رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 21 فبراير 2007
العدد 1763

السلطة الذكورية في حضرة الموت
د. فاطمة البريكي
sunono@yahoo.com

لا تزال السلطة الذكورية تحكمنا في كثير من الأمور التي لا تقع ضمن حدود صلاحياتها دينًا وعقلاً، ولكن يبدو أنها تحتكم إلى العرف، في حين أن العرف بريء منها في كثير من الأحيان·

لقد ألفنا أن يفرض الأب سلطته لأنه الأب، ويحق له الكثير مما يتعلق بشؤون أبنائه، لأنه أعلم بما يَصْلُح لهم، وما يُصلِح أحوالهم· ولكن هذه المعرفة لا ينبغي أن تمنحه الحق في تسيير جميع شؤون حياتهم الصغيرة والكبيرة، ولا أن يتمادى بموجب الحق الأبوي ليقرر عنهم مصائرهم في أمور الدراسة والوظيفة والزواج وغيرها·

كما ألفنا أيضًا أن يفرض الأخ سلطته على أخواته، وأحيانًا يفرض سلطته على أمه، برضاها أو حتى دون رضاها، لأنه رجل البيت، وهو الشخص الثاني في الترتيب الأسري بعد الأب، وهذا يمنحه الحق في أن يتصرف كأنه هو الأب إن غاب، وفي بعض الأحايين إن حضر أيضًا·

وهذا الأخ من حقه أن يفرض سلطته على أخواته حتى الأكبر منه سنّا، هذا ما يحدث في كثير من العائلات، إلا من رحمها ربي إما بوعي الوالدين وتحررهما من هذا القيد الذي صنعه المجتمع بنفسه، أو بتمرد الأخوات أنفسهن في بعض الأسر، ورفضهنّ الانصياع لسلطة إضافية تُضاف إلى سلطة الوالدين·

وطبعا ألفنا أن يفرض الزوج سلطته على زوجته، مستغلا حق القوامة استغلالا سيئًا، ينمّ عن فهم قاصر وإدراك ضيق· والتصرف إزاء الفهم الخاطئ لسلطة الزوج يعتمد على درجة وعي الزوجة نفسها، ومدى حنكتها وقدرتها على تجاوز مثل هذه الأمور بأقل الخسائر· لكن إذا كانت هذه السلطة قد فرضت نفسها فيما يتعلق بشؤون الحياة، فهل يعني هذا أن تفرض نفسها فيما يتعلق بشؤون الممات أيضًا؟ لا أظن أن هذا ما يجب أن يكون·

أكتب هذا التساؤل على هامش حوارات مطوّلة حضرت الكثير منها بين أفراد عائلة توفي فيها الابن الأكبر، وأرادت زوجته وبناته وقريباته من المحارم رؤيته قبل دفنه، نظرة أخيرة، خصوصًا أن من بينهن من لم ترَه منذ مدة طويلة، فإذا بالصوت الذكوري يرتفع رافضًا هذا الطلب، ويتدخل في هذا الرفض جميع ذكور العائلة: إخوة المتوفّى، وأبناؤه، وأزواج أخواته، وأبناء الأخوات، وأبناء العم والعمومة، وكل من يعتقد أن من حقه أن يدلي بصوته طالما أنه من العائلة·

ابن المتوفى يمنع أمه وأخواته من الزيارة بحجة أنهن لن يحتملن رؤية الوالد بعد أن انطفأ نور عينيه، ومنعه هذا يسري على عماته وبناتهن أيضًا· وأزواج بعض الأخوات يمنع زوجته ويعمم المنع أيضًا بحجة أن النساء لا يصح أن يذهبن إلى ذلك المكان الذي يغصّ بالرجال! يا للعجب، في ذلك المكان، وأمام ذلك الرجل المتوفى المكان يغصّ بالرجال الذين تربطهم بالمتوفى علاقات قرابة بعيدة، أو صداقة، أو زمالة، أو جيرة، أو غير ذلك· جميعهم موجودون ويملؤون المكان، وليس من حق زوجته التي قضت معظم سنيّ حياتها معه وبناته اللواتي يحملن اسمه، وأخواته اللواتي باعدت بينه وبينهن دروب الحياة، زيارته!

المثير في الأمر هو أن النساء بعد أن عدن من تلك الزيارة قدّمن صورة مختلفة تماما عما صوره لهن الصوت الذكوري؛ فالمكان قد أُفرِغ من الرجال بمجرد رؤية النساء تلقائيًا، إذ انسحب الرجال بكل هدوء لإتاحة الفرصة لقريبات المتوفى للدخول والسلام عليه· والهدوء والنظام كانا يتصدران الموقف في حضرة الموت وجلاله، لأن الدخول للغرفة التي كان يرقد فيها المتوفى قبل نقله إلى مثواه الأخير كان محدودًا، إذ لا يُسمح بدخول أكثر من أربع أو خمس نساء في المرة الواحدة تجنبًا للبلبلة التي قد تحدث عند زيادة العدد، وقد كان أحد الشيوخ حاضرًا في الغرفة نفسها، مما يخلق جوا من الحذر والحياء لا يسمح للمرأة برفع صوتها بالبكاء أو بالتمادي في الندب والنواح· وبمجرد أن تخرج مجموعة تدخل مجموعة أخرى، وهذا يقلل كثيرا من الاحتمالات التي كان أولئك الرجال يتعذرون بها لمنع النساء من تلك الزيارة· إذ كان من الأسباب المهترئة التي قدمها بعض رجال العائلة في سياق رفضهم لأخذ النساء اللواتي كنّ يصارعن رجالهن في الوقت الضائع، أنهن قد لا يحتملن رؤية المتوفى فيعلو صوتهن بالبكاء والصراخ - مع العلم بأن عدد الراغبات في الذهاب لرؤية المتوفى آنذاك كان يربو على الخمس عشرة امرأة، وكان من الطبيعي أن تتفاوت قدرتهن على احتمال ذلك الموقف، ومن الطبيعي أيضًا أن تصبّر بعضُهن بعضًا- ولكني أتساءل مع هذا: إن لم تبكِ النساء فقيدهن فما فائدة الدموع إذن!

لقد أراد الرجل ممارسة سلطته المزعومة في حضرة الموت، وهو موقف صعب على الجميع، ولكن الرجال كانوا أنانيين جدًا، ولم يفكروا سوى بأنفسهم· كما أنهم كشفوا عن صفة أخرى ظهرت في ذلك الموقف، وهي التأثر بآراء بعضهم حتى إن كانت لا تقوم على أساس قوي؛ فإذا كان مما يُقال عن النساء إنهن شديدات التأثر بآراء بعضهن، وأن بإمكان إحداهن تغيير وجهة نظرها بسهولة بتأثير إحدى قريباتها أو صديقاتها، فإن الأمر لا يختلف كثيرًا مع الرجال؛ فقد رأيت بعض أولئك الرجال متذبذب الموقف إزاء إلحاح العنصر النسائي على طلب الزيارة، وبعد أن وافق في البداية، نزولاً عند ما يقتضيه العقل والموقف، عاد وغيّر رأيه بتأثير آخرين ألقوا في أذنه كلمة عابرة ليس لها مرجع ديني أو عقلي ولا حتى عرفي توجه بضرورة عدم الاستجابة لمطالب النساء والنزول عند رغبتهن في زيارة المتوفى، وهكذا يعود الرجل في كلمته دون سبب مقنع، أو مبرر مقبول·

في النهاية فرضت النساء رغبتهن، فالموقف لا يحتمل الاستسلام لأوامر ورغبات من لا حق لهم في فرضها، وإذا فوّتت إحداهن فرصة رؤية المتوفى في ذلك اليوم فليس بإمكانها إعادة الزمان إلى الوراء بعد أن يتوارى الجثمان تحت التراب· وهذا ما يجب أن يحدث في المواقف التي يدعمها رأي الدين، ولا يوجد فيها مخالفة شرعية أو عرفية، وبهذه الطريقة ستشعر كثيرات من النساء أنهن يعشن على سطح الأرض، ولا يقبعن تحته وهن أحياء·

لا أريد أن أقوّض سلطة الرجل التي فرضها الله عز وجل، ولكن هذه السلطة يجب أن تظل في الحدود التي فُرضَت، لا أن تتوسع وتمتد حتى لا ترى لنفسها حدًّا، وإن أردنا أن نريها هذه الحدود، أو أن نعيد رسمها لها بعد أن درست لطول سكوت النساء عن حقوقهن حتى نسيت النساء -كما نسي الرجال- أن لهن حقًّا، وُوجِهت النساء بالصوت العالي الذي يرفض أن يسمع صوتًا آخر يعارضه، أو يوقظه من متعة سلطته التي فرضها أو مُنِحها في غفلة من النساء ذات زمن·

وقد يكون من العسير على كثير من الرجال تقبل بعض التغييرات التي من شأنها أن تعود ببعض الآراء إلى مواقعها الصحيحة، ولكن ينبغي التذكير أننا لسنا بصدد المطالبة بما يخالف الدين ولا العرف، ولكنها محاولة للتنبيه على ضرورة الالتفات إلى ما للنساء فيه حق معلوم، كحق المرأة في رؤية قريبها المتوفى قبل أن يوضع في مثواه الأخير·

كما ينبغي التذكير أيضًا بأن الكلام لا يعمّ جميع الأسر، بل يمسّ فقط بعض الأسر التي لا تزال محكومة - باستماتة - بنظرة التفوق الذكوري الذي يمنح نفسه سلطة على الآخرين، ولن يكون هؤلاء الآخرون سوى ضحاياهم من النساء المحيطات بهم·

*جامعة الإمارات

 sunono@yahoo.com

�����
   
�������   ������ �����
الأشقاء الأشقياء
القارئة الصغيرة
الامتلاء من أجل العطاء
كيف نسكت ضوضاء نفوسنا
التفكير من أجل التغيير
تطوير العقول أو تغييرها
تطوير العقول أو تغييرها
انتقال الحذاء من القدم إلى الرأس
الكبيرُ كبيرٌ دائمًا
إنفلونزا الطيور تعود من جديد
معنى التجربة
السلطة الذكورية في حضرة الموت
الطيور المهاجرة
"من غشنا فليس منّا"
كأنني لم أعرفه من قبل
ثلاثية الحضور والصوت والكتابة
المطبّلون في الأتراح
بين الفعل.. وردة الفعل
التواصل في رمضان
  Next Page

حكاية شاعر عاشق لمصر(2-2):
سليمان صالح الفهد
لماذا يمجدون الطاغية؟ :
د.عبدالمحسن يوسف جمال
نحن جميعا ألكساندرا!!:
سعاد المعجل
مهلا سيد بلير!!:
د. محمد عبدالله المطوع
شكرا كرة القدم:
ياسر سعيد حارب
سفارات وسفراء:
المحامي بسام عبدالرحمن العسعوسي
تسمم صحافي!!:
الدكتور محمد سلمان العبودي
"التفكير الخالق للمعرفة":
عادل رضـا
هوية في مهب الريح:
د. لطيفة النجار
أين وزارة التربية من مدارس التعليم الخاص؟:
محمد بو شهري
مقبرة للحاضر وأخرى للتاريخ:
مريم سالم
هلا فبراير.. دعوة فرح حزينة:
على محمود خاجه
السلطة الذكورية في حضرة الموت:
د. فاطمة البريكي
النفوذ اليهودي في ألمانيا:
عبدالله عيسى الموسوي
دواوين الظل ولوبيات الناخبين.. ونواب بوطقة!:
خالد عيد العنزي*
لا يتعلم جورج بوش من تكرار أخطائه:
د. نسرين مراد