رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 السبت 9 رجب 1424 هـ - 6 سبتمبر 2003
العدد 1593

في خطبة صريحة لوداع السياسة والعودة للثقافة
هافيل: كنت متردداً ·· خائفاً ·· و فقدت الثقة في نفسي!
حمد عبد العزيز العيسى

 

ألقى فاتسلاف  هافيل الخطبة التالية في نيويورك في سبتمبر 2002 بمناسبة آخر زيارة له للولايات المتحدة الأمريكية كرئيس لجمهورية تشيكيا· ولد الكاتب المسرحي هافيل في براغ عام 1936، عرضت مسرحيته الأولى "حفل الحديقة" التي سخر فيها من النظام الشيوعي الشمولي في 1963· منعه القادة الشيوعيون عام 1969 من ممارسة عمله ككاتب و محرر بعد قمع إصلاحات ربيع براغ عام 1968، و اضطر للعمل كعامل يدوي في مصنع بيرة· قاد حركة سلميّة عُرفت بالثورة المخملية ضد الحزب الشيوعي و سجن لسنوات عدة· انتخب رئيسا لتشيكوسلوفاكيا في 1989 بعد انهيار النظام الشيوعي رغم أنه لم يكن سياسياً مخضرماً بل رجل أدب و فن· انتخب رئيسا لجمهورية تشيكيا في 1993 بعد تقسيم تشيكوسلوفاكيا و أعيد انتخابه مرة أخرى في 1998· انتهت مدة رئاسته الثانية و الأخيرة في فبراير 2003، و تقاعد عن العمل السياسي· كتب العديد من المسرحيات و الأعمال الأدبية قبل انتخابه رئيساً· حصل على تسع شهادات دكتوراه فخرية· نشرت هذه الكلمة مترجمة من التشيكية إلى الإنجليزية في مجلة The New York Review of Books في 24 أكتوبر 2002·

 

الخطبة:

مازلت أذكر جيدا الحفل التكريمي الذي أقيم لدى وصولي إلى نيويورك في فبراير 1990 بصفتي رئيس تشيكوسلوفاكيا المنتخب حديثا آنذاك· بالطبع، لم يكن ذلك الحفل لتكريم شخصي فقط، و لكن كان تكريماً من خلالي لكل المواطنين في بلدي الذين تمكنوا بواسطة ثورة سلمية من إسقاط نظام حكم مستبد، و كان تكريماً لكل الذين قاوموا معي أو قبلي هذا النظام بوسائل سلميّة· الكثير من محبي الحرية في العالم اعتبروا انتصار الثورة المخملية التشيكوسلوفاكية أملاً رائداً من أجل عالم أكثر إنسانية، عالم يمكن أن يكون للشعراء فيه صوت مسموع مثل صوت أصحاب البنوك·

اجتماعُنا اليوم، الذي لا يقل حميمية، يقودني إلى تساؤل منطقي: هل تغيرتُ بسبب الرئاسة خلال ثلاثة عشر عاما تقريبا؟ و هل غيرتني التجارب الهائلة التي عشتها خلال فترة رئاستي التي تزامنت مع اضطرابات عالمية كبرى؟

وعند محاولة الإجابة عن هذا التساؤل اكتشفتُ شيئا مذهلا، رغم أنه من المتوقع أن تكون هذه التجربة الغنية قد أعطتني الكثير من الثقة بالنفس، فإن العكس هو الصحيح، في فترة رئاستي هذه أصبحت أقل ثقة في نفسي بصورة كبيرة، و متواضعاً أكثر من ذي قبل· قد لا تصدقون ذلك، و لكن كل يوم يمر كنت أعاني من رهبة الجماهير، كل يوم أصبح أكثر خوفا أن لا أكون أهلا لعملي، أو أني سوف أشوه صورة الرئاسة· كل يوم تصبح كتابة خطبي أكثر صعوبة، و عندما أكتبها أكون خائفا جدا من تكرار نفسي· كنت خائفاً من الفشل الذريع في تحقيق التوقعات، و من أن أكشف عدم وجود خبرة لدي للرئاسة، و من أني - رغم نيتي الحسنة - سوف أرتكب أخطاء لا مثيل لها، ومن أن أصبح غير جدير بالثقة و بالتالي أفقد الحق في ممارسة الرئاسة·

وبينما الرؤساء الآخرون يبتهجون في كل فرصة يقابلون بعضهم أو أشخاصاً آخرين مهمين أو يظهرون في التلفاز أو يلقون خطبا، فإن كل هذه الأمور تجعلني أكثر خوفا، في بعض الأحيان كنت أتفادى عمدا الفرصة ذاتها التي ينبغي أن أرحب بها بسبب الخوف غير المنطقي من أني سوف أُفسد هذه الفرصة و ربما أضر القضية التي أسعى من أجلها· باختصار، أصبحت متردداً أكثر و أكثر حتى في أموري الشخصية، و كلما زاد عدد أعدائي، أصبحت في صفهم أكثر داخل عقلي، و بذلك أصبحت أسوأ عدو لنفسي·

كيف يمكن أن أشرح هذا التغير، الذي كان غير محتمل، في شخصيتي؟ ربما أفكر في الجواب بعمق أكثر عندما لا أصبح رئيسا، و هذا سيحدث في فبراير 2003، عندما يكون عندي وقت بعد انسحابي و ابتعادي عن السياسة و الحياة العامة، و أصبح إنساناً حراً تماما مرة أخرى، عندها سأكتب شيئا غير الخطب السياسية· أما الآن، اسمحوا لي أن أقترح سببا من أسباب عديدة لهذا التغير في شخصيتي· عندما أتقدم في العمر و أصبح أكثر نضجا و أكتسب خبرة و فكر أعمق، بدأت أفهم تدريجيا مقدار مسؤوليتي و الالتزامات الغريبة المصاحبة للعمل الذي قبلته، و كذلك فإن الوقت يقترب من دون رحمة من اللحظة التي لا يقوم فيها العالم و الذين حولي و - الأسوأ - ضميري بسؤالي عن أهدافي و مبادئي، و ماذا أريد أن أحقق، و كيف أريد أن يتغير العالم، بل سيبدؤون بسؤالي ماذا فعلت عمليّا، و أي من خططي حققت و ماذا كانت النتائج، و ماذا أريد أن يكون ميراثي السياسي، و ما طبيعة العالم الذي سأتركه خلفي، و هكذا أجد الاضطراب الروحي و الفكري نفسيهما اللذين أجبراني على تحدي النظام الشمولي السابق و دخول السجن يتسببان في أن يكون عندي شكوك قوية في قيمة عملي الذاتي، أو إنجازات الأشخاص الذين عينتهم و جعلت نفوذهم ممكنا·

كنت عندما أستلم شهادات دكتواره فخرية في الماضي و أستمع إلى الخطب التي تمجدني في هذه المناسبات أضحك داخل نفسي على كوني في أكثر هذه المناسبات أصبحت مثل بطل قصة أسطورية، مثل شاب يضرب، باسم الحق و الخير، برأسه حائط قلعة يسكن فيها ملك شرير حتى يسقط الحائط و يصبح هو بدوره ملكا عادلا لسنوات طويلة· لست أستهين بهذه المناسبات، فأنا أقدّر جميع شهادات الدكتوراه الفخرية التي حصلت عليها و شعرت بتأثر شديد في كل مناسبة·

ذكرت هذا التشبيه الطريف نوعا ما لهذه الأشياء لأني بدأت أفهم الآن كيف أن كل شيء كان فخاً شيطانياً نصبه القدر لي· لقد نُقلت بين يوم و ليلة إلى عالم الأساطير، ثم في السنوات التي تلت ذلك اضطررت للعودة إلى الواقع و إلى فضيلة معرفة أن عالم الأساطير هو مجرد وهم إنساني و أن العالم ليس مشيدا على نمطها·

و هكذا من دون أن أحاول أن أكون ملكاً أسطورياً، و بالرغم من أني وجدت نفسي مجبرا عمليا على منصبي من خلال مصادفة تاريخية كذلك، لم أُمنح أية حصانة دبلوماسية من السقوط الموجع على أرض الواقع الصلب ·· سقطت من عالم المتعة الثورية الأسطوري إلى عالم الرتابة "البيروقراطية" الواقعي·  أرجو أن تفهموني جيدا: أنا لا أعني مطلقا أني خسرت المعركة، و أن كل شيء كان عقيما، على العكس، العالم و الإنسانية و الحضارة يمرون في أهم تقاطع في تاريخهم، لدينا فرصة أكبر من أي وقت مضى لفهم وضعنا و تناقضاتنا، و أخذ قرار في مصلحة العقل و السلام و العدل و ليس لمصلحة تدمير أنفسنا·

لكي نسير في طريق العقل و السلام و العدل نحتاج إلى الكثير من التأمل و المعرفة و العمل الشاق و إنكار الذات و الصبر و الاستعداد لمخاطرة سوء الفهم من الآخرين· و في الوقت نفسه نحتاج أن يعرف كل شخص طاقته و يعمل بمقتضاها، متوقعا أن قوته ستزيد أو تنقص بموجب المهام الجديدة التي وضعها لنفسه· بعبارة أخرى، لن يكون هناك اعتماد على الأساطير، و لن يكون هناك اعتماد على مصادفات التاريخ التي ترفع الشعراء إلى أماكن إمبراطوريات و جيوش سقطت و زالت· أصوات الشعراء التحذيرية ينبغي أن يُصغى إليها بعناية و جديّة ·· ربما بجديّة أكبر من أصوات أصحاب البنوك و سماسرة الأسهم· و لكن في الوقت نفسه، لا يجب أن نتوقع أن العالم عندما يحكمه الشعراء سوف يتحول إلى قصيدة·

ورغم كل ما ذكرته، فإن هناك شيئاً واحداً أنا متأكد منه دون ريب: بصرف النظر عن أدائي للدور الذي أُعطي لي، و بصرف النظر عن كوني أُريده في المقام الأول أو حتى أستحقه أم لا، و بصرف النظر عن مقدار رضاي الشخصي، أنا أعتقد أن رئاستي كانت هبة رائعة من القدر· على الأقل، حصلت على فرصة لأساهم في أحداث تاريخية خلال متغيرات عالمية كبرى· و هذه الفرصة العظيمة كانت - من دون شك - تستحق كل الفِخَاخ المنصوبة بخفية داخلها·

والآن، اسمحوا لي أن أحاول أن أبتعد عن نفسي و أقدم صياغة لثلاثة من يقينياتي القديمة التي تأكدتُ منها خلال فترة رئاستي:

أولا: لكي تنجو الإنسانية و تتجنب كوارث جديدة، فإن النظام السياسي العالمي يجب أن يصاحبه احترام صادق و متبادل بين جميع الحضارات و الثقافات و الدول، و أن يصاحبه جهود صادقة من الجميع للبحث و العثور على المبادئ الأخلاقية الأساسية المشتركة، و بالتالي مزجها في قواعد عامة تحكم تعايشهم في هذا العالم وثيق الاتصال·

ثانيا: يجب مواجهة الشر في مهده، و يجب استعمال القوة إذا لم يكن هناك خيار آخر· و إذا كان لا بد من استعمال الأسلحة المتطورة و المكلفة جدا، فيجب أن تستعمل بطريقة لا تضر بالسكان المدنيين، و إذا كان ذلك غير ممكن، فإن المليارات التي صرفت على هذه الأسلحة تكون قد ضاعت هدرا·

ثالثا: إذا فحصنا كل المشاكل التي تواجه العالم اليوم، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو بيئية أو حضارية فإننا سوف نواجه - شئنا أم أبينا - إشكالية تتعلق بالعمل الواجب اتخاذه، هل هو مناسب و مسؤول من وجهة النظر العالمية بعيدة المدى أم لا؟ للجواب عن هذا السؤال لا بد من مراعاة المحاور الأساسية و العالمية التالية: النظام الأخلاقي، و حقوق الإنسان و الضمير الإنساني و الفكر المنبثق عن هذه المحاور و الذي لا يمكن إخفاؤه خلف ستار من الكلمات المنمقة و النبيلة· أصدقائي الأعزاء: عندما أنظر حولي و أرى أشخاصاً كثيرين مشهورين يبدون كأنهم هبطوا من مكان ما في السماء العالية، لا أستطيع مقاومة الشعور أني في نهاية سقوطي الطويل من عالم قصة أسطورية إلى الواقع الصلب، أجد نفسي مرة أخرى داخل قصة أسطورية· ربما الفارق الوحيد هو أني أدرك هذا الشعور أكثر مما كنت أقدر عليه في ظروف مشابهة قبل ثلاثة عشر عاما·

 

ü  كاتب من السعودية

hamadalisa@yahoo.com  

�����
   
�������   ������ �����
 

في خطبة صريحة لوداع السياسة والعودة للثقافة
هافيل: كنت متردداً ·· خائفاً ·· و فقدت الثقة في نفسي!:
حمد عبد العزيز العيسى
آفاق ورؤية:
د.عبدالمحسن يوسف جمال
بعد أن جيرتها السلطة لصالح مشروعها
تفعيل مؤسسات المجتمع المدني يعيد التوازن للساحة السياسية:
ناصر يوسف العبدلي
حقوق الإنسان في مجال إقامة العدل:
المحامي د.عبدالله هاشم الواكد
هل تنفع معهم الثنائية؟
الإشكال في النقد الثنائي للفكر السياديني:
خالد عايد الجنفاوي
الشتات العربي:
أ.د. إسماعيل صبري عبدالله
التنمية الثقافية في الكويت:
يحيى الربيعان
العراق والكويت: ماذا بعد؟:
عامر ذياب التميمي
الموت الإكلينيكي:
عبدالله عيسى الموسوي
ندوة لندن وتداعياتها
"سقوط الأقنعة":
عبدالمنعم محمد الشيراوي
سياسة "خذوه فغلوه" تجاه الگويتيين البدون!!:
د. جلال محمد آل رشيد
حملة انتخابية مستمرة:
المحامي نايف بدر العتيبي
محاكمة المجرمين العراقيين الصداميين ضرورة إنسانية وقانونية وأخلاقية:
حميد المالكي