم ومستقبلهم ويدفعون ثمنه من دمائهم ومستقبل أبنائهم ، إنهم ضحايا صراع البقاء للأقوى·

 *رئيس وحدة الدراسات - البيان

 malmutawa@albayan.ae