قبل أيام بثت قناة "العربية" برنامجا تحقيقيا ميدانيا مثيرا قدمت لنا خلاله نموذجا من النماذج الإنسانية المشرفة، وهو لامرأة نذرت نفسها لتكريس حياتها للتضامن مع قضايا الشعوب المضطهدة والدفاع عن المظلومين في العالم، والنضال من أجل السلم العالمي ومناهضة الحروب على طريقتها الخاصة·
هذا النموذج تمثله سيدة إسبانية تألمت بشدة للأهوال والمآسي التي تنكب بها شعوب كثيرة في العالم من ضحايا السياسات الأمريكية على وجه الخصوص ومن ضمنها الشعوب العربية وفي المقدمة منها الشعبان الفلسطيني والعراقي·
هذه السيدة ألا وهي باتشيتو كانت في الأصل تعمل في بعثة بلادها في الأمم المتحدة ثم انتقلت للعمل في جهاز المنظمة الدولية، ولأنها بحكم عملها وثقافتها العامة ومتابعاتها السياسية لأحداث العالم على إلمام بما يدور فيه من أحداث جسام بما في ذلك أحداث وقضايا منطقتنا العربية فقد تأثرت إنسانيا للفظائع والبشاعات التي تعرض إليها الشعبان الفلسطيني والعراقي من جراء السياسات والممارسات الإسرائيلية والأمريكية تجاه هذين الشعبين، وقررت أن تختتم ما تبقى من حياتها والى الأبد من أجل الدفاع عن قضايا الشعوب المظلومة ومن ضمنها هذان الشعبان، ومن ثم التضامن معهما بكل الوسائل والإمكانات الممكنة جنبا الى جنب مع فضح وتعرية السياسات والجرائم الأمريكية والتنديد والتشهير بها عبر كل الأشكال الممكنة المتوافرة لديها، أما الأسلوب الذي ابتكرته لمواجهة السياسات الأمريكية فهو رغم بساطته إلا أنه غاية في التأثير وينم عن جرأة وجسارة لديها لأنه يشكل قمة التحدي والاستفزاز لسادة البيت الأبيض حيث مقر صنع القرار السياسي الأمريكي، ويتمثل هذا الأسلوب في أنها اتخذت من فناء واجهة البيت الأبيض الخارجية أي على مقربة جدا من أسواره معسكرا لها طوال النهار تعرض خلاله على زائري البيت أو المارين به من عابري السبيل شعاراتها المنددة بالسياسات والممارسات الأمريكية المتسببة في تلك الحروب المدمرة والجرائم التي ترتكب خلالها بما في ذلك التي ارتكبت في العراق فضلا عن الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، وتعزز هذه الشعارات التنديدية بشواهد من الصور الحية لكل تلك الفظاعات التي تهز وجدان المشاهد، بل إنها حرصت على توثيق كل الصور التي تسجل آثار اعتداءات قوات الأمن الأمريكية على جسدها من ضرب الهراوات وبقنابل الغاز حينما تعرضوا لها ولمعرضها مرات كثيرة لإجبارها على إخلائه لكنها تصر بعناد على معاودة إقامته واعتصامها بالقرب من البيت الأبيض علما بأنها استمرت على هذه الحال منذ 21 عاما حتى نجحت في فرض نفسها على المكان·
وحينما سألها معد البرنامج عن رأيها في شارون صمتت لبرهة محتارة في كيفية الرد ثم ابتسمت ابتسامة ساخرة معبرة ثم ضحكت ووصفته بأنه شرير للغاية وبينت الجرائم والمذابح التي ارتكبها بحق الفلسطينيين، كما انتقدت دوره في انتشار الاستيطان بالأراضي الفلسطينية المحتلة·
وعندما سئلت عن الرؤساء الأمريكيين قالت باختصار "كلهم فاسدون" وتحديدا بدءا من كارتر - الذي ربما بدأت به لأنها عاصرت سياساته منذ قدومها الى الولايات المتحدة - وانتهاء بالرئيس الحالي جورج بوش·
وإذا كان ثمة من مغزى لتجربة هذه السيدة المناضلة الفريدة من نوعها فإنها ترينا كم يزخر عالمنا بالنماذج الإنسانية المشرفة على اختلاف دياناتها وانتماءاتها لتقدم كل ما تملك من إمكانات بسيطة مؤثرة في دعم قضايا الشعوب العادلة وهي نماذج لا تنحصر في دين أو شعب بذاته·
أما المغزى الآخر لهذه التجربة فإنها ورغم ما تعرضت له من مضايقات واعتداءات، ورغم كل سلبيات وثغرات الديمقراطية الأمريكية إلا أن هذه السيدة الإسبانية تمكنت من فرض وسيلتها النضالية على سادة البيت الأبيض، فهل كان لها أن تنجح في فرض هذه التجربة أمام أي قصر جمهوري أو "غير جمهوري" لأي نظام استبدادي أو حتى شبه ديمقراطي في العالم، بل من يجرؤ على مجرد التفكير في محاكاة هذه التجربة ببلداننا العربية؟ |