قبل حرب العراق الأخيرة·· كان الناس منقسمين بين رأي يرى أن الحرب هي حتما واقعة·· وبين رأي آخر كان يرى أن الولايات المتحدة وبريطانيا لا يمكن أن تغامرا بالدخول داخل أدغال المستنقع العراقي الخطير!!

أتذكر أنني أدمنت قراءة تاريخ العراق بعد غزو نظام البعث لبلدي·· وقد كانت أكثر تلك القراءات تحديدا وتفعيلا للوضع العراقي كتب المؤرخ "حنا بطاطو"·· التي جعلتني أنضم لفئة المشككين في احتمال قيام الغرب بالتورط في أي نوع من أنواع التواجد العسكري المباشر في داخل أكثر المجتمعات تعقيدا!! فالتاريخ سواء ما ورد منه في مؤلفات "حنا بطاطو" أو غيره يؤكد صعوبة العبث في ذلك الموزاييك العراقي المعقد·· ناهيك عن تغييره أو تفتيته·· أو إقامة مجسمات جديدة لدمجها في الموازييك العراقي الأساسي!!

الذين يستغربون (ثورة) العراقيين اليوم (ومقاومتهم) الشرسة والعنيفة·· في مقابل الخنوع والخضوع المفرط لآلة العنف الصدامية طوال أكثر من ثلاثين عاما·· لا يدركون أن السبب الرئيسي وراء ذلك هو في كون صدام حسين وحرسه وحزبه جزءا من ذلك الموزاييك!! صحيح أن هنالك أيادي خارجية تحرك (المقاومة) العراقية وتغذي العنف والتمرد فيها·· لكن تلك الأيادي لم تكن لتنجح في مهمتها لو لم تكن لها مرجعية تستند إليها داخل التركيبة الأساسية لموزاييك العراق المعقد!! الآن وبعد ثلاثة أعوام على حرب (تحرير العراق) يبدأ الكثير ممن أسرفوا في ثقتهم بحسم الحرب لصالح المعسكر الغربي·· أو لنكن أكثر تحديدا·· للطرف الأمريكي والبريطاني·· يبدأ هؤلاء في مراجعة أقوالهم وآرائهم!! بعضهم يفعل ذلك لتبرئة نفسه - ولو متأخراً - من خطأ تاريخي سيدفع ثمنه العالم كله·· أحد  هؤلاء المفكر الأمريكي ذو الأصل الياباني "فوكوياما" صاحب نظرية "نهاية التاريخ"·· التي تحولت من مجرد مقالة في إحدى المجلات·· إلى ثورة داخل الفكر الأمريكي المحافظ الذي ينتمي إليه "فرانسيس فوكومايا"!!

بالنسبة "لفوكومايا" فإن سقوط حائط برلين في العام 1989 لا يشكل نهاية للحرب الباردة وحسب·· وإنما بداية لنهاية الصراع الإيديولوجي·· وتدويل الفكر الليبرالي الديمقراطي الغربي الذي سيكون المحطة الأخيرة في تطور الفكر السياسي البشري!!

وانطلاقا من ذلك·· فقط وقع "فوكوياما" ومعه "رامسفيلد" و"ولفويتز" رسالة رفعوها للرئيس الأمريكي آنذاك "كلنتون" يحثونه فيها على الإطاحة بصدام حسين!!

الآن وفي ظل التورط الأمريكي الواضح في العراق·· يتراجع "فرانسيس فوكوياما" عن رؤيته ويعلن في مقال نشرته "الصندي تايمز" إنه كان مخطئا في حساباته!!

ويبقى السؤال: كم يا ترى حجم الخسائر البشرية التي دفعها ويدفعها العالم وشعوبه بسبب حسابات سياسية خاطئة·· ونظريات ليس لها وجود على أرض الواقع؟؟ الإجابة بلا شك واضحة ومؤلمة·· نلمسها يوميا فيما نتلقاه ونسمعه من أخبار عن نزف مستمر للدماء·· وللثروات·· وللتاريخ البشري بأكمله؟؟!·

suad.m@taleea.com