رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 27 يونيو 2007
العدد 1780

الأشقاء الأشقياء
د. فاطمة البريكي
sunono@yahoo.com

من الممكن أن يتناسى المرء مختلف الروابط الثابتة والمتغيرة التي يمكن أن تربطه بالآخرين· وهؤلاء الآخرون ربما كانوا ذات يوم من أقرب المقربين إليه، لكنهم لتغير القوى وتبدل المصالح أصبحوا أبعد الناس عنه· لكن الذي لا يمكن أن يكون ـ وفق الحسابات العقلية والمنطقية فقط ـ هو أن يتناسى المرء رابطة الإنسانية، وأن يتجرد من مشاعره وأحاسيسه تجاه أخيه الإنسان، فيستسهل ذبحه كما تُذبح النعاج، ويستسهل إلقاءه من علو خمسة عشر طابقًا مكتوف الأيدي والأرجل ليواجه مصيرًا يصعب علينا تصوره ذهنيًا فقط، فكيف يمكن تصور حدوثه واقعيًا!

لقد فاقت أفعال الإنسان - الذي أصبحت كلمة الإنسان كبيرة عليه- كل حسابات العقل والمنطق، وربما هبطت دونهما، لم يعد اتجاه حركتها مهمًا أمام سيول الدماء التي تجري في جهات العالم العربي الإسلامي الست، في اتفاق زمني غير مسبوق·

الأشقاء في فلسطين يتناحرون، ويقتل بعضهم بعضًا دون أن يهتز لهم طرف، ولا يوجد سبب حقيقي يمكن أن يقبل به عقل ليبرر هذا التناحر والتقاتل بين الأشقاء الأشقياء الذين لم يعد أحد يعرف صاحب الحق منهم من صاحب الباطل·

وليس الحال في العراق بأفضل مما هو عليه في فلسطين، والمستفيد الوحيد من الحروب الدامية التي تجري بين طرفين تجمعهما روابط كثيرة هو ذلك الطرف الذي يغذي هذه الحروب ويشعل فتيلها كلما خبا أواره، حتى يكسب الوقت في تحقيق مآربه الظاهرة والخفية في غمرة انشغال الأشقاء بحروبهم وطحنهم لبعضهم·

المثير في الأمر هو أن هذا الشعور بالألم الممضّ يرافق المقلب نظره على امتداد خارطة العالم العربي الإسلامي، وكأنها حمى اشتعلت شرارتها وانتقلت من منطقة إلى أخرى مع سابق إصرار وترصد، فهي تأبى أن تخبو أو أن تنطفئ إلا بعد أن تقضي على أخضرنا ويابسنا، أو بعد أن تُصبغ كل الأراضي العربية باللون الأحمر ـ بحسب تعبير الشاعر إسلام شمس الدين ـ·

لقد ورث جيلي حديثَ الآباء وبعض الأجداد عن نكبة فلسطين، وعن الآمال التي كانت معلقة حول إمكانية استعادتها من أيدي المغتصبين، ثم تَبَخُّر تلك الآمال يومًا بعد يوم، حتى أنها لم تعد تُذكر، على الرغم من تزايد العنف "الإسرائيلي" وتمادي جنود الاحتلال في عدوانهم على الشعب الفلسطيني الأعزل، ووقوف العالم العربي والمجتمع الدولي موقف المتفرج، وكأن الأرواح الإنسانية في تلك البقعة من العالم رخيصة أو مجانية· وقد كانت اندلاعة الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987م) رد فعل طبيعي على الوضع الداخلي في فلسطين آنذاك·

حين انطلقت الانتفاضة الفلسطينية وقف الجميع معها وآزرها، ورأى أنها تمثل أبسط حق من حقوق الشعب المغلوب على أمره، والمحروم من مجرد الدفاع عن نفسه ضد الظلم والعدوان اللذين يلقاهما من القوات "الإسرائيلية" المتغطرسة· لكن هذه الانتفاضة انحرفت عن مسارها، واتخذت لها من صدور الإخوة أهدافًا توجه نحوها نيران حقدها· والغريب هو أنها تستطيع أن تصيب أهدافها بمهارة حين توجه سهامها لصدور الإخوة، في حين أنها كانت تصيب أحيانًا وتخيب غالبًا حين كانت توجهها إلى صدور الأعداء؛ فيالشقاء الأشقاء، ويا لسعادة الأعداء بهؤلاء الإخوة الأعداء!·

أذكر أننا في أيام الانتفاضة الفلسطينية الأولى ـ حين كنتُ طالبة على مقاعد السنة الأولى من المرحلة الإعدادية ـ كنا نقف في طابور الصباح وننشد الأناشيد الحماسية التي تشعرنا أننا نؤازر الشعب الفلسطيني المنتفض وجدانيًا على الأقل، حتى إن كانت تفصل بيننا وبينه الحدود الجغرافية وغيرها؛ فالمهم هو أن الحدود النفسية لم تكن موجودة، وكنا نشعر أننا نحارب معه بأرواحنا، ونلقي معه الحجارة يدًا بيد·

لقد كنا في السابق نعاني جرحًا واحدًا، وهو جرح فلسطين الذي أدمى قلوبنا منذ ما ينيف على النصف قرن· وقد كانت مصيبتنا ـ ولا زالت ـ في فلسطيننا كبيرة، ولكنها تهون إذا ما فكرنا في أن تلك الدماء العربية الفلسطينية كانت تسيل على أيدٍ غير عربية وغير مسلمة· أما الآن فإن مصيبتنا قد طرأت عليها تغييرات مهمة، منها اتساع رقعتها المكانية وتعددها، ومنها أيضًا ـ وهذا هو الأهم ـ اختلاف اليد المسيلة للدماء من يد عدو حقيقي، إلى يد أخ يشبه العدو وهو ما يجعل الألم الناتج عن كل ما يأتي منه مضاعفًا·

لقد كانت نكبتنا واحدة، ونكستنا واحدة، ومع هذا فقد أورثنا الجيلُ السابق تاريخًا مليئًا بالآلام الحمراء، والذكريات السوداء· وحين أفكر في أجيال اليوم، وأتساءل عن حقيقة معرفتها بما يدور حولها من مآس، أرجّح أنها لا تعرف شيئًا، لأنها تعودت على منظر الدماء التي تسيل فلم تعد تبالي بها، والأمرّ من ذلك أنها توشك أن تعتاد على منظر الأخ يقتل أخاه، أليست العادة هي بنت التكرار؟! وأليس هذا هو ما يحدث في مختلف زوايا العالم العربي والإسلامي يوميًا بدعاوى وحجج تختلف في ظاهرها قليلا، وتتفق في باطنها كثيرًا؟

إن الأجيال الحالية ترى الأخ يقتل أخاه في فلسطين، وفي العراق، وفي لبنان، وفي اليمن، وفي السودان، وفي الصومال، وفي أفغانستان، وفي غيرها، ولا نعرف أين سيكون الموقع القادم في خارطة حمراء تتسع بتسارع مخيف· وإنه لمن المتوقع تمامًا أن تنشأ الأجيال الحالية والقادمة من أبنائنا وهي على قناعة تامة بأن الطبيعي هو أن يقتتل الناس، والطبيعي أكثر أيضًا هو أن يلقى شخص حتفه على يد أخيه، لا على يد عدوه، الذي لم يعد محتاجًا اليوم إلى أن يلون يديه بلون الدم حتى يكسب، ما دام الآخرون يتكفلون بإيصاله إلى مآربه دون أن يبذل مجهودًا يُذكر·

اللافت للأمر هو أن حجة الدين والإسلام وشعاراتهما تتردد في خطابات معظم الأطراف المتناحرة على اختلاف مواقعها الجغرافية، وعلى اختلاف مصادرها ومواردها، وكأنه أصبح الشماعة التي يحب المتناحرون تعليق أفعالهم عليها، ليقينهم أن تأثيره على السواد الأعظم من الناس أكبر من غيره، وليس مهمًا ـ في سبيل تحقيق أهدافهم الشخصية والوصول إلى أطماعهم الخاصة ـ تشويه صورة الدين، أو السير على جثث إخوانهم باسم الدين، أو توقف الحياة بالنسبة لمن يخالفونهم الرأي والتوجه باسم الدين أيضًا، وكأن الدين قطعة صلصال يشكلها كل طرف وكل حزب كما يحب ويشتهي·

كيف يمكن لعاقل أن يفهم ما يحدث في البقاع الدامية من الجسد العربي الإسلامي، وكيف يمكن أن يفسره سوى أنه ارتداد نحو البهيمية التي تفقد الإنسان معاني إنسانيته، وتجعله أقرب إلى تلك الكائنات التي تسير على أربع، ولا همّ لها سوى أن تضمن لنفسها الحياة، حتى إن اضطرت في سبيل ذلك للقضاء على غيرها تحت أي ستار، أو ربما دون ستار·

* جامعة الإمارات

 sunono@yahoo.com

�����
   
�������   ������ �����
الأشقاء الأشقياء
القارئة الصغيرة
الامتلاء من أجل العطاء
كيف نسكت ضوضاء نفوسنا
التفكير من أجل التغيير
تطوير العقول أو تغييرها
تطوير العقول أو تغييرها
انتقال الحذاء من القدم إلى الرأس
الكبيرُ كبيرٌ دائمًا
إنفلونزا الطيور تعود من جديد
معنى التجربة
السلطة الذكورية في حضرة الموت
الطيور المهاجرة
"من غشنا فليس منّا"
كأنني لم أعرفه من قبل
ثلاثية الحضور والصوت والكتابة
المطبّلون في الأتراح
بين الفعل.. وردة الفعل
التواصل في رمضان
  Next Page

اصحوا يا نايمين:
د. بهيجة بهبهاني
دعوة دعارة:
على محمود خاجه
حركات وأحزاب مسلحة:
المحامي نايف بدر العتيبي
ماذا بعد عودة الأموال؟:
فيصل عبدالله عبدالنبي
لماذا يحصل لنا كل هذا؟:
محمد بو شهري
رأينا في نوابنا:
أحمد سعود المطرود
الباعة المتجولون:
المهندس محمد فهد الظفيري
قضيتنا وقضيتهم:
عبدالله عيسى الموسوي
الأشقاء الأشقياء:
د. فاطمة البريكي
أعاصير من نوع آخر:
علي عبيد
حين يميل الميزان:
د. لطيفة النجار
من يدفع ثمن الصراع؟:
د. محمد عبدالله المطوع