رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 20 يونيو 2007
العدد 1779

كيف وصلنا إلى الإخوان؟
قصة انقلاب في ثقافة ووجدان المواطن المصري

بهاء طاهر*

لا يكفي مقال ولا كتاب للإجابة عن سؤال هذا العنوان:  كيف سيطر الفكر الاخواني على نسبة غالبة من الرأي العام في مصر؟ وهذا سؤال يتجاوز بكثير الانتخابات الاخيرة ونتائجها، فالسيطرة تشمل حتى تلك الاغلبية التي تقاطع الانتخابات او التي لا يعنيها امرها· المسألة في الوقاع هي قصة انقلاب في ثقافة ووجدان المواطن المصري تم تدبيره على امتداد ثلاثة عقود على الاقل، بحنكة وعلى مهل، وكان يكسب أرضا جديدة في كل يوم· ولم تفلح اصوات الانذار المبكر في وقف مساره ولا في حشد القوى لمواجهة خطره والتصدي لزحفه·

اسهمت في نجاح هذا المخطط سياسات داخلية وخارجية، وأموال دولية طائلة، ونزوات للتاريخ غير متوقعة، وقفزات في وسائل الاتصال غير مسبقوة، ولكننا نقتصر في هذا المقال علي النظر في الخلفية الفكرية والثقافية لهذا الانقلاب وعواقبه·

حتى الستينيات من القرن الماضي كان في مصر مجتمع مدني قوي، ينخرط في كفاح تحريري للتخلص من تخلف قرون طويلة في ظل الخلافة العثمانية التي وصفها مفكرنا الكبير جمال حمدان بانها -استعمار ديني- من نوع باطش غريب يتستر بمفهوم الخلافة، ليستنزف اخر قطرة من عرق المصريين ودمائهم· وعلى مدى قرون ذلك الاستعمار تمثلت الاسس النظرية او المنظومة الفكرية للحكم العثماني في التسليم بحق السلطان "الخليفة فيما بعد" في الحكم المطلق والامر والنهي دون اية حقوق للرعية غير الطاعة العمياء لهذا القائد الديني·

ويصف لنا جمال حمدان بعبارات موجعة حال الامة في ذلك العصر بقوله- كما يفصل الراعي بين انواع القطعان، فصل الاتراك بين الامم والاجناس المختلفة عملا بمبدأ فرق تسد، وكما يسوس الراعي قطيعه بالكلاب، كانت الانكشارية كلاب صيد الدولة العثمانية، وكما يجلب الراعي ماشيته كانت الإمبراطورية بقرة كبرى عند الأتراك للحلب فقط·

وفي ظل ذلك الحكم المهلك، المستند الى مرجعية دينية زائفة يتبرأ منها إسلامنا الحنيف - عم الخراب اقليم مصر- على قول الجبرتي المؤرخ المعاصر لهذه الحقبة المظلمة· "وكاد المصريون يندثرون فعلا لا مجازا بسبب المجاعات المتكررة والمجازر والاوبئة، وبارت الارض الزراعية بسبب اهمال الحكم لاعمال الري والصرف، ولهروب الفلاحين من ارضهم، فرارا من جباة الضرائب الفاحشة والمتكررة"·

وانتشر بين من بقى من السكان على قيد الحياة "وهم قليل بالقياس الى اي عصر في تاريخنا" الجهل الشامل والخرافة والشعوذة·

والفضل كل الفضل في خروج مصر من هذا الفصل الكارثي من تاريخها يرجع الى جهود اجيال متتابعة من المثقفين، عملت على تصحيح والغاء مفاهيم البطش العثماني، وخرج رعيلهم الاول من عباءة محمد علي ومشروعه الكبير، لولاه لما تسنى لهم نشر مفاهيمهم الجديدة المتحررة، ولولاهم لما كان مشروعه سوى مجرد فصل لحاكم آخر مستبد سخر الشعب لمجده الشخصي·

استطاع هؤلاء المثقفون العظام ان يغيروا بالتدريج كل الاسس الفكرية المتخلفة للحكم العثماني، وان يشيدوا بدلا منها منظومة فكرية عصرية ومدنية ظللنا نعيش في نطاقها قرنا ونصف القرن من الزمان، وأبرز ملامح هذه المنظومة هي:

1- إحياء فكرة الوطن "مصر"، التي كانت غائبة تماما في ظل فكرة الأممية العثمانية التي تجعل كل سكان الإمبراطورية رعايا على قدم المساواة في العبودية لإمام الأستانة·

2- إدخال مبدأ الوحدة الوطنية والمساواة بين المسلمين والمسيحيين في الحقوق والواجبات وعلى قول الطهطاوي فإن - جميع ما يجب على المؤمن لاخيه المؤمن يجب على أعضاء الوطن في حقوق بعضهم على بعض لما بينهم من أخوة الوطنية-· وهكذا تم نفي المبدأ العثماني للفصل بين الملل وسياسة فرق تسد·

3- نفي وجود السلطة الدينية، يقول الإمام محمد عبده بوضوح: "أصل من أصول الاسلام قلب السلطة الدينية والاتيان عليها من اساسها، ويقول ايضا لا يسوغ لقوي ولا لضعيف ان يتجسس على عقيدة أحد، إلا عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكل مسلم ان يفهم عن الله من كتاب الله، وعن رسوله من كلام رسوله بدون توسيط احد من سلف ولا خلف، وانما يجب عليه قبل ذلك ان يحصل من وسائله ما يؤهله للفهم"· وبذلك تم نزع اي قداسة او صفة دينية عن اي حاكم بشري مهما كان لقبه، ونزعها وبالمثل عن اي جماعة ومؤسسة تدعي لها سلطة دينية من أي نوع·

4- تحرير المرأة التي كانت في وضع أسوأ من الرقيق أو الإماء، والمساواة بينها وبين الرجل، واذكر في ذلك دور قاسم أمين والشيخ الإمام·

5- الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية وحق التعليم للجميع· وهي قيم جديدة تماما· لم تطبق تلك المبادئ العصرية بالطبع فورا ولا من تلقاء نفسها، بل عبر صراع دفع المثقفون خلاله أثمانا فادحة، لكن هذه المبادئ اكتسبت مصداقيتها لانها نبعت وتطورت من خلال معارك وطنية ضد الاسبتداد الداخلي والاستعمار الخارجي، ولانها كانت تستجيب لحاجات ملحة للمجتمع·

وربما اهم من ذلك لان رواد التنوير الاوائل كانوا حريصين باستمرار كما رأينا على اثبات ان هذه المبادئ العصرية مستمدة من صحيح الدين، ومع انه كانت هناك طوال الوقت تيارات سلفية تحن حنينا قويا للعودة الى المنظومة العثمانية، الا ان الشعب المصري اثبت انحيازه في النهاية لهذه القيم الجديدة خلال ثورتيه الكبيرتين 1919 و1952·

النصوص

غير أن ذلك كله قد تغير كما ذكرت منذ اوائل السبعينات· وأنا لا أكن ضغينة شخصية للرئيس السادات، بل اني اقدر له تقديرا عظيما دوره في معركة العبور، واذكر له دوره في تحرير سيناء رغم الملاحظات والتحفظات، على الثمن المدفوع لذلك وآثاره الممتدة حتى اليوم· ولكن فيما عدا ذلك فان سياسته الداخلية كانت كارثة جلبت كوارث ممتدة ايضا حتى اليوم·

وفي سياق موضوعنا فهو قد بدأ عصره بحملة شاملة على الثقافة فأغلق المجلات الثقافية جملة، واغلق من بعدها المسارح الجادة، والمؤسسة الوطنية للسينما، وطارد وطرد المثقفين الحقيقيين من كل منابر الاعلام والثقافة، وبينما حسب البعض ان تلك ضربة لخصومه او من اعتبرهم خصومه من الناصريين واليساريين، فقد اتضح ان مشروعه ابعد من ذلك بكثير، فالضربة كانت موجهة في الواقع الى قيم النهضة العصرية التي اشرت الى ابرز ملامحها والى كل من يمثلونها او يحملون امانة مواصلتها من المثقفين، كان لابد من إخلاء الساحة من عناصر الممانعة والمقاومة للمشروع الفكري الجديد وهكذا نجح السادات في تشتبت مثقفي النهضة والتطوير في منافي الأرض، واسكات او اضعاف من بقى منهم في مصر، وجلب بدلا منهم مجموعة من الوعاظ المهاجرين منذ العهد الناصري الى دول الخليج، ولم يكن هؤلاء الوعاظ استمرارا بأي شكل لشيوخ مصر العظام مثل الامام محمد عبده او تلميذه الشيخ شلتوت ممن كرسوا جهدهم لجلاء مواءمة الاسلام للعصر ولكل عصر، وانه لا يعارض النهضة والتطور الاجتماعي بل يحث عليهما· وعلى العكس من ذلك كان هؤلاء الوعاظ الجدد في حينها معنيين تماما بابعاد الدين عن قضايا التطور الاجتماعي، والحض على طاعة الحاكم في المنشط والمكره، والمغالاة في التركيز على الجوانب الشكلية للعبادات·

وفتحت امام هؤلاء الوعاظ الجدد كل المنابر التي اغلقت تماما امام المثقفين المدنيين واكثر منها بكثير: كل الصحف والمجلات القومية، وافضل ساعات الارسال الاذاعي والتلفزيوني، ومطبوعات ومنشورات لا حصر لها في الوقت الذي لم يكن فيه اي مثقف يستطيع ان ينشر فيه كتيبا صغيرا، انفرد الوعاظ بساحة الرأي العام، وأضيفت عليهم قداسة ونسبت اليهم كرامات من ماكينة دعاية جبارة، فنجحوا بالفعل في التأثير على قطاعات كبيرة في هذا الرأي المغيب عن اي مناقشة او عن اي وجهة نظر اخرى·

اصبح الوعاظ سلطة دينية، وامسى على الجماهير الطاعة· ثم ان الوعاظ ردوا الجميل لصاحب الفضل، فاضفوا عليه بدورهم هالة دينية ثم جعلوه اماما· الم يقل قائلهم تحت قبة البرلمان ان السادات- لا يسأل عما يفعل؟- او لم ينته الامر باقتراح تسميته -سادس الخلفاء الراشدين؟- خطوة اخرى الى الامام نحو اعادة دولة السلطة الدينية·

عندئذ، او قبل إذ، دخل الاخوان المسرح فوجدوا المشهد مهيئا تماما·

جماهير ادارت ظهورها، او صرفت عنوة، عن كل مكتسبات الدولة المدنية التي ضحت من اجلها اجيال متعاقبة، واستبدلت بالعقلانية الاذعان والدروشة· وكان الاخوان هم عصب التيارات الدينية التي لجأ اليها السادات للقضاء على البقية الباقية من قوى المقاومة والممانعة للردة الشاملة، لا سيما في صفوف الطلبة والشباب اقوى اصوات الاحتجاج خلال السبعينات·

وعند ما اشتد عود بعض هذه التيارات الدينية، تعجلت تحقيق اهدافها ودخلت في صدام مباشر مع نظام السادات الذي خرجت من عباءته كما اسلفنا·

أما الاخوان فكانوا اذكى من ذلك بكثير، لم يختاروا الصدام بل المسايرة حاولوا ارضاء السادات بكل طريق، حتى بالامتناع عن نقد سياساته نحو اسرائيل التي ا غضبت كثيرا من القوى الوطنية، بل وكثيرا من أفرع الاخوان خارج مصر· اشتروا الوقت ليحققوا على مهل مشروعهم الخاص بالسيطرة على العقول، ومن ثم على المجتمع·

كان المئات او الآلاف من الاخوان المسلمين قد خرجوا من مصر في الخمسينات والستينات بعد صدام متكرر مع نظام عبدالناصر، ولا مجال للدخول في تفاصيل هذا الصراع او تحديد المسؤوليات او الاخطاء، وانما يكفي القول انه كان في جوهره صراعا بين رؤيتين لنظام الحكم في مصر· اما الدولة الدينية او الدولة المدنية·

وقد انحاز المجتمع في هذا الصراع للدولة المدنية، وخاض صراعا مع الاستعمار في الخارج مكسبه الرئيسي استرداد قناة السويس، وصراعا مع قوى الاقطاع والرأسمالية في الداخل لتحقيق درجات من العدالة الاجتماعية، ولتحقيق مكاسب في التنمية، هرمها الاكبر الباقي هو السد العالي· ثم جاءا بعد الانتصارات والمكاسب الهزائم والانكسارات منذ عام 67·

وفي  اثناء الانتصارات والهزائم كان الاخوان المهاجرون يحققون ثروات طائلة في المنافي الخليجية والاوروبية، وذلك اما على اساس ان تسعة اعشار الرزق في التجارة، او بطرق اخرى لا يعلمها الا الله، وكانوا في الوقت نفسه يحكمون اطراف تنظيم دولي يكاد يكون امبراطوريا "تحدث أمين صندوق هذا التنظيم الدولي على شاشة احدى الفضائيات عن استثمارات بمليارات الدولارات فبارك الله فيما اعطى"·

وبهذا السند القوي دخل الاخوان المسلمون مصر بمشيئة الله آمنين في عهد السادات كما اسلفت ليجدوا الارض ممهدة تماما امام الدعوة والدعاة فعملوا بهدوء وروية·

وتكفي الاشارة هنا الى بعض اساليب تغلغلهم التدريجي في المجتمع· بدؤوا كما ينبغي لأي سياسي حصيف بالنظام التعليمي نفسه· جندوا آلافا من المدرسين الحكوميين ومولوا انشاء مدارس خاصة اسلامية التوجه والمناهج· وقد يذكر بعض اولياء الامور في حقبة السبعينات الدهشة التي اصابتهم من تكثيف جرعة التلقين الديني لابنائهم في المدارس والتي كانت تنصب على تلقين النصوص واتقان الشعائر والعبادات دون تطرق الى المعاملات او المنهج الاسلامي لتقدم المجتمع وتغييره نحو الافضل، كان التعليم الاخواني يكمل ما يبثه اعلام الوعاظ الساداتي ويستفيد كل منهما من الاخر في نشر ثقافة التلقين والطاعة والتمهيد لسلطة الدعاة والوعاظ، لكي تؤتي هذه الثقافة أكلها حيث يشب الجيل عن الطوق· وفي هذا السياق نشأت ظاهرة حجاب النساء· لم يكن المقصود منها فقط نشر ما اعتبروه زيا اسلاميا، بل كان الهدف الاهم هو إعلان الحضور في الشارع وفي المجتمع والدعوة لاجتذاب مزيدا من الانصار· ولم يكن الانتشار سريعا وقوبل ايضا بنوع من الدهشة والرفض من مجتمع اعتاد على السفور لعشرات السنين من دون ان يرى فيه منكرا او خروجا على الاخلاق· وأذكر هنا مقالا لواحد من مفكري الاخوان يعتب فيه من منتقدي الحجاب بقوله نحن لا نعترض على سفور السافرات فلماذا تعترضون انتم على حرية المرأة في ارتداء الحجاب؟ ذلك قولهم في مرحلة الاستضعاف· اما الان في مرحلة التمكين فيعلوا الصوت الى درجة تكفير المرأة غير المحجبة، ولم لا؟ انظر حولك· لقد غزت ثقافتهم الشارع باكتساح، فمن يجرؤ على فتح فمه؟

في صحوة من صحوات الموت للدولة المدنية الرخوة انتبه وزير سابق للتعليم الى آثار تغلغل الاخوان في المدارس· لفتت نظره ايامها ظاهرة جديدة وغريبة هي ارتداء تلميذات من الاطفال في سن السادسة او السابعة الحجاب، وبدا ذلك "في حينها" مضحكا او مبكيا حسب، رأيك أظهر الوزير حزما، فابعد عددا من مدرسي التيار الاسلامي الى وظائف ادارية لمنعهم من التأثير على التلاميذ، واصدر قرارا بتعميم زي موحد في المدارس كان من شأنه نزع الحجاب عن الطفولة، لكن الوقت كان قد فات منذ زمن طويل على مثل هذا الضبط والربط· كان الامر قد استتب لحكم الوعاظ والإخوان للمجتمع، في المساجد والمدارس والجامعات والنقابات والإعلام، ومؤسسات اخرى، فكشر حكام المجتمع الجدد عن انيابهم وارغموا الوزير على سحب قراره· وبدا لمن يتابع الامر ان الانتقال من حكم المجتمع الى حكم الدولة هو مسألة وقت لاغير·

طريقة اخرى اختطها الإخوان للسيطرة على المجتمع وقد كتب عنها الكثيرون ولكن فيها الكثير من النظر، واعني بذلك الخدمات الطبية والاجتماعية التي يتبناها الاخوان ويقدمونها لا سيما في الاحياء الفقيرة· وللقائل هنا ان يحتج: بعد ان تخلت الدولة عن واجباتها نحو اضعف شرائح المجتمع، الا ينبغي توجيه الشكر للاخوان لانهم يجلبون بعضا من ملياراتهم لمساعدة المحتاجين حقا؟ او لا يصبح الشكر مضاعفا حين ترى لصوص العصر يفعلون العكس تماما فيهربون المليارات من اموال الشعب الى الخارج تحت سمع السلطة وبصرها؟ وفي هذه الظروف ما جدوى سفسطة أمثالي بان اعمال البر والاحسان الاخوانية هذه هي في الأساس وسيلة بليغة لنشر الدعوة واجتذاب الانصار، وانها لا تفعل الا القليل للقضاء على الفقر؟ كلا الأمرين صحيح هنا: الاحتجاج والسفسطة!

وحتى لا يتوه منا خيط الحديث فالمقصود ان إضعاف الدولة المدنية وفسادها قد يسر للإخوان تنفيذ مشروعهم في السيطرة على المجتمع، ومن بعد ذلك كتحصيل حاصل السيطرة على الحكم·

بدأ الأمر باقصاء المثقفين من انصار الدولة المدنية وتهميشهم حتى لا يكون لهم اي تأثير على الرأي العام "ومازال هذا مستمرا حتى اليوم" وحل محلهم في منابر الاعلام وعاظ يؤسسون للسلطة الدينية وفي التعليم والنقابات دعاة من الاخوان يمهدون لقيام الدولة الدينية "ومازال ذلك ايضا مستمرا"، ولم تظهر اي قوة جديدة تحمل مشروعا قويا ومقنعا يتصدى للمشروع الإخواني·

هوامش على بيان

نشر الاستاذ محمد السيد حبيب نائب المرشد العام للاخوان المسلمين مقالا قصيرا في صحيفة -الشرق الأوسط- السعودية التي تصدر في لندن، تحت عنوان غني بالدلالات فيما يظهر ويبطن، شأنه شأن المقال نفسه· والعنوان هو "حكم الاخوان غير وارد ولكن هكذا نتصور الحكم"· ويطرح العنوان منذ عبارته الاولى فكرة او احتمال حكم الاخوان ربما لاول مرة علنا على لسان مسؤول كبير في الجامعة، ثم يبادر فورا الى نفي الفكرة او الاحتمال، ومتروك للقارئ ان يعرف على اي النقيضين ينصب التركيز، وان لم تطل حيرته اذا ما فكر قليلا فها هو العنوان نفسه يبسط تصور الاخوان للحكم، لا تنصلهم منه· وعلى هذا النحو نفسه من التقية والحذر يشرح نائب المرشد معالم البرنامج الاخواني في الحكم في مقاله القصير·

وسأتوقف فقط عندما يعنيني في سياق هذا المقال اي تحديد دور الدين في الحكم ثم دور الثقافة في الدولة الاخوانية، ففي البند -ثانيا- من ا لمشروع يورد المشروع كلاما جميلا عن الفصل بين السلطات، ويقترح ان تختار السلطة التشريعية- مجموعة من أصحاب الكفاءات الفقهية والقانونية والسياسية لتقوم بوضع دستور جديد (···) يفصل اختصاصات السلطات مستهديا بقواعد الشريعة الإسلامية·

لن يكتفي المشرعون الجدد إذاً بالنص العام الوارد في الدستور الحالي وهو أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، بل يريدون للدستور الجديد أن يفصل اختصاصات السلطات الثلاث على أساس الشريعة الإسلامية·

فما الدولة الدينية ان لم تكن هذا بالضبط، اي تحديد مرجعية دينية مفصلة لكل مؤسسات الحكم؟

ثم من هم أصحاب -الكفاءات الفقهية- الذين ستختارهم السلطة التشريعية لوضع الدستور الجديد؟ هل هم فقهاء دستوريون مثلا؟ لا يبدو ذلك فهو يضيف بعدهم مباشرة -الكفاءات القانونية-؟ فمن هي يا ترى تلك الكفاءات الفقهية الا ان يكونوا فقهاء في الدين يعهد اليهم بوضع الدستور؟ ان كنت مخطئا فليحددوا لنا هوية هذه الكفاءات الفقهية·

ولماذا بدلا من ذلك كله لم يقترح المشروع الاخواني ان تضع الدستور جمعية تأسيسة منتخبة كما هو العرف الديمقراطي والمطلب الشعبي بدلا من تلك الكفاءات المختارة؟ وقد ترى الجمعية التأسيسية رأيا آخر، احكم، في شأن الدستور الموضوع للكافة·

فإذا انتقلت من البند الثاني الى البند الرابع من مشروع الحكم الاخواني المقترح فستقرأ مرة اخرى كلاما جميلا جدا عن اخواننا الاقباط الذين هم مواطنون لهم كافة حقوق المواطنة ولهم حقهم الكامل في تولي الوظائف العامة ثم بين قوسين "فيما عدا رئاسة الدولة"·

وانا لا أظن ان من مطالب الاخوة الاقباط الحالية رئاسة الدولة، ولكن في دستور اي دولة متحضرة يتم النص حصرا على حرمان اي طائفة من الحق في تولي اي منصب حتى ولو كان هو مجرد حق نظري يتعذر تحقيقه؟

ثم ما رئاسة الدولة "او الولاية العظمى" المنصوص عليها في هذا الاستثناء؟ هل رئاسة الجمهورية، وهي في نظم دستورية مجرد منصب شرفي، او رئاسة الوزارة التي هي الرئاسة الفعلية في نظم اخرى؟ أو كلاهما معا؟

في الهند، الدولة ذات الاغلبية الهندوسية الساحقة التي قامت بعد حروب طاحنة بين المسلمين والهندوس، تولى رئاسة الدولة الهندية المستقلة مسلمون أكثر من مرة حتى الان، الا يدفع هذا السيد حبيب، او من وضعوا البيان، الى شيء من التفكير؟

كان يجدر به او بهم السكوت الحكيم على الاقل عن هذا الامر، اللهم الا اذا كان المراد توصيل رسالة خفية، كالتي سعى الرئيس السادات الي توصيلها حين قال ببراءة وبراعة "أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة"

اذا انتقلنا الان الى ما يتضمنه المقال البيان عن الثقافة في ظل حكم الاخوان، فسنجد الامور اكثر وضوحا وسفورا، فهو يتحدث في البند الأول عن ضرورة توفير حرية الصحافة والفكر والابداع "في نطاق المقومات الاساسية للمجتمع وحدود النظام والآداب العامة"، ثم يعود مرة أخرى ليتحدث عنها في البند السابع فيقول نصا: "يقع على الحكومة عبء تشجيع الآداب والفنون بمختلف ادواتها ووسائلها شريطة ان يكون ادبا وفنا جادين وملتزمين بقيم المجتمع وثوابت الامة، بعيدا عن الاسفاف، والابتذال والاستخفاف بالعقول وتسطيح الافكار"·

لاحظ اولا قبل الدخول في الموضوع ان الحديث عن الشروط او القيود يفوق من حيث الحجم الحديث عن الحرية، ولاحظ كم هذه الشروط، واللغة العصبية التي صيغ بها هذا البند بالذات دون باقي بنود البيان·

وارجو الا افاجئ الاستاذ حبيب حين اقول له ان الفن والادب لم يعرفا هذه القيود الصارمة والقابلة للتأويل حسب المزاج وحسب التعصب الا في اشد عصور الانحطاط لاي مجتمع من المجتمعات، الابداع والحرية صنوان، وقد اشير على السيد حبيب بالرجوع ان اراد الى الانتاج الادبي في شتى عصور الحضارة الاسلامية وانا لا اشير هنا الى من يعرفون بشعراء المجون مثل ابي نواس وبشار، بل اشير الى اكثر الشعراء جدية وشهرة مثل ابي تمام والبحتري والمتنبي والى اكثر الناثرين تقوى واحتراما مثل الجاحظ او ابن حزم الاندلسي امام المفسرين من اهل الظاهر· ستثير دهشته ان قرأ ابداعهم الادبي وهم او غيرهم من ادباء المسلمين درجة الحرية في تناول موضوعات الجنس والدين بما لا يجرؤ على مثله أي كاتب معاصر من ادباء المسلمين ودون ان يحتج عليهم احد في عصرهم، كانوا يعرفون ان الضوابط الأخلاقية حسب الفهم المتزمت للاخلاق لا تحمي الفضيلة وانما تحمي الرذيلة وتخلي بينها وبين النفوس، على قول الدكتور العميد طه حسين·

القيد الوحيد المقبول على الابداع هو قيد القانون العام الذي ينطبق على المبدعين مثل غيرهم، وقد اثار نواب الاخوان ضجة كبيرة فيما عرف بقضية الروايات الثلاث، اذت الى سحب هذه الروايات من السوق واقالة الموظفين الذين سمحوا بنشرها·

ولم يكتفوا بهذا النصر، بل رفع احد محامي التيار الاسلامي قضية جنحة ضد الزميل الكاتب توفيق عبدالرحمن مؤلف رواية - قبل وبعد- احدى الروايات الثلاث على اساس ان روايته تتعرض لعلاقة زنا بين زوجة مسلمة وعشيقها وتصف تفاصيل العلاقة- وهذا ما تؤثمه احكام القرآن والسنة والشريعة الاسلامية - على قول عريضة الدعوى·

لكن محكمة العجوزة التي عرضت عليها القضية اصدرت حكما بليغا يجب ان ينحني له كل مثقف بل كان مؤمن بحرية الرأي· اذ قضت بان الاعمال الفنية لا يتوافر فيها عنصر القصد الجنائي الخاص، ومن ثم فقد رفضت قبول دعوى الجنحة المباشرة ضد المؤلف واخذت برأي الدفاع ان عمله عمل ادبي يحتكم في شأنه الى نصوص واحكام النقد الادبي لا الى نصوص قانون العقوبات·

شكرا للقاضي وللقضاء المصري آخر قلاع الدولة المدنية الباقية·

ومع ذلك فانني اشعر بخوف حقيقي فهؤلاء كما يتضح من المقال البيان لا يعتزمون الاحتكام الى القضاء ولا الى أحكام النقد الادبي، بل الى اثارة الجماهير التي لا تعلم شيئا من ذلك كله، وهم قد فعلوها من قبل، والخوف كل الخوف وقد دانت لهم هذه الجماهير· ان يثيروها من جديد بالدعاوى الاخلاقية الكاذبة لكي يحرقوا الكتب ان لم يكن الكتاب···!

لماذ كل هذا التعصب والعصبية؟ ربما لان المثقفين هم الان، مثلما كانوا منذ البدء ورغم كل ما اصابهم من إضعاف وتهميش هم ايضا آخر قلاع المقاومة ضد مشروع الدولة الدينية التي يرونها قريبة المنال، ولا اظنهم مخطئين تماما، لكني ككاتب وكمسلم سأظل ارفضها واقاومها مستهديا برأى الشيخ الامام في رفض اي سلطة دينية خارجية على ضمير الإنسان·

ولمؤرخنا العظيم ابن خلدون رأي جدير بالنظر فيما نحن فيه الان، فقد لاحظ ان الفتن التي تتخفى وراء قناع الدين تجارة رائجة جدا في عصور التراجع الفكري للمجتمعات، اذ يتواتر ظهور الجماعات التي تدعو الى اقامة شرع الله والعمل بسنة نبيه عليه السلام ويصل في تحليله الى جوهر الموضوع فيقول "وأكثر المنتحلين لمثل هذا تجدهم يطلبون بهذه الدعوة

رئاسة امتلأت بها جوانحم وعجزوا عن التوصل إليها بشيء من أسبابها العادية فيحسبون أن هذا من الأسباب البالغة بهم إلى ما يؤملونه"·

غير أني اختلف مع ابن خلدون بعد ذلك حين يقول "إن ما يحتاج إليه في أمر هؤلاء هو إما تسليمهم لصاحب الشرطة، أو وضعهم في بيمارستانات المجانين"·

فالواقع أن هؤلاء قد دفع بهم مرارا إلى صاحب الشرطة ومازالوا يدفعون، فلم يزد هذا دعوتهم إلا انتشارا، وإلا احتراما يستحقونه لدى الجماهير مثلما يستحقه كل من يضحي من أجل عقيدته أيا كانت· إنما ما يحتاج إليه في أمرهم هو أن ينهض من جديد أنصار الدولة المدنية المؤمنون بأنها هي التي قدمت ومازالت قادرة على أن تقدم خيرا كثيرا لهذا الوطن، وأن يطرحوا برنامجا معاكسا في الاتجاه ومساويا في الأهمية لفكر الإخوان المسلمين·

ويستغرق ذلك وقتا لا محالة، أرجو أن يكون أقل من الوقت الذي استغرقه الإخوان لينفذوا مشروعهم في السيطرة على المجتمع·

أما "البيمار ستانات" فيبدو والله أعلم أنها ستكون من نصيبنا نحن ما لم تتغير هذه الحكومة التي تدفعنا إلى الجنون بأفعالها وبانعدام أفعالها على السواء·

* عن: www.al-araby.com  

جريدة الحزب العربي الديمقراطي الناصري

طباعة  

جون بيركنز في "التاريخ السري للإمبراطورية الأمريكية" (1)
المخربون الاقتصاديون... وأبناء آوى... والحقيقة عن الفساد المعولم!