تعتبر التنمية الركيزة الأساسية لبناء المجتمعات والمحطة الأهم لنهوضها وتنامي معرفتها وترسيخ وجودها·· ولكي تمضي قدما في الارتقاء لابد من تكامل عناصر النجاح لديها بجوانبها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية·· وأي اجتهاد يستبعد أو يهمل أحد هذه الجوانب وتحت أي مسمى يصيب التنمية بالإعاقة وتصبح الخطط مجرد هدر للوقت والجهد وفي أحسن الأحوال تخرج مصابة بالشلل النصفي·
الوعي التنموي شرط لازم للنجاح وتناميه يعني بالضرورة توافر مناخ من الحرية يحقق ارتفاعا في منسوب المخزون الثقافي والمعرفي بهذه اللجنة أو تلك الأداة المناط بها مسؤولية البناء والتطوير حتى يتضح على الأقل الدور والمهام المكلفة بها·· وأي أهمية يُعلق على دورها؟·· والتعثر الإنمائي العربي إن لم نقل غيابه هو نتيجة طبيعية لقصور هذا الوعي بسبب التسلط وخواء المخزون لأن أغلب النخب الحاكمة جاءت من ذهنية الاستيلاء وليس من ثقافة الإبداع·· وهذه الذهنية تعتبر خصما عنيدا للمعرفة والتطور لأن المحافظة على ثبات هياكلها مهما تآكلت أهم مقوماتها·· وهذا ما أعفاها من البحث ومن متابعة الشأن العام·· ولذلك جاءت كل خططها ونواياها الإنمائية داعمة لفلسفة الحكم ونظرية البقاء·· ومن هذه الذهنية أطلّ علينا مسؤول بدرجة نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية في سورية متحدثا في اللقاء الشهري لمجتمع الأعمال الذي نظمته مجلة الاقتصاد والنقل بدمشق عن خطط التنمية مجمل المواضيع الاقتصادية ومما جاء في حديثه عن التنمية وحقوق الإنسان بقوله (حقوق الإنسان هي حق التعلم والصحة ومياه الشرب والصرف الصحي وليس حق التظاهر والأحزاب) وانتقد بشدة أرقام الفقر المرتفعة والتي أوردتها مجلة الغربال بقوله أيضا "إن الناس تأكل وتشرب وما حدا عما يموت من الجوع"·
لا نجد جديدا في الكلام فالإناء ينضح بما فيه·· والثقافة مرآة العقل وهكذا تصريحات تعكس هذه الثقافة التي أخذت حظها كثيرا في أنابيب اختبار الحكم ووصلت لقرابة أربعة عقود ولكنها لم تنتج سوى الفقر والبطالة والفساد·· ولكنها نسيت أو تناست أن المشكلة ليست بكفاءة الفرد أو بطموح مجموعة أو وجود ثقب من هنا أو فتحة من هناك وإنما بالهيكلية العامة للنظام الذي يأبى أن يحدث تغييرا سوى بالشكل، متجاهلا جدلية العلاقة بين السياسة والاقتصاد·
الإقرار ببعض حقوق المواطنة كالتعلم والصحة والماء والهواء فضيلة تحسب للسيد نائب رئيس الوزراء لأنه قلما نجد مسؤولا يعترف بالمواطن أصلا، ولكنه في المقابل أنكر باقي حقوقه السياسية انسجاما مع أدبيات الثقافة السائدة، أي أنه أجاز الحق وأنكر المطالبة به ولم يعطنا الضمانة التي أجازها الدستور في المادة 39 منه حيث أعطت الحق بالتظاهر بما آثار في نفوسنا الريبة والشك في المصداقية لأن بداية القصيدة انتقاء وتجاوز·· ناهيك عن الشك في إمكانية تحقيق نبوءته في التحول المجتمعي الكامل والتحول الجذري في الاقتصاد بعيدا عن الشفافية وعن أي محاولة لترميم الانهيارات الداخلية التي خلفتها الشمولية في ظل المادة الثامنة من الدستور السوري والمتعلق بقيادة البعث للدولة والمجتمع والتي تعتبر العقبة الكأداء لأي نمو في المجتمع··
يا سيدي احترم صدق نواياك ورغبتك في التطوير والإصلاح ولكن التنمية هي أولا فكر وثقافة ومن ثم منظومة قوانين وتشريعات ولا يمكن الفصل بين عناصرها الثلاثة والتي تشكل أعمدة البناء·· أما تقليلك من حجم الفقر واتساعه في الوطن بقولك (ما حدا عما يموت من الجوع) فهذا يؤكد حاجتنا الماسة الى الحريات لبناء دولة المؤسسات بسبب مقدرتهاعلى تصوير الواقع بوضوح معقول ليستطيع المسؤول من خلالها معرفة ما يجري على الأرض·· وعندها تصبح تصريحاته وتحليلاته منطقية بعض الشيء وقريبة من الحدث بل أقرب للتحقيق·· بدل الغياب السلطوي المعيب، عن كل مفاصل الحياة·
تنمية الإنسان بداية النهوض·· ولا يعني أن نقف بانتظار ثورة ما لإحداث النقلة النوعية·· فإطلاق الحريات خطوة لا تحتمل التأجيل والاعتراف بالآخر أهم النقلات·· فهل نبدأ بهذه الخطوة ونفوّت الفرصة على الأعداء الذين يراهنون على التقوقع في إحداث الثغرات والنعرات لا أرى الضوء·· ولكن ثمة في الأفق شعاع· |