رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 16 مايو 2007
العدد 1774

التفكير من أجل التغيير
د. فاطمة البريكي
sunono@yahoo.com

كثيرًا ما نتساءل عن طبيعة الطريق التي قطعتها الشعوب الأخرى التي سبقتنا في مشوار التطور بمئات الأميال· وحين نفكر في هذه الطريق، لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من إجراء مقارنة تلقائية بين الطريق الذي نسير عليه منذ عقود، والطريق الذي نتوقع أن تكون تلك الشعوب قد سلكتها منذ عقود، وربما قرون، استطاعت بعدها أن تكون حيث هي اليوم، في حين أننا لا نزال نقبع حيث كنا قبل عقود، وربما قرون أيضًا·

حين ندخل مواقع الإنترنت الأجنبية، كمواقع الجامعات، أو المواقع التعليمية عامة، نفاجأ بقوة تلك المواقع، وبسعة خيال منشئيها والقائمين عليها، وقدرتهم على التفكير في أدق التفاصيل، وطرحها أمام المتعلم بأيسر الطرق، وأقصرها وصولا إلى الفهم والإدراك، ونعجب كيف استطاعوا التوصل إلى فكرتها، ولا يكون أمامها إلا إعادة استنساخها، وإنشاء مواقعنا العربية على غرارها·

وحين يتناهى إلى سمعنا خبر عن جهاز إلكتروني دقيق، يوفر علينا الكثير من الوقت والجهد في أي جانب من جوانب الحياة، نحرص بشدة على اقتنائه، والحصول عليه في أسرع وقت، حتى نستفيد من هذا الجهاز الذي كان التفكير فيه قبل عدة سنوات شيئًا يشبه الحلم، فإذا به يصبح واقعًا جميلاً، يمكننا أن ننعم بمزاياه الكثيرة بثمن قد يكون مرتفعًا في البداية، لكنه -غالبا- سرعان ما ينخفض، ويصبح متوافرًا لمعظم شرائح المجتمع، لكننا لن نفكر أبدًا في كيفية توصلهم إلى اختراع هذا الجهاز أو غيره، وسنفضّل الحصول عليه جاهزًا، بدلا من التفكير في صنع شيء يماثله، أو يتفوق عليه·

وحين نشاهد فيلمًا سينمائيًا أجنبيًا، لا نملك كذلك إلا أن نسجل إعجابنا بفكرة الفيلم، وإخراجه، وأداء الممثلين فيه، وكل التفاصيل التي تختلف درجة الاهتمام بها من مشاهد لآخر· وسنترحّم على أفلامنا العربية التي تُصرف عليها ميزانيات ضخمة، ولكنها في النهاية ليست إلا نسخًا سيئة لأسوأ الأفلام الأجنبية، في حين إن الأفلام الأجنبية الجادّة التي تلقى إجماعًا في الاستحسان الجماهيري لا تجد من يفكر في محاكاتها، أو حتى استنساخها·

إننا نشعر دائمًا أنهم يفكرون، ويبذلون جهدًا كبيرًا في التفكير ومن ثم يصلون إلى حيث نجدهم، ومن الطبيعي حين يبذل الإنسان جهدًا، في أي مجال من المجالات، أن يقطف ثمارًا تتناسب طرديًا مع مقدار الجهد الذي بذله· ولكن ماذا نفعل نحن في المقابل؟ لن أتكلم على استمرائنا لدور المستهلك السلبي، ولن أتوقف عند استنساخنا لكل ما يعجبنا في الغرب في صورته النهائية، المنقطعة عن سياقات نشأتها وتحققها، ولن آتي على ذكر التهم التي يكيلها بعضنا لبعض، مع أن معظم الذين يرمون بعضهم بالحصى يجلسون في بيوت من زجاج· كل هذا لا يعنيني الآن في سياق مقالتي هاته، ولكني سأتوقف فقط عند جانب واحد، أرى فيه تفسيرًا كافيًا لسبب جلوسنا في المقاعد الخلفية وجلوسهم هم في المقاعد الأمامية دائمًا، ومن الطبيعي أن يحكم الأمامُ الخلفَ، وأن يسيّره كيفما شاء، لأن مقاليد كل شيء بيد الأماميين، ولا عزاء للخلفيين!

سأتوقف عند طريقتنا في التفكير، وفي نظرتنا إلى الأمور الحياتية بصورة عامة، من أكثرها بساطةً وسهولة، إلى أكثرها تعقيدًا وصعوبة· إننا نفضّل غالبًا أن نجد من يفكر نيابة عنا، ونضع قناعًا لذلك مفردات مثل المساعدة، والاستشارة، والنصيحة، وغير ذلك، لكننا في الواقع نبحث عمّن يفكر نيابة عنّا، ويقرر نيابة عنّا، ثم نعلن ذلك القرار -الذي هو نتيجة تفكير غيرنا- باسمنا نحن·

هذا ما يحدث على سبيل المثال بين الأبناء والوالدين، حين يفكر الوالدان في كل ما يتعلق بالابن، فيقرران نيابة عنه نوعية طعامه، ونمط ملابسه، والأصدقاء الذين يُسمح له بصحبتهم ومرافقتهم، حتى التخصص الذي سيدرسه وسيقضي في ممارسته ما تبقى من عمره· ينشأ الابن وقد اعتاد أن يجد من يفكر ويقرر نيابة عنه، لذلك يستصعب الكثير من الطلاب والطالبات التفكير في إجابة سؤال طبيعي ومتكرر هو: ماذا تحب أن تكون في المستقبل؟ ولماذا؟ قد يقول بعضهم مباشرة: طبيب، أو مهندس، أو طيار، لمت لهذه المهن من وجاهة اجتماعية، لن تخفى على بعض الطلاب، لكنه لن يستطيع أن يعلّل إجابته، غالبًا·

كذلك يحدث الأمر نفسه، مع هذا الطالب نفسه حين يحصل على وظيفة ما عند تخرجه، إذ سيبحث عمّن يساعده في بداية عمله، وهذا وضع طبيعي، لكنه سيألف هذا الوضع، وسيظل يبحث دائما عمن يساعده، أو أنه سيكتفي بحفظ ما عليه عمله، وتأديته بشكل آلي، دون أدنى محاولة للتفكير في التغيير، أو التطوير، أو الإبداع والابتكار·

وإذا تقلّد منصبًا مهمًا سيحرص بدل المرة مرتين على أن يحافظ على هذا المنصب، وأن يثبت لمن فوقه ودونه أنه أهل له أكثر من غيره، ولكنه لم يعتد على التفكير المبدع، ولا على اتخاذ قرارات جادّة وحقيقية، لذلك سيستعين أيضًا بمن يفكر نيابة عنه، ويقرر نيابة عنه، بشكل أو بآخر، وهذا ما يجعل العمل يسير، لكنه لا يحدث تطورًا حقيقيًا، لأنه لا ينبع من ذات قلقة تبحث عن تغيير حقيقي، وتسعى إلى إحداث نقلة مهمة في تاريخ الجهة التي تعمل بها، بحيث تنقلها سنوات إلى الأمام، إنما يتم العمل بشكل سليم، وفي وقته المحدد له، وتسجل في آخر العام عدة إنجازات في رصيد هذا الشخص المسؤول، لكنها أقرب إلى الإنجازات الصورية، غير المؤثرة بشكل جذري·

يبدو لي -وهذا مجرد رأي شخصي- أننا نعمل لأن العمل واجب وطني، وهذا هو السبب الأول الذي يضعه أي عامل أو موظف في اعتباره حين يبدأ الدقائق الأولى في أول يوم له في العمل· لكن هناك أسباب ثانوية أخرى كثيرة، تختلف من شخص لآخر؛ فالعمل بالنسبة لكثيرين منا مصدر رزق، وهو بالنسبة للبعض الآخر وسيلة لسدّ وقت الفراغ الطويل والممتد، وهو بالنسبة لغيرهم شكل من أشكال الاستقلال وإثبات الذات في الأسرة والمجتمع، لكننا لا نعمل لأننا نريد أن نتطور، وأن نحدث تغييرًا جذريًا حقيقيًا في مجتمعنا·

إن العمل من أجل التطوير والنهوض بالمجتمع يتطلب منا أن ينشغل كل عامل وموظف أيًّا كانت طبيعة عمله ووظيفته آناء الليل وأطراف النهار بعمله، وأن ينكبّ كل منّا على أبحاثه ومشاريعه، وأن يقتلها بحثًا ودراسة، وأن تتضمن اللقاءات التي تجمع الزملاء والأصدقاء نقاشات حول تلك المشاريع والأبحاث، واستفسارات، وتبادل للمعلومات، وغيرها من الطرق التي تعبر عن انشغال ذهني ونفسي حقيقي بالعمل وملحقاته· لكن الواقع هو أن كثيرين من الموظفين ينشغلون عن عملهم أثناء أوقات العمل الرسمية، ويفضلون قضاء الوقت في المكالمات الهاتفية التي تغلب عليها التفاهة -وأنا هنا أتكلم من معاناة شخصية حقيقية في مؤسسات مختلفة-، أو في اللعب بالألعاب الإلكترونية المتوافرة عبر الحاسوب أو في الهواتف النقالة، أو بشرب الشاي والقهوة وأكل المكسرات أثناء الخوض في أكثر الأمور الشخصية مع بقية الزملاء حتى في وجود مراجع أو أكثر ينتظر بصبر نافد·

هذا ما يحدث في مواقع العمل، وأثناء ساعات العمل، فكيف بما يحدث خارج هذا الحيز المكاني والزماني؟ أعتقد أننا لا نزال في كثير من مجالسنا نشغل أنفسنا بتوافه الأمور، ونتناقش في أدق تفاصيل الأمور التافهة التي يجب ألا تأخذ حيزًا من تفكيرنا، ناهيك عن حواراتنا ونقاشاتنا، ولا أعرف كم نحتاج من الزمن كي نستطيع أن نشغل أنفسنا بكبريات الأمور والقضايا، وأن نترك سفسافها وتوافهها حتى نقتل القضايا الجادة والمهمة نقاشًا وبحثًا ثم نعود إليها إن بقي في الوقت متسع·

ليس هذا المقال شكلا من أشكال التغني بالغرب، ولا دعاية لما هو غربي تتضمن احتقارَ ما هو عربي، بل هذه دعوة لتغيير طريقتنا في التفكير في الحياة والعمل، وتجديد طريقتنا في تسيير أمور حياتنا البسيطة لتساعدنا في إيجاد طريقة أخرى نتعامل من خلالها مع القضايا الكبيرة· كما أنها دعوة للإفادة من منجزات الآخر، ومن الزمن الذي قضاه حتى وصل لما هو عليه الآن، ومن التجربة التي مرّ بها حتى استطاع أن يكون على الحال التي هو عليها اليوم، بحيث لا نعيد التجربة من أولها، ولا نستغرق المدة الزمنية التي استغرقها كاملة، حتى نستطيع الوصول إلى منجزات بمستوى منجزاته، لأننا نملك النموذج الذي نستطيع أن نأخذ منه ما ينفعنا، ونترك منه ما لا ينفعنا أو لا يتوافق معنا·

*جامعة الإمارات

 sunono@yahoo.com

�����
   
�������   ������ �����
الأشقاء الأشقياء
القارئة الصغيرة
الامتلاء من أجل العطاء
كيف نسكت ضوضاء نفوسنا
التفكير من أجل التغيير
تطوير العقول أو تغييرها
تطوير العقول أو تغييرها
انتقال الحذاء من القدم إلى الرأس
الكبيرُ كبيرٌ دائمًا
إنفلونزا الطيور تعود من جديد
معنى التجربة
السلطة الذكورية في حضرة الموت
الطيور المهاجرة
"من غشنا فليس منّا"
كأنني لم أعرفه من قبل
ثلاثية الحضور والصوت والكتابة
المطبّلون في الأتراح
بين الفعل.. وردة الفعل
التواصل في رمضان
  Next Page

لبنات المجتمع الكبير:
د. لطيفة النجار
الثقل الخليجي مكوناته وتداعياته:
عبدالله محمد سعيد الملا
مشروع الورقة الرابحة:
سعاد المعجل
"مظفر النواب.. وتريات ليلية":
المحامي بسام عبدالرحمن العسعوسي
مفهوم الوطنية في ميزان العقل:
فهد راشد المطيري
الديمقراطية الفرنسية والهوية الوطنية:
علي عبيد
جمعيات النفع العام في شراك الاستبداد:
فيصل عبدالله عبدالنبي
زين يسوّي فيك الصقر:
على محمود خاجه
العجز الاكتواري وصندوق التنمية:
أحمد سعود المطرود
الإصلاح والشكوك:
المهندس محمد فهد الظفيري
دروس من تقرير (فينوغراد)(2):
عبدالله عيسى الموسوي
حرّاس المستقبل:
ياسر سعيد حارب
التفكير من أجل التغيير:
د. فاطمة البريكي
دولة الرجال العربية المتحدة! :
علي سويدان