| ظلت دول مجلس التعاون على مدى نحو ربع قرن منذ سني طفرتها النفطية مولعة بالتباهي بما حققته من إنجازات تنموية و”حضارية” لشعوبها بما في ذلك تطوير البنية التحتية والخدمات العامة· وكان أغلب شواهدها ودلالاتها على تحقيق هذه الإنجازات - علاوة على إدراج أرقام الناتج القومي في مجالات مختلفة ولا سيما النفط - استعراض صور ومشاهد الشوارع والعمارات الحديثة والفلل الخاصة العصرية على أطراف المدن، ولا سيما الساحلية، بما في ذلك الصور البراقة لمشاريع المدن الإسكانية من الخارج·· وتتكرر الصور معظمها سنويا تقريبا كل عام في العيد الوطني لكل دولة كدلالة على ما حققته من قفزات في التنمية· لكن نادرة - إن لم تكن معدومة - هي البيانات التي توضح حجم التشغيل الكامل للقوى العاملة الوطنية ومعدلات ومستويات أجورها، ونادرة هي البيانات التي توضح حقيقة حجم استيعاب المشاريع الإسكانية لمعظم العائلات التي ما زالت من غير أي سكن، ونادرة هي البيانات - إن لم تكن معدومة - التي تبين مستويات هذه المشاريع الإسكانية ومواصفاتها تصميما وعمرانيا وخدمات للمستفيدين منها، ونادرة - إن لم تكن معدومة - هي البيانات الدقيقة التي تبين حجم ومستوى الخدمات الصحية والتعليمية ومستويات كل منهما ومدى كفاءتهما·
ومع أن لا أحد يقلل مما حققته دول المجلس من إنجازات في الخدمات والبنية التحتية·· الخ إلا أن الجانب الآخر الذي ظلت دول المجلس تتجاهله أو تطمسه على الدوام منذ سني طفرتها النفطية حتى يومنا هذا هو المتعلق بغياب الحد الأدنى من المساواة والعدالة الاجتماعية فيما بين شرائح وفئات شعوبها ،الأمر الذي طبع عملية التنمية في هذه البلدان بطابع مشوه باعتبارها تقوم في الغالب لصالح قلة من شعوبها على حساب الأكثرية وتقوم على مصدر رئيسي شبه وحيد للدخل “النفط” بدلا من ضمان تنوع مصادر الدخل، كما تقوم في الغالب على اقتصاد طفيلي غير منتج بدلا من اقتصاد منتج عماده الصناعات المختلفة وهو اقتصاد تابع بمعظمه للغرب يفتقر الى الاستقلالية والاعتماد على الذات·
أما أوجه الإنفاق والتبذير فحدث ولا حرج بما في ذلك هوس الانفاق على التسلح والأمن والدفاع على حساب التنمية المتوازنة المستدامة غير المشوهة·
ولعل واحدا من أهم مظاهر الطمس والتجاهل لهذه التنمية المشوهة غير المتوازنة الأزمة الإسكانية وهي أزمة تعرفها دول المجلس جميعها وإن بدرجات متفاوتة فقد ولعت هذه الدول ببث ونشر صور الشوارع والعمارات والفلل الحديثة كدلالة على ما قطعته من شوط كبير في التنمية، وهي مشاهد مضللة للمتابع والمطلع عليها من خارج هذه الدول غير العارف ببواطن الأمور في قاع مجتمعاتها، فخلف معظم هذه الشوارع وسلاسل العمارات الكورنيشية الجميلة المصطفة تقبع مباشرة أو على مقربة منها أحزمة الفقر والبؤس الإسكانية التي لم يمر عليها أي شكل من أشكال التنمية وما زالت تعيش في خليج ما قبل النفط، وقد ظلت صور مثل هذه الأحزمة أشبه بالعورة محرم نشرها أو بثها في مختلف وسائل الإعلام الخليجية دهرا من الزمن·
أخيرا أو بعد أن طفح الكيل بدأ شيء من التوجه الخليجي لكسر هذا “التابو” بالاعتراف بهذه الصور المشوهة للتنمية ووقف سياسة دفن الرؤوس في الرمال طويلا بتجاهلها·· فبعد أسابيع قليلة من زيارة سمو ولي العهد البحريني لقرية “المقشع” التي صدمت صور بيوتها الخلفية غير العالمين ببواطن الأمور في داخل وخارج البحرين، نشرت وبثت وسائل الإعلام السعودية قبل أيام صورا لمساكن موغلة في القدم بقلب عاصمة أكبر دولة خليجية مصدرة للنفط بل هي واحدة من أكبر دول العالم المنتجة له قام بزيارتها وتفقد أحوالها ولي العهد السعودي الأمير عبدالله حيث اتضح أن هذه الأحياء بسكانها ما زالت تعيش في عصر ما قبل النفط·
بلا شك أن انتهاج هذا الأسلوب الخليجي في التعامل مع المشكلة بشجاعة والاعتراف بها هو خطوة الى الأمام نحو حلها شريطة أن تعقبها المتابعة الجادة نحو تدارس سبل حلها السريع وهذا أول الغيث· أما إذا جاءت زيارات المسؤولين الخليجيين مجرد زيارات موسمية انتقائية لبعض الأحزمة لا كلها وانتهت بحلول ترقيعية مؤقتة فإن هذا سيكون مجرد أول الغيث وآخره لتظل مشاهد التنمية الخليجية المشوهة تراوح مكانها!
* كاتب بحريني |
