يعتبر الدستور اللبنة الأهم في بناء الدولة وبوصلة المجتمع والناظم الأهم لعلاقاته ولذلك فهو بمثابة السلطة العليا للأدلة التي يعتمد عليها الشعب لضمان استقراره ولكي يكون دوره فعالا في تقدم المجتمع يجب أن يكون كوثيقة ثابتة حتى لا يتمكن الفرد أو الأكثرية الموقتة أن تعبث به، وحتى يضمن الدستور ديمومته يجب أن تتوافر فيه الشروط التالية حسب رأي الدكتور ميشيل متياس أستاذ الجماليات بجامعة ولاية مسيسبي، أولا: أن يعبر عن قيم وطموحات الأمة ككل، وثانيا: تحدد فيه الهوية القومية·· وثالثا: أن يكون دعامة الاستقرار السياسي، وبالعودة الى الدستور العراقي ومقارنته بهذه الشروط نراه قد ابتعد كثيرا عن عوامل الاستقرار بل أصبح عامل فتنة وانقسام لعدم مقدرته على التعبير عن طموحات وآمال المجتمع ككل وقد غيب الهوية القومية عمدا واستبدلها بالانتماءات العرقية والمذهبية، والأهم من هذا وذلك أنه شرع بإشراف الحملة الديمقراطية الأمريكية وربما حمل جاهزا من إدارتها ليكون أنموذجا للدستور الأوسطي المراد تعميمه على المنطقة باعتبار أن أرضيتنا الآن عالية الخصوبة وقابلة لاحتضان أي مشروع يعيد رسم الخريطة ويشكلها حسب المصالح الخارجية·
بلا شك إن الحراك الذي تشهده الساحة العراقية بعد الاحتلال وصدور مسودة الدستور يعكس حالة الانقسام والتشرذم بين مكونات المجتمع بسبب رواسب الاستبداد وإفرازات ثقافة الاحتلال اللتين ساهمتا في تفكيك بنى المجتمع باعتبار الأولى راكمت والثانية فخخت مما أضعف الأمل بردم أي هوة تبعد المسافات·
خطوط التجزئة وغياب الهوية المعالم الأوضح في هذا الدستور بهدف إرساء قواعد تقسيمية تحت مسمى الفيدرالية تستند الى العرق والمذهب والطائفة وكأن مشكلة العراق في تنوعه وليست في الاحتلال، والمرحلة الحالية القطبية الاتجاه حادة في فرض أجندتها على المنطقة، وهذه الأجندة يوضحها لنا بكل أبعادها الاستراتيجية السيد مايكل هدسون رئيس قسم الدراسات العربية بجامعة جورج تاون في محاضرة له بدمشق بقوله (واشنطن ترى في القومية العربية تهديدا لمصالحها ولذلك فهي تشجع الأنظمة غير القومية، وترفض التعامل مع العرب لكتلة متجانسة)·
بالطبع إن السلوك الأمريكي في المنطقة يؤكد صدقية السيد هدسون، فالنفس العدائي للقومية العربية ولأي مشروع قومي حضاري تعددي هو مشروع بحد ذاته ولذلك دأبت هذه السياسة على الوقوف بجانب أي نظام يساهم في إضعاف هذا الشعور وتحت أي مسمى كان ليتسنى لها فرض مشروعها الأوسطي الجديد واختارت العراق كمدخل لأهمية موقعه ولقابليته بعد السقوط لامتصاص أي فكرة تبعد عند شبح الاستبداد ولو على حساب هويته إضافة الى تنوع مكوناته التي افترقت بفعل عدوانية الأداء السلطوي والذي مورس باسم القومية ولكن تحت مظلة القطبية الجديدة وسورية ولبنان الركيزتان لتشابه أوضاعهما بالعراق إضافة الى إصرار النظامين فيهما على عدم المراجعة النقدية لتحصين الداخل مما سيجعلهما مهدا للولادة الأوسطية الجديدة، وهذا ما يفسر الضغط العالمي على العراق لفرض الدستور دون إعطاء أي فرصة للمراجعة والتوافق وأيضا التمسك بقوة لتنفيذ القرار 1559 لوأد بذرة المقاومة وإثارة ما يمكن إثارته في الفسيفاء اللبنانية القابلة للاشتعال دائما مع حصار النظام السوري مهما قدم من شهادات حسن السلوك·
الاستهانة بما يخطط لمنطقتنا سيزيد الوهن ويرفع التكلفة، وها نحن نرى ما يدفعه العراق سابقا وحاليا من أثمان وإن كانت فاتورته الآن هي الأغلى في حياته لأنها تستهدف وحدته وهويته، والتيقظ ضرورة ولا تأخذنا رواسب الاستبداد الى حد قبول الطرود الخارجية والملغمة بالجمرة الخبيثة، فالديمقراطية فكر القبول ووعاء الاستيعاب وجذر الانتماء وخيارها دون وصاية خارجية الضمان الأهم لوحدة وتقدم الشعوب، وهذا الخيار يحفزنا لمقارعة الطغيان ورفض كل أشكال الزيف الديمقراطي وكل الدساتير المستوردة حتى يكون لنا مكان تحت الشمس· |