إذا كانت من المسلمات الموضوعية المتعارف عليها في المجتمع الدولي بأسره بأن لا نمو ولا تقدم اقتصاديا وصناعيا ولا نهوض علميا وحضاريا معاصرا من دون تشييد نظام ديمقراطي يكفل ترسيخ دولة المؤسسات وسيادة القانون ويتحقق بموجب هذا النظام فصل حقيقي بين السلطات الثلاث التنفيذية والقضائية والتشريعية وضمان تحقق الحريات العامة بما فيها حرية التعبير والبحث العلمي وحرية الحصول على المعلومات، فمن باب أولى أن تكون حرية التعبير في المجال الإعلامي - وضمنه الإنتاج والاستثمار الإعلامي - هي الشرط الأول والأساسي لنجاح هذا الاستثمار، لذلك لا غرابة إذا ما كانت أكثر الدول نجاحا وتفوقا في الإنتاج الإعلامي من أفلام سينمائية وصحافة وأعمال درامية هي نفسها الدول التي قطعت شوطا عريقا - أو حدا أدنى منه معقولا - في تشييد وترسيخ نظامها الديمقراطي·
وإذا ما أتينا الى الضجة المفتعلة حول مسلسل "الأخ الأكبر" والتي ذكرنا أنها لم تحظ بالتركيز الكافي فيما يتعلق ببعدها الأعمق المتصل بمستقبل الاستثمار الإعلامي باستثناء أقلام محدودة فإن هزيمة هذا المشروع الإعلامي الاستثماري بصرف النظر عن مستواه الهابط الذي تطرقنا إليه سابقا سيلقي بظلاله ومغزاه على مدى نجاح دول مجلس التعاون في هذا القطاع من القطاعات الاستثمارية الإنتاجية، ذلك أن معظم دول المجلس ما زالت تفتقر الى حد أدنى من مناخ الحرية الإعلامية في ظل غياب تحديث ودمقرطة مؤسساتها السياسية واستمرار الهياكل والمؤسسات المتقادمة الموروثة من عهد السيطرة الاستعمارية والتي مازالت تتوجس من المشاركة الشعبية في صنع القرار السياسي، وما زال صانعو القرار في هذه الدول يحتكمون الى معايير الولاء التقليدية والقبلية في بناء الكوادر والقيادات الإدارية بديلا عن المعايير الموضوعية للكفاءة والخبرة والمؤهلات·
ولما كان قطاع كبير من القائمين على المؤسسات الإعلامية الخليجية، وضمنها مؤسسات الإنتاج الإعلامي الخاص، يعيشون حالة من الانفصام الشخصي، إذا جاز القول بين الإيفاء لنمط أفكارهم وأساليب حياتهم الشخصية التي هي أقرب الى ما يمكن أن نطلق عليه مجازا حياة الحداثة العصرية أو "الحياة العلمانية" وبين الإيفاء والولاء للشعارات التقليدية الإسلامية المعلنة والتي تستمد منها دول المجلس شرعيتها أو جزءا منها عوضا كاملا أو جزئيا عن الأنظمة الديمقراطية والدستورية، لذلك لم يكن بمحض المصادفة أن يختار بعض رجال الأعمال الخليجيين العواصم الغربية كلندن مقرا أو مكانا لإطلاق وتأسيس مشاريعهم ومؤسساتهم الإعلامية وتوظيف رؤوس أموالهم فيها وضمن رجال الأعمال هؤلاء أفراد أو مقربون من العائلات الحاكمة وذلك للتحرر من القيود السياسية والدينية المتشددة المفروضة على الإنتاج الإعلامي الدرامي والتلفزيوني كما هي مفروضة على حرية التعبير·
وما كانت هذه المؤسسات الإعلامية والصحافية العربية اللندنية أن تحقق ذلك النجاح منقطع النظير لو أنها انطلقت من بلدان مالكيها ومستثمريها الخليجيين·
ولعل المغزى في فشل "الأخ الأكبر" أنه عندما توهمت المجموعة الاستثمارية المنتجة بأنها ستجد متسعا نسبيا من الحرية يحقق أحلامها في الرخاء الاستثماري الإعلامي السريع بما توفره البحرين من أجواء غير متوافرة في بقية بلان الخليج فإنها اصطدمت بالبون الشاسع من المتغيرات السريعة التي طرأت على المجتمع البحريني المتمثلة في قوة نفوذ تيار التقليد والجمود وتشدده فما كان من المجموعة إلا أن قررت الانسحاب ولاسيما في ظل عجز المؤسسة الإعلامية الرسمية عن دعمها في هذه المعركة لعدم رغبتها في الظهور بمظهر المتصادم مع هذا التيار الذي تستمد أنظمة الخليج شرعيتها بالكامل أو جزئيا من شعاراتها بديلا عن النظام الديمقراطي الكامل أو الحد الأدنى من سقفه المقبول·
ü كاتب بحريني |