التجارب ثقافة الحياة وخزان معارف الشعوب ومختبر فكرها والمرجعية الأكثر مصداقية للفتوى والتوحيد·· والشهادة غير القابلة للتشكيك·· وأهميتها تكمن بما تقدمه لشعوب من عصارات فكرية ومعرفية توفر الكثير من الجهد في أي تواجد نهضوي·· والأمم التي توّجت من الأوائل في السباق الحضاري هي من استخلصت أكبر قدر من الفائدة التاريخية ووظفتها وعياً، وتنمية في مشروعها الحداثي·
خدمة الدراسة والتحليل غير متوافرة في أدبياتنا لعدم توافر الوعي اللازم لذلك·· وهذا ما يفسر كثرة في الانزلاقات واقعنا وما ترتبه من تكاليف وأثمان دونما أي جهد مهما كان مقتضبا لجانب من الأسباب وذلك لضرورة التدارك·· وقوى التغيير في المجتمع تتحمل جزءا مهما من هذا القصور لأنها سايرت الواقع ولم تسيّره·· ولم تدرك، أهمية النقد الذاتي في مسيرتها ومقدرته على إنضاج الفكر والوعي وتطوير الأداء بل مقدرته العلاجية على ترميم البنى والهياكل وكل نقاط الضعف في ملف الفعل والتفاعل مع المجتمع·· وتنظيم الإخوان المسلمين في سورية هو أحد مكونات المجتمع السوري وجزء من رأيه العام والذي خاض تجربة دموية مع النظام في حقبة الثمانينات وفق أجندة طائفية لا تخلو من شبهة خارجية والتي كلفت الوطن غاليا·· إذ ما زال السوريون يدفعون فواتيرها حتى الآن من حريتهم ومن تطلعاتهم في التغيير الديمقراطي المنشود·· ومن وحي هذه التجربة يفترض أن يكون النضج قد تسلل الى الذاكرة الإخوانية! وانعكس إيجابا على تكتيكاتهم وعلى مجمل خطهم السياسي الوطني·· وفعلا جاءت بعض مواقفهم وجانب من رؤيتهم السياسية بعد السنوات العجاف لتشير الى حدوث تغيير ما في الذهنية وفي طريقة التعاطي الوطني·· وهذا ما شجع الطيف السوري المعارض على المطالبة بعودتهم كحق وطني وديمقراطي·· وكان الثمن للأسف إغلاق منتدى جمال الأتاسي كآخر منافذ التهوية·· ولكن التفاؤل بنضجهم كان سابقا لأوانه كما ذكرنا في مقالات سابقة إذ سرعان ما تبدد بتحالفهم مع أحد رموز الفساد في سورية - عبدالحليم خدام - والتوافق معه على آلية التغيير·· إضافة الى مباركتهم لتشنجات المقاول وليد جنبلاط السورية والداعية لاحتلالها أمريكيا وفرض الوصاية عليها رغم أنهم قد أعلنوا من قبل عن تأييدهم لإعلان دمشق الرافض لأي مسّ خارجي للوطن ولأي تحالف مع رموز الفساد·· والسؤال أين النضج··· وأين الذاكرة؟؟! إذ كيف يحارب الفساد بالفساد·· وهل تستصلح التربة بالأملاح؟؟!
فمشروعية التكتيك تأتي من سلامة التوجه والمستمدة بالضرورة من الخلفية الفكرية لهذه الحركة أو تلك، ومن صفاء ونقاء رؤية التغيير لديها·· والمشهد السوري الحالي يحتاج الى وقفة مسؤولة والى تحالفات نظيفة وواعية تجيد القراءة والحساب في المسألة الوطنية والمفتوحة اليوم على كل التهديدات الخارجية آخذة في الاعتبار (النموذج العراقي) وتداعياته على أوضاع المنطقة عموما ومدى انعكاس أي خطوة غير ذكية على الوضع الداخلي·· وخاصة أن الأميّة السياسية للإخوان المسلمين قد أوصلت البلاد في الماضي الى الهلاك لاعتمادهم على المسبق الصنع في الحركة والفعل وعلى مقدرتهم في توظيف النص للتأجيج إضافة الى قناعتهم بأن أي نعثر في الأداء حتى لو كان تهورا لا يؤثمهم باعتباره (اجتهاد خاطئا) والمشرعن فقها·· وهذا ما أعفاهم من التحليل والاستقراء ومن مدنية التفكير·· ولذلك نراهم اندفعوا وبالسطحية السابقة نفسها في التحالف اليوم مع الفساد وإنما بواجهة ديمقراطية تعكس الرغبة في إسقاط أوراق التكفير التي وصمت مشروعهم الإصلاحي سابقا·
مهما كانت وجهة النظر فالخيار الديمقراطي خيار استراتيجي لا يحتمل الاستبعاد والتهميش لأن الكل شركاء في بناء الوطن والطيف الديني جزء من المكون الوطني ومشاركته حاجة وطنية وديمقراطية وذلك لتأمين رصيد معقول من الوسطية والاعتدال والذي لا يتكاثر إلا في رحم الديمقراطية وإنما برموز وطنية رغم هواجس البعض من مغبة الاستئثار وإلغاء الآخر استنادا الى نظرية (التفويض الآلي) والمعتمدة من التيارات الدينية المختلفة يقينا·· ولكن الضمانة تبقى في القوى الديمقراطية والتي يقع على عاتقها مهمة تعميق الوعي الديمقراطي لتصبح الديمقراطية ضمانة حقيقية لأي تحول أو انسلاخ يعيدنا إلى الوراء· |